السعدني1
تمكن السعدني بالاشتراك مع محمود نور الدين (ضابط المخابرات المصري المنشق عن السادات) والكاتب الصحافي فهمي حسين ( مدير تحرير 'روزاليوسف' الأسبق ورئيس تحرير 'وكالة الأنباء الفلسطينية' ) وفنان الكاريكاتير صلاح الليثي وآخرين، من إصدار مجلة '23 يوليو' في لندن ( وكانت أول مجلة عربية تصدر هناك) والتي حققت نجاحاً كبيراً في العالم العربي وكانت تهرب إلى مصر سراً. التزمت المجلة بالخط الناصري وكان السعدني يتوقع أن تلقى المجلة دعماً من الأنظمة العربية الرسمية إلا أن ذلك لم يحدث، وعلى حد تعبير السعدني 'كان يجب عليّ أن ارفع أي شعار إلا 23 يوليو لأحظى بالدعم'.
انهارت '23 يوليو' وتوقفت عن الصدور، وعاد السعدني وحيداً يجتر أحزانه في لندن إلى أن اغتيل أنور السادات في حادث المنصة الشهير في 6 تشرين الأول ( أكتوبر) 1981م.عاد السعدني إلى مصر بعد اغتيال السادات بفترة واستقبله الرئيس مبارك في القصر الجمهوري في مصر الجديدة ليطوي بذلك صفحة طويلة من الصراع مع النظام في مصر.
شهدت ساحة الصحافة العربية رحيل الكاتب والصحافي المصري المخضرم محمود السعدني مساء الثلاثاء الرابع من ايار (مايو) 2010 عن عمر يناهز 82 عاما.
ورغم أن الموت كما الحياة هو شريعة الله في الدنيا ومع أن السعدني عانى ويلات المرض التي أقعدته عن الحركة طوال السنوات الست الماضية إلا أن الخبر سقط كالصاعقة على أسماع كل من عرفوا قدر الراحل محمود السعدني أو كل من تتلمذ على يديه أو حتى كل من قرأ له وتعرف عليه من خلال مؤلفاته وكتاباته التي تعتبر من أعرق مدارس الكتابة الصحافية الساخرة. والسعدني صحافي وكاتب مصري ساخر يعد من رواد الكتابة الساخرة في الصحافة العربية، شارك في تحرير وتأسيس عدد كبير من الصحف والمجلات العربية في مصر وخارجها، وترأس تحرير مجلة 'صباح الخير' المصرية في الستينات. كما شارك في الحياة السياسية في عهد الرئيس جمال عبد الناصر وسجن في عهد أنور السادات بعد إدانته بتهمة الاشتراك في محاولة انقلابية. أصدر وترأس تحرير مجلة '23 يوليو' في منفاه في لندن. عاد إلى مصر من منفاه الاختياري سنة 1982 بعد اغتيال السادات واستقبله الرئيس مبارك، ،ليواصل عمله إلى أن اعتزل العمل الصحافي والحياة العامة سنة 2006 بسبب المرض. ووهنت ذاكرة السعدني في مرضه الأخير الذي استمر سنوات إلى حدّ انه كان ينسى مَن حوله. وحال المرض دون خروجه من بيته أو الكتابة الأسبوعية التي ظلت منتظمة في مجلة 'المصور' وصحيفة 'أخبار اليوم'.
البدايات الأولى
ولد السعدني في منطقة الجيزة في القاهرة الكبرى حيث تدور اغلب رواياته إذ اهتم بتوثيق نمط الحياة البسيط في تلك المنطقة وفي مرحلة الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، وهو في الأصل من أهالي محافظة المنوفية. عمل السعدني في بدايات حياته الصحافية في عدد من الجرائد والمجلات الصغيرة التي كانت تصدر في شارع محمد علي في القاهرة. عمل بعدها في مجلة 'الكشكول' التي كان يصدرها مأمون الشناوي حتى إغلاقها. ثم عمل في القطعة ببعض الجرائد مثل جريدة 'المصري'، لسان حال حزب الوفد، وعمل أيضاً في 'دار الهلال' كما أصدر مع رسام الكاريكاتير طوغان مجلة هزلية أغلقت بعد أعداد قليلة أثر صراع مع الرقابة وشركات التوزيع.
