الوحـدات الثـلاث ـ
قضايا النقد الأدبي
إعداد الدكتورة
عبير عبدالصادق محمد
أستاذ الأدب والنقد المشارك
الوحـدات الثـلاث ـ
كانت المسرحية من عهد اليونان والرومان تخضع
لقانون الوحدات الثلاث وهى: وحـدة الموضوع " الحدث "، ووحدة الزمان ـ
ووحــدة المكان ـ
ـ وحدة الموضوع (أو الحدث):
وقد عنوا بوحدة الحدث أن تكون العقدة التي
تدور حولها أحداث المسرحية واحدة، بمعنى أن يكون موقف الأبطال والممثلين تجاه
العقدة موقفاً متوحداً غير متفكك ولا متمرد. وقد أوحى بهذا إلى المسرح القديم ما
عرف باسم (نظرية فصل الأنواع) التي تفصل فصلاً تاماً بين (المأساة) و (الملهاة)
فلا يجوز أن يجمع بينهما في إطار واحد، وهى نظرية ثار الرومانسيون عليها، بدعوى أن
الحياة التي اعتبر المسرح محاكيها ليست جداً خالصاً ولا هزلاً خالصاً، بل إنه
كثيراً ما تجمع الحياة مشاهد الجد إلى مشاهد الهزل، فإذا جمعتهما المسرحية لم تكن
خارجة على منطق الحياة الواقعة فضلا عن أن هذا الجمع يظهر ما في الحياة من مفارقات،
وهذا مما يكسب المسرحية وضوحاً وقوة.
ـ وحـــدة الزمـان:
وهى الوقت الذى يستغرقه التمثيل، فيجب أن
يناسب طول الزمن الذى استغرقته الأحداث الممثلة في عالم الواقع وقد نشأ القول
بضرورة مراعاة هذه الوحدة من القول بضرورة جعل المسرحية شيئا قابلا للتصديق، حين
يرى أنه من المستحيل أن يصدق أحد أن عمل عدة أشهر أو عدة سنوات يجوز أداؤه في ثلاث
ساعات، غير أن الكتاب المسرحيين ـ على مر الزمن ـ لجئوا إلى الحيل، للإيهام بتحرك
الحوادث فوق منصة المسرح في سرعة، على غرار ما فعل " شكسبير " في كثير
من مسرحياته.
ـ
وحـدة المكـان:
ووحدة المكان تعنى استمرار المشاهد من خلال
المسرحية في المكان نفسه الذى ابتدأت فيه هذه المشاهد " وقد تقبل الأمكنة
المتقاربة " فمن غير المقبول أن تتعدد الأمكنة وأن تتباعد ؛ لأن هذا أو ذاك
يعنى تباعد المسافات الذى يعنى بدوره تباعد الزمن.
فالقول بوحدة المكان نتيجة اقتضاها القول
بوحدة الزمان.
وقد تمرد كثير على هذه الوحدة، ونظروا إلى
" شكسبير " في بعض أعماله المسرحية، ففى " عطيل " انتقلت
المناظر من (البندقية) إلى " قبرص "، وفى "أنطونى وكليوبترة "
انتقلت المناظر من (الإسكندرية) إلى (روما) إلى (الإسكندرية) إلخ.
على أن مسرحياته التي أجراها في مكان واحد
مثل (هملت) التي أجرى معظم حوادثها في جنبات القصر كانت أعمق أثراً في نفوس
نظارتها.
بيد أن وحدة الزمان والمكان لم يعد لهما
وجود في المسرحية الحديثة بهذا المعنى الضيق، فأصبح الزمن يتسع حتى يشمل جيلا
كاملا على أن تذكر الحوادث الهامة ويسقط الصغير التافه، كما أصبح المكان يتسع أيضا
لعدد معتدل من الأماكن والمناظر التي تسمح بها إمكانيات المسرح الحديث.
ـ أمثلة تطبيقية:
وفيما يلى نعرض مسرحية " شهر زاد
" لتوفيق الحكيم. فقد استلهم توفيق في كتابة هذه المسرحية الأسطورة الفارسية
التي تزعم أن كتاب ألف ليلة وليلة قصصُُ قصته شهر زاد على زوجها شهر يار وذلك أنه
فاجأ زوجته الأولى بين ذراعى عبد خسيس فقتلهما، ثم أقسم أن تكون لـه كل ليلة عذراء،
يبيت معها، ثم يقتلها في الصباح انتقاماً لنفسه من غدر ا لنساء. وحدث أن تزوج بنت
أحد وزرائه " شهر زاد " وكانت ذات عقل ودراية، فلما اجتمعت به أخذت
تحدثه بقصصها الساحر الذى لا ينضب لـه معين، وكانت تقطع حديثها بما يحمل الملك على
استبقائها في الليلة التالية لتتم لـه الحديث إلى أن أتى عليها ألف ليلة وليلة،
رزقت في نهايتها بطفل منه، فأرته إياه وأعلمته حيلتها، فاستعقلها واستبقاها.
