النقد العراقي
ان الشعر صناعة وهي ضرب من النسج وجنس من التصوير
فاذا عرض للشاعر موقف ما فلا بد ان يحسن استخراج ما في قلبه من المعاني بأحسن ما يجد من الالفاظ
كما حدث لبعض الشعراء
الفرزدق :
فلم نزل في حديث الأنصار والفرزدق بقية يومنا حتى إذا كان من الغد خرجت من منزلي إلى المسجد الذي كنت فيه بالأمس فأتى كثير فجلس معي وإنا لنتذاكر الفرزدق ونقول ليت شعري ما صنع إذ طلع علينا في حلة أفواف قد أرحى غديرته حتى جلس في مجلسه بالأمس ثم قال ما فعل الأنصاري فنلنا منه وشتمناه فقال قاتله الله ما منيت بمثله ولا سمعت بمثل شعره فارقته وأتيت منزلي فأقبلت أصعد وأصوب في كل فن من الشعر فكأني مفحم لم أقل شعرا قط حتى إذا نادى المنادي بالفجر رحلت ناقتي وأخذت بزمامها حتى أتيت ريانا وهو جبل بالمدينة ثم ناديت بأعلى صوتي أخاكم أخاكم يعني شيطانه فجاش صدري كما يجيش المرجل فعقلت ناقتي وتوسدت ذراعها فما عتمت حتى قلت مائة بيت من الشعر وثلاثة عشر بيتا
جرير :
فسمعت الراعي قال لابنه أما والله لقد طرحت قلنسوته طرحة مشؤومة
قال جرير ولا والله ما القلنسوة بأغيظ أمره إلي لو كان عاج علي فانصرف جرير غضبان حتى إذا صلى العشاء بمنزله في علية له قال ارفعوا إلي باطية من نبيذ وأسرجوا لي فأسرجوا له وأتوه بباطية من نبيذ قال فجعل يهمهم فسمعت صوته عجوز في الدار فاطلعت في الدرجة حتى نظرت إليه فإذا هو يحبو على الفراش عريانا لما هو فيه فانحدرت فقالت ضيفكم مجنون رأيت منه كذا وكذا فقالوا لها اذهبي لطيتك نحن أعلم به وبما يمارس فما زال كذلك حتى كان السحر ثم إذا هو يكبر قد قالها ثمانين بيتا في بني نمير فلما ختمها بقوله
( فغُضَّ الطَّرْفَ إنَّكَ من نُمَيرٍ ... فلا كَعْباً بلغتَ وَلا كِلاَبَا )
بل ربما وصل الامر الى شي اخر وهو :
قال
قال زهير بيتا ونصفا ثم أكدى فمر به النابغة فقال له أبا أمامة أجز فقال وما قلت قال قلت
( تَزيد الأرضُ إمَّا متَّ خفّاً ... وتَحْيَا إنْ حَيِيتَ بها ثَقِيلا )
( نزلت بمستقر العرض منها ... )
أجز قال فأكدى والله النابغة وأقبل كعب بن زهير وإنه لغلام فقال أبوه أجز يا بني فقال وما أجيز فأنشده فأجاز النصف بيت فقال
( وتمنع جَانِبيهَا أنْ يَزُولا ... )
فضمه زهير إليه وقال أشهد أنك ابني
فاذا اكثر الشاعر من الشعر وصل الى مرحلة تقال عنها ابن المقفع :
قال الجاحظ :
فإنما الشعر صناعةٌ وضَرْب من النَّسج وجنسٌ من التَّصوير .
وقد قيل للخَليلِ بنِ أحمد : ما لكَ لا تقولُ الشِّعر قال : الذي يجيئُني لا أرضاه والذي أرْضاه لا يجيئني .
فأنا أستحسن هذا الكلام كما أستحسن جوابَ الأعرابيِّ حين قيل له : كيفَ تجِدُك قال : ( شعر ابن المقفع ) وقيل لابن المقفَّع : ما لك لا تجوزُ البيت والبيتين والثلاثة قال : إنْ جُزْتُها عرَفوا صاحبَها فقال له السائل : وما عليك أنْ تُعرَف بالطِّوال الجياد فعلم أنَّه لم يفهمْ عنه
فاذا اكثر الانسان من الشعر دون التمحيص والرواية عن العارفين بالشعر وقع فيما وقع فيه الكميت
:
وحدثوا أن الكميت بن زيد أنشد نصيباً القرشي يوماً وهو يستمع له، حتَّى أنشده:
وقد رأينا بها حوراً منعَّمةً ... بيضا تكامل فيها الدَّلُّ والشَّنبُ
فثنى نصيب خنصره، فقال له الكميت: ما تصنع؟ فقال: أحصي عليك خطأك، أما ترى كيف تباعدت في قولك: تكامل فيها الدل والشنب، هلا قلت كما قال ذو الرمة:
لمياءُ في شفتيها حوَّةٌ لَعسٌ ... وفي اللِّثاثِ وفي أنيابها شنبُ
ثمَّ أنشد في قصيدة أخرى:
كأنَّ الغطامطُ من جريها ... أراجيزُ أسلمَ تهجو غفارا
فقال نصيب: ما هجت أسلم غفارا قط، فاستحيا الكميت وسكت
قال الجاحظ : ومن غرائب الحمق المذهب الذي ذهب اليه الكميت بن زيد في مدح النبي حيث يقول
( فاعتتب الشوق في فؤادي والشعر ... الى من إليه معتتب )
( الى السراج المنير أحمد لا ... تعدلني رغبة ولا رهب )
( عنه الى غيره ولو رفع الناس ... الي العيون وارتقبوا )
( وقيل أفرطت بل قصدت ولو ... عنفني القائلون او ثلبوا )
( إليك ياخير من تضمنت الأرض ... ولو عاب قولي العيب )
( لج بتفضيلك اللسان ولو ... أكثر فيك اللجاج واللجب )
فمن رأى شاعر امدح النبي فاعترض عليه واحد من جميع أصناف الناس حتى يزعم ان ناسا يعيبونه ويثلبونه ويعنفونه ولقد مدح النبي فما زاد على قوله
( وبورك قبر انت فيه وبوركت ... به وله اهل بذلك يثرب )
( لقد غيبوا برا وحزما ونائلا ... عشية واراه الصفيح المنصب )
يعني قبرالنبي ويثرب يعني المدينة وهذا شعر يصلح في عامة الناس
وقال في الحيوان :
ومِن المديح الخطأ الذي لمْ أرَ قَطُّ أعجب منه قولُ الكميتِ بن زيدٍ
وقال ابن قتيبة : وكان الكميت شديد التكلف في الشعر، كثير السرقة،......................وقد قدمت في أخبار الشعراء ما أخذه من أشعارهم.
فليحذر المكثر من الشعر فانه اما ان يقع في الخطأ دون ان يدري ، او يسرق من الناس وهو لا يشعر