الموشحات فن أندلسي
الموشحات فن أندلسي أضاف للتراث الأدبي العربي ضربا من المتعة والتجديد والحيوية.
هي شعر موسيقاه أعلى من موسيقى الشعر العادي، قوافيه متعددة فتشعر أنك تغني وتطرب، و تغلب على كلماته السهولة، وعلى ألفاظه الرشاقة، وعلى معانيه الوضوح، فيستمتع بها القارئ والسامع وإن كان لكل شيء زينة، زينة الإنسان العقل، وزينة المرأة الحلي فإن زينة الكلام هي الموشحات.
سميت الموشحة بهذا الاسم، لأن المعنى المعجمي من مادة «وشح» يشير إلى أن وشاح المرأة هو قطعة من الجلد تشدها المرأة على عاتقيها وتكون مرصعة بالجواهر والأحجار واللؤلؤ، فاستعير هذا الاسم بكل ما يحمل من معاني التزيين والجمال لهذا الفن الشعري الجديد دلالة على أنه فن وجد لخدمة الجمال، ونشأ أصلا بسبب الجمال في الطبيعة الساحرة بالأندلس وما حوته من مناظر خلابة.
أشجار وأنهار وجداول وقصور، أطلق للعقول الخيال وسمح لها بالتحليق ومحاكاة هذا الواقع، حتى قبل: بلاد الأندلس جنة من جنان الأرض، وجرى الشعر على ألسن الشعراء يتغنى بروعة الأندلس، فأبدع ابن خفاجة الأندلسي وهو يصف حبه لوطنه وشغفه به حتى لا يرى في الدنيا بلدا تضاهي الأندلس، يقول:
يا أهل أندلس لله دركم
ماء وظل وأشجار وأنهار
ما جنة الخلد إلا في دياركم
ولو تخيرت هذا كنت أختار
ولما كان للعرب القائمين هناك دورا فاعلا في المجتمع، وانسجاما كبيرا مع السكان الأصليين، ظهر هذا المولود الجديد يحمل صفات الشعر الشرقي ممتزجا بصفات موسيقى الأندلس وسلاسة تعابيرها فقد مكث العرب في أسبانيا نحو ثمانية قرون، أقاموا هناك حضارة عريقة مازال يحكى عنها حتى الآن، وما زالت تزار أسبانيا فترى في كل ركن آثار العرب فيها.
لأول مرة الشرق يحاكي الغرب!
عندما ظهر في الأندلس فن الموشحات، وازدهر هناك، نقله المشارقة عنهم وحاكوهم فيه، وهذه أول ظاهرة أدبية في الأندلس جعلت المشرق مقلدا للمغرب في ميدان الشعر بعد أن كان المغرب هو الذي يقلد دائما وينظر إلى المشارقة الأدباء والشعراء نظرة التلميذ إلى المعلم الأول وهذا لأن العرب وجدوا في هذا الفن الجديد ابتداعا وخروجا على أوزان البحور الخليلية التقليدية، فأعجبوا به ونظموا الموشحات على غرار موشحات الأندلس، لكنهم لم يستطيعوا أن يجاروهم أو يتفوقوا عليهم كما يرى كثير من النقاد.
بناء جديد
يعد ظهور الموشح ثورة أدبية أوجدت جنسا شعريا جديدا في مواجهة القصيدة التقليدية، فقد عدلت في نظام الوزن، ونوعت في القوافي تنويعا لا يكاد يخضع لحصر، كما اتخذت من الدور وحدة لها مكان وحدة البيت، فالموشحة تتكون من عدة أدوار تبدأ بمطلع، نوضح ذلك بمثال موشحة ابن زهر الإشبيلي فمطلعها:
أيها الساقي إليك المشتكى
قد دعوناك وإن لم تسمع
ثم تبدأ الأدوار بعد ذلك متشابهة في العدد ومتنوعة في القافية والدور الأول في هذه الموشحة كالتالي:
ونديم همت في غرته
ويشرب الراح من راحته
كلما استيقظ من سكرته
جذب الزق إليك واتكا
وسقاني أربعا في أربع
ثم تتوالى الأدوار إلى نهاية الموشحة
موشحة «مسك الغزال»:
تناغمت الموشحات مع العصر والبيئة التي نشأت منها وفيها لذا فقد تناولت الموضوعات الخاصة بالخمر والغزل والوصف وهي تلك الفنون التي تتصل بالموسيقى والغناء مجسدة الحالة الحضارية التي ازدهرت في الأندلس، وهذا نموذج آخر لموشحة ابن زهر أطلقت عليها «مسك الغزال»، فالمسك إشارة إلى الطيب ورغد العيش والغزال إشارة إلى المرأة الجميلة التي تغنى بها ابن زهر في موشحته مازجا جمال الطبيعة بسحر هذه المرأة يقول:
فتق المسك بكافور الصباح
ووشت بالروض أعراف الرياح
فاسقنيها قبل نور الفلق
وغناء الورق بين الورق
كاحمرار الشمس عند الشفق
نسج المزج عليها حين لاح
فلك اللهو وشمس الاصطباح
وغزال سامني بالملق
وبرى جسمي وأذكى حرقي
أهيف مذ سل سيف الحدق
قصرت عنه أنابيب الرماح
وثنى الذعر مشاهير الصفاح
صار بالدل فؤادي كلفا
وجفون ساحرات وطفا
كلما قلت جوى الحب انطفا
أمرض القلب بأجفان صحاح
وسبى العقل بجد ومزاح
أرأيت كيف بدأ ابن زهر موشحته وقت بزوغ الفجر حيث تتفتح الأزهار، وتفوح روائح المسك والكافور، وتشي الرياح عن أزهار الرياض اليانعة التي ملأت الصباح ربيعا، وهذا الجو الفياض استدعى شرب الخمر كي تتم متعته، والحق أنها متعة زائفة حرمها الإسلام، لكن الشاعر الحالم لا يهتم إلا بنشوته وسعادته التي لا تكتمل إلا بالخمر، وينتقل بعد ذلك إلى محبوبته فائقة الجمال، فيراها غزالا رشيقا، أذابه سحر جفونها وعذوبة نظراتها التي وقعت في قلبه وقع الرمح والحسام، وهي تتدلل عليه ولا تترفق به فيزداد شوقا إليها ولا تترفق به فيزداد شوقا إليها.