ويبدأ توفيق الحكيم مسرحيته بنهاية الأسطورة
فإن شهر زاد كشفت لشهريار عن معارف لا تُحد، وأصبح ظامئاً للمعرفة، لوم يعد
يُعْنَى بالجسد ولذاته، فقد تحول عقلا خالصاً يبحث عن الألغاز والأسرار، حتى ليريد
أن ينطلق من قيود المكان لعله يطلع على مصادر الأشياء وغاياتها، ويعرف كنهها
وحقائقها والمسرحية في سبعة فصول:
ونلتقى في الفصل الأول بجلاد الملك وعبد
أسود يحاوره في شأن الملك وما يقال عن خبله، وكيف يغدو إلى كاهن يطلب عنده حلاً
لبعض ألغازه، ونسمع بوزيره قمر، ويتراءى لنا العبد مثالاً للبوهيمية التي تقبع في
داخله، إذ يرى عذراء مع الجلاد، فيقول " ما أجمل هذه العذراء وما أصلح جسدها
مأوى " ويتحول متسائلا عن شهر زاد.
وننتقل إلى الفصل الثانى فنجد قمراً الوزير
مع الملكة في قاعتها، ونعرف من الحوار أنه يحبها محبة العابد لمعبوده لا محبة
العاشق لمعشوقته، فقد سما بعواطفه إزاءها سموا بعيدا، وهى تعرف ذلك وتعبث به،
ويخشى أن تكتشف سره فينقل الحديث معها إلى الملك على هذا النحو:
قمر ـ إنى.. أردت أن
أقول إنك غيرته، وإنه انقلب إنساناً جديداً
شهر زاد ـ إنه لم
يعرفنى
قمر ـ لقد قلت لك قبل
اليوم إن الملك بفضلك قد أمسى أيضاً لغزاً مغلقا أمامى، وكأنما كُشف لبصيرته عن
أفق آخر لا نهاية لـه، فهو دائما يسير مفكراً باحثاً عن شىء، منقبا عن مجهول،
هازئاً بى كلما أردت اعتراض سبيله إشفاقاً على رأسه المكدود.
شهر زاد ـ أتسمى هذا
فضلا يا قمر ؟
قمر ـ وأى فضل يا مولاتى،
فضل من نقل الطفل من طور اللعب بالأشياء إلى طور التفكير في الأشياء.
وكان شهريار قد شبع من الأجساد فلم يعد
يتشوف إليها، وكذلك شبع قلبه من حب شهر زاد فلم تعد نفسه تهفو إليها وإن لم يكرهها.
لقد فقد شهريار الشهوة، كما فقد الحب
والكراهية على السواء " إنى براء من الآدمية، براء من القلب لا أريد أن أشعر،
أريد أن أعرف " ([1]).
إذن فماذا صارت شهر زاد بالنسبة لـه، فلم
تعد جسداً جميلاً كما كان يرى العبد فيها، ولم تعد قلباً كبيراً كما كان الوزير
المحب يرى فيها، وإنما تمثل شهر زاد عند شهر يار الروح المنطلق في الطبيعة.
"إنها عقل عظيم"([2])
إنها السر الكامن في
الطبيعة، إنها كالطبيعة تماماً:
" تبدى لنا من حسنها وتحجب عنا سرها " ([3])
لقد صارت بالنسبة إليه لغزاً يستعصى فهمه.
وقد خيل إلى شهريار أنه لن يدرك ذلك السر، ويحل ذلك اللغز، إلا إذا استطاع أن يكون
فكراً
" هل يحسب مولاى، لو جَاب الدنيا طولاً
وعرضاً أنه يعلم أكثر مما يعلم وهو في حجرته هذه ".