فترة ثورة 1952
وأيّد السعدني ثورة 23 يوليو بكل قلبه، بالرغم من عدم معرفته لأهدافها في ذلك الوقت، كما أنه كان يعرف أحد قادة الثورة وهو البكباشي أنور السادات الذي جالس السعدني وزملاءه بضع مرات في كازينو الجيزة. وأيد السعدني الثورة، وعمل بعد الثورة في جريدة 'الجمهورية' التي أصدرها مجلس قيادة الثورة وكان رئيس مجلس إدارتها أنور السادات ورئيس تحريرها كامل الشناوي. بعد تولي السادات منصب رئاسة البرلمان المصري، تم الاستغناء عن خدمات محمود السعدني من جريدة الثورة أسوة بالعديد من زملائه منهم بيرم التونسي وعشرات من الصحافيين الأكفاء. وقدم السعدني خلال الفترة التي قضاها في 'الجمهورية' عدداً من التحقيقات والموضوعات المميزة، كما سافر في مهام صحافية إلى خارج مصر.. و أشار الكاتب في احدى كتبه إلى أن فصله كان بسبب نكتة أطلقها على السادات.
عمل بعد ذلك في مجلة 'روز اليوسف 'الأسبوعية مديرًا للتحرير عندما كان إحسان عبد القدوس رئيس التحرير، وكانت 'روز اليوسف' حينها مجلة خاصة تملكها فاطمة اليوسف والدة إحسان. ويصف السعدني الفترة التي قضاها بـ 'روز اليوسف' بأنها كانت الأفضل في حياته، كما يصف الجو العام فيها بأنه جو إبداع مثالي فلا توجد صراعات في الدار، ويعود السبب في ذلك لكون أصحابها هم من يديرونها بأنفسهم فلم يجد فيها المشاكل المزمنة التي تعاني منها 'الجمهورية'. وعادت إلى السعدني روحه الساخرة وتمكن من إنجاز عدد من الكتب والمقالات المميزة.
أثناء زيارة صحافية إلى سورية قبيل الوحدة بين البلدين، طلب أعضاء الحزب الشيوعي السوري من السعدني توصيل رسالة مغلقة للرئيس جمال عبد الناصر فقام بتسليمها لأنور السادات دون أن يعلم محتواها. وكان في الرسالة تهديد لعبد الناصر، لذا تم إلقاء القبض عليه وسجن ما يقارب العامين أفرج عنه بعدها فعاد ليعمل في 'روز اليوسف' بعد أن أممت ثم تولى رئاسة تحرير مجلة 'صباح الخير'.
انضم إلى التنظيم الطليعي وكان له في تلك الفترة نفوذ كبير.
مراكز القوى
عقب وفاة عبدالناصر في 28 ايلول ( سبتمبر) 1970 حدث صراع على السلطة بين الرئيس أنور السادات وعدد من المسؤولين المحسوبين على التيار الناصري مثل شعراوي جمعة وسامي شرف ومحمود فوزي وغيرهم. انتهى الصراع باستقالة هؤلاء المسؤولين واعتقال السادات لهم وتقديمهم للمحاكمة بتهمة محاولة الانقلاب وكان اسم محمود السعدني من ضمن أسماء المشاركين في هذا الانقلاب وتمت محاكمته أمام 'محكمة الثورة' وأدين وسجن.
كما يقول محمود السعدني فإن القذافي حاول التوسط له عند السادات إلا أن السادات رفض وساطته وقال 'ان السعدني قد أطلق النكات عليّ وعلى أهل بيتي ( زوجته جيهان السادات) ويجب أن يتم تأديبه ولكني لن أفرط في عقابه'.