هكذا بدا الموشح أندلسيا يحمل في طياته صورة ملونة بأزهى الألوان عن الطبيعة الخلابة هناك، وعن التطور الحضاري في شتى المجالات.
موشحة نادرة..
أقدم إليك نموذجا آخر من موشحات الأندلس، وسر ندرة هذه الموشحة أنها لم ترد في أي مصدر مطبوع، وانفرد بها كتاب «عقود الآل في الموشحات والأزجال» لمحمد بن الحسن النواجي، وموضوعها الغزل كذلك، وناظم هذه الموشحة هو الشيخ شمس الدين الواسطي، يشتكي فيها الهوى، ويعاني حرقة الشوق، ويصف حال قلبه الكليم بكلمات متدفقة وألفاظ سهلة يقول:
رماني الهوى في جحيم
وما من صديق حميم
رماني الهوى في سعير
بعشقي لبدر منير
بخد كورد نضير
وثغر كعقد نظيم
وقد كغصن قويم
إلى كم يقاسي الهموم
فتى في حشاه كلوم
وكم نظرة في النجوم
له في الظلام البهيم
وما قال إني سقيم
شج دمعه قد همي
يهيم بظبي الحمى
ويهوى الطلا كلما
علت في مقام كريم
على كف ساق كريم
فنى من هواك الجلد
فدع من جفاك الأمد
فألحاظ عينيك قد
فتكن بقلبي الكليم
وجاء بسحر عظيم
ونلاحظ في هذه الموشحة رغم ميلها إلى اللهو أن كاتبها شديد التأثر بالقرآن الكريم حتى نقل واقتبس منه في أكثر من موضع.
ففي البيت الأول نراه متأثرا بقوله تعالى على لسان جنود إبليس: «فمالنا من شافعين ولا صديق حميم» سورة الشعراء.
وكذا في أبيات الدور الثاني اقتبس الشاعر من حكاية سيدنا إبراهيم - عليه السلام قوله تعالى «فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم»
ومن حكاية سيدنا موسى استعار وصف الله للسحر الذي جاء به سحرة فرعون وخلعه على ماجاءت به محبوبته، فكما قال تعالى «فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم»، أخذ المعنى بلفظه وهو يصور أن عينيها فتكت بقلبه وجاءت كــذلك بسحـــر عظيم.
ولكن شتان شتان بين كلام المولى عز وجل في كتابه العظيم الذي لا يجارى في الفصاحة والبلاغة والكمال، وبين من حاول أن يقلده ويستعير من ألفاظه اعترافا منه بعلو منزلته وعجزه عن الإتيان بمثله أو مجاراته.
موشحة في الزهد
كما نظم الموشحون في أغراض الغزل والمدح والوصف، نظموا موشحات في الزهد والتصوف والانكسار لله تعالى، ومن أشهر الموشحات في ذلك موشح محي الدين بن عربي وهو من أعلام الصوفية، ولد بالأندلس وتوفي بالشام، يقول مشتاقا إلى البيت الحرام:
عندما لاح لعيني المتكا
ذبت شوقا للذي كان معي
أيها البيت العتيق المشرف
جاءك العبد الضعيف المسرف
عينيه بالدمع دوما تذرف
فرية منه ومكر فالبكا
ليس محمودا إذا لم ينفع
ويستمر في موشحته يصف حالته المضطربة، ويعترف بأنه العبد الضعيف أمام عفو الله ورحمته، وفي العبارات ثراء وجداني يعبر عن موقف العبد المسرف وهو يدق باب المغفرة متخذا هذا الأسلوب البسيط.
وداع الأدب الكبير
بعدما ازدهر الأدب في الأندلس، وتعددت المراكز الثقـــــافيــــــة والأدبية وبعدما أصبحت قصور الخلفاء حافلة بكل أنواع العلماء والفقهاء والشعراء وبعد أن ولد في الموشحة وانتشر بكل ما يحمل من متعة وخفة وقابلية لتجديد موضوعاته، جاء عصر بني الأحمر في غرناطة، فتقلص الحكم العربي، وأصاب الشعر تقلصا وضعفا مثله، ومع مجيء القرن التاسع الهجري تدهورت الأحوال السياسية والاجتماعية فسقطت غرناطة في أيدي الأسبان ومن ثم انتهى الحكم العربي للأندلس سنة 798هـ، وهو نفس الوقت الذي كان الأدب العربي يعاني الضعف والركود والتدهور خلال العصر المملوكي والعثماني. كــــان ذلــــك إعلانا بنهاية الأدب الكبير، وميلاد الأدب الصغير، فكمـــا تدهور حال الشعر والنثر والخطب والرسائل تدهور فن الموشحة وخف بريقه، وراحت حيويته، ولكن يظل أنه لا يوجد ما يمنع الشعراء الآن من أن يؤلفوا موشحات جديــــــدة تحاكي العصر كما حاكت موشحات الأندلس عصرها، وربما تكون مثلــــها أو أفضل منها، فلا شك أن الموشحات نمط جديد، ولون مبتدع فــــي الأدب، وأنها قصرت المسافـــــة بين العربية والعامية لذا فإن عالمنا الآن يعد أرضا خصبة لنموها.