وتظهر شهر زاد وتحاول أن ترجعه إليها، قائلة:
" إن رجلا بقلبه قد يصل إلى ما لا يصل آخر بعقله " ولكنه يصمم عل الرحيل
حتى يتحرر من عقال المكان فشهر يار يريد الموت لا لأنه يريد الفناء، بل لأنه تصور
فيه خلاصه من كل روابطه الجسمانية والعاطفية بالأرض. فبرزت عنده ضرورة الرحيل والسفر
إلى غير نهاية، وما استطاع أن يحقق هذا ؛ لاشىء " هجر الأرض ولم يبلغ السماء،
فهو معلق بين الأرض والسماء ([4]) " وهذا ما حدث في الفصل الرابع.
وقد حاولت شهر زاد أن تعيده إلى الأرض مرة
أخرى وحاولت أن تنقذه من عقله كما أنقذته من جسده فعادت تمثل امامه نفس الخيانة
التي دفعت به ذات يوم إلى الهمجية والاستغراق في الجسد، وذلك بأن اتخذت في الفصل
الخامس من العبد (رمز الشهوة الجسدية) عشيقاً لها. ويدخل شهريار مع وزيره في الفصل
السادس، ويعلمان فيه خيانة شهر زاد وترتجف نياط قلب العابد الولهان قمر، ويعود
بمولاه في الفصل السابع إلى شهر زاد لعله ينتقم من زوجته وعبدها الخسيس، ولكن شهر
يار قد تحول وأصبح فكراً محضاً، فلا ينتقم، وينتحر قمر ويحس مولاه بالهزيمة، وأنه
لا يستطيع انطلاقاً من المكان، من الأرض.
شهريار : لا
أريد العودة إلى الأرض
شهر زاد: لقد قلتها يا شهريار: لا شىء غير الأرض
شهر يار: وداعاً إذن يا شهر زاد ! ([5])
وكان هذا هو الوداع الأخير ؛ فقد انطلق
شهريار إلى حيث لا يعرف
ـ تعقيــب:
اتضحت فلسفة الحكيم في هذه المسرحية وأنه
يؤمن بالقلب أكثر مما يؤمن بالعقل الذى يحطم حياة الناس ومع ذلك تحلم به البشرية،
وتحاول عن طريقه أن تكشف أسرار الكون وتجتاز حدود المكان، وفى ذلك اندحارها
وهزيمتها كما انهزم شهريار كما ركز توفيق اهتمامه على مشكلة المكان، فربط به شخوص
المسرحية وأحداثها، وليس يخفى على قارىء المسرحية أن الهموم التي تعتصر نفس شهريار
كلها ترجع إلى المكان الذى كان يحس بنفسه سجيناً فيه.
ـ وقد بدأ الحكيم مسرحيته بعد انقضاء ألف ليلة
وليلة على ارتباط شهريار بشهر زاد، أى بعد أن انتهت قصصها.
ـ ومن الجدير بالذكر أن هناك ثلاث أدباء معاصرون
قاموا بمعالجة هذه القصة في أعمالهم المسرحية وهم توفيق الحكيم، وعلى أحمد باكثير،
وعزيز أباظة وقد احتفظوا جميعاً في مسرحياتهم بشخصيتى شهر زاد وشهر يار وبالدور
الذى قامت به الأولى بالنسبة للثانى، غير أنهم افترقوا بعد ذلك في اختيار الشخصيات
الجانبية. وكذلك الأمر بالنسبة لإطار الحوادث.
[1] ) المسرحية / 69 .
[2] ) المسرحية / 75 .
[3] ) المسرحية / 78 .
[4] ) المسرحية / 122 .
[5] ) المسرحية / 169 .
منذ عرفك.
محضاً، أن يكون روحاً بلا جسد. فهو لم يكن ليتحد بذلك العقل الكبير إلا إذا كان هو
نفسه عقلاً كبيراً إلا إذا تخلص من كل علاقاته المادية والعاطفية بالحياة، ولقد
خلصته شهر زاد من شهوة الجسد فبقى عليه أن يتخلص من عاطفته كذلك، عندئذ يفكر في
الهروب من شهر زاد نفسها. ففى الفصل الثالث تصعد أزمة شهريار وتشتد، فنجده مع
الساحر وقمر مصمماً على الرحيل في أطراف العالم، ويحاول قمر أن يرده عن عزمه
قائلاً.
أحد. وعلى هذا النحو انتهت المأساة بانتصار الأرض.. " لا شىء غير الأرض، هذا
السجن الذى يدور، إنا لا نسير، لا نتقدم ولا نتأخر، لا نرتفع ولا ننخفض، إنما نحن
ندور، كل شىء يدور " أى بانتصار المكان وهزيمة اللامكان ([6]).