بعد قرابة العامين في السجن أفرج عن السعدني ولكن صدر قرار جمهوري بفصله من 'صباح الخير' ومنعه من الكتابة بل ومنع ظهور اسمه في أي جريدة مصرية حتى في صفحة الوفيات. بعد فترة قصير من المعاناة قرر السعدني مغادرة مصر والعمل في الخارج.
السعدني في المنفى
غادر السعدني مصر متوجهاً إلى بيروت حيث استطاع الكتابة بصعوبة في جريدة 'السفير' وبأجر يقل عن راتب صحافي مبتدئ، والسبب في صعوبة حصوله على فرصة عمل هو خوف أصحاب الدور الصحافية البيروتية من غضب السادات. قبل اندلاع الحرب الأهلية غادر السعدني إلى ليبيا للقاء القذافي والذي عرض عليه إنشاء جريدة أو مجلة له في بيروت إلا أن السعدني رفض ذلك خوفاً من اغتياله.
أثناء اللقاء عرض عليه القذافي الكتابة في صحف ليبيا لكنه رفض ذلك، وانتهى لقاؤه معه من دون نتيجة، كما لم يبد ِ القذافي حماساً كبيراً لإصدار مجلة '23 يوليو' التي اقترح السعدني إصدارها في لندن كما لم يرق له إصدار مجلة ساخرة.
في عام 1976 وصل السعدني إلى أبوظبي للعمل كمسؤول عن المسرح المدرسي في وزارة التربية والتعليم في الإمارات، ويبدو انه لم ترق له الفكرة، لذا قبل بالعرض الذي تقدم به عبيد المزروعي وهو إدارة تحرير جريدة 'الفجر' الإماراتية.
كان العرض مقامرة سياسية جازف بها عبيد المزروعي بخاصة وان السعدني وضع شروطا مهنية قاسية أهمها عدم التدخل في عمله وهو الشرط الذي يبدو أنه تسبب بعد أقل من أربعة أشهر بمصادرة أحد أعداد جريدة 'الفجر' من الأسواق بسبب مانشيت أغضب السفارة الإيرانية في أبوظبي، وكانت إيران يومها تطالب بالإمارات كلها وتعتبرها من 'ملحقيات إيران'. لذا لم تغفر سفارة إيران للسعدني رفعه شعار ( جريدة الفجر جريدة العرب في الخليج العربي) وطالبت السفارة الإيرانية صراحة بحذف صفة 'العربي' عن الخليج.
تعاقد محمود السعدني مع منير عامر من مجلة 'صباح الخير' القاهرية، ليتولى وظيفة سكرتير التحرير وليدخل إلى صحافة الإمارات مدرسة صحافية مصرية جديدة هي 'مدرسة روزاليوسف' بكل ما تتميز به من نقد مباشر وتركيز على الهوية القومية والابتعاد قدر الإمكان عن التأثير المباشر للحاكم وصانع القرار. اضطر السعدني إلى مغادرة أبوظبي إلى الكويت حيث عمل في جريدة السياسة الكويتية مع الصحافي أحمد الجارالله ولكن تلك الضغوط لاحقته هناك أيضاً فغادر إلى العراق ليواجه ضغوطاً من نوع جديد، لإخضاعه فكان قراره بمغادرة العراق إلى لندن.
مجلة 23 يوليو
تمكن السعدني بالاشتراك مع محمود نور الدين (ضابط المخابرات المصري المنشق عن السادات) والكاتب الصحافي فهمي حسين ( مدير تحرير 'روزاليوسف' الأسبق ورئيس تحرير 'وكالة الأنباء الفلسطينية' ) وفنان الكاريكاتير صلاح الليثي وآخرين، من إصدار مجلة '23 يوليو' في لندن ( وكانت أول مجلة عربية تصدر هناك) والتي حققت نجاحاً كبيراً في العالم العربي وكانت تهرب إلى مصر سراً. التزمت المجلة بالخط الناصري وكان السعدني يتوقع أن تلقى المجلة دعماً من الأنظمة العربية الرسمية إلا أن ذلك لم يحدث، وعلى حد تعبير السعدني 'كان يجب عليّ أن ارفع أي شعار إلا 23 يوليو لأحظى بالدعم'.
انهارت '23 يوليو' وتوقفت عن الصدور، وعاد السعدني وحيداً يجتر أحزانه في لندن إلى أن اغتيل أنور السادات في حادث المنصة الشهير في 6 تشرين الأول ( أكتوبر) 1981م.عاد السعدني إلى مصر بعد اغتيال السادات بفترة واستقبله الرئيس مبارك في القصر الجمهوري في مصر الجديدة ليطوي بذلك صفحة طويلة من الصراع مع النظام في مصر.
كتاباته
تعتبر كتب السعدني من أروع ما كتب في أدب السيرة الذاتية في الأدب العربي، وقد كتبها في سلسلة من الكتب ( من نهاية الستينات وحتى منتصف التسعينات) وتجمع بين اليوميات والمغامرات الصحافية والمآزق الشخصية.
وحملت عناوين:
الولد الشقي ج1: قصة طفولته وصباه في الجيزة.
الولد الشقي ج2: قصة بداياته مع الصحافة.
الولد الشقي في السجن: صور متنوعة عن شخصيات عرفها في السجن.
الولد الشقي في المنفى: قصة منفاه بالكامل.
الطريق إلى زمش: ذكرياته عن الفترات التي قضاها في السجون في عهدي عبد الناصر والسادات.
كتب أخرى للسعدني:
السعدني حكاء كبير ويمتاز بخفة ظله كما أن تجربته في الحياة ثرية للغاية وله العديد من الكتب التي تناولت مواضيع متنوعه منها:
مسافر على الرصيف: صور متنوعة عن بعض الشخصيات الأدبية والفنية التي عرفها.
ملاعيب الولد الشقي: مذكرات ساخرة.
السعلوكي في بلاد الإفريكي: رحلات إلى إفريقيا.
الموكوس في بلد الفلوس: رحلة إلى لندن.
وداعاً للطواجن: مجموعة مقالات ساخرة.
رحلات ابن عطوطة: رحلات متنوعة.
أمريكا يا ويكا: رحلة إلى أمريكا.
مصر من تاني: مجموعة مقالات عن تاريخ مصر.
عزبة بنايوتي: مسرحية.
قهوة كتكوت: رواية.
تمام يا فندم: مجموعة من المقالات المجمعة في كتاب.
وللسعدني أيضا مجموعة قصصية واحدة عنوانها 'خوخة السعدان'، وحين أصدرها في الخمسينات من القرن الماضي توقع نقاد أن يكون منافسا قويا للكاتب المصري البارز يوسف إدريس ( 1927 ـ1991)، لكن حياة السعدني وكتاباته أخذت مجرى آخر. وتخلى السعدني في أعماله عن البلاغة التقليدية ونحت قاموسا جديدا من الألفاظ التي تجمع بين الفصحى والعامية المصرية. وكتب مذكراته بعنوان 'الولد الشقي في المنفى'، وهي تجمع بين اليوميات والمغامرات الصحافية والمآزق الشخصية. ووصف السعدني مذكراته قائلا 'رغم الظلام الذي اكتنف حياتي، ورغم البؤس الذي كان دليلي وخليلي فإنني لست آسفا على شيء، فلقد كانت تلك الأيام حياتي'. وحصل الفقيد على درع نقابة الصحافيين عام 2009 وتسلمه نيابة عنه شقيقه الممثل الكبير صلاح السعدني.
ويعرف كل من اقترب من السعدني ذكاءه الذي كان يستطيع أن يثقب أي شيء ليفهمه ويسبر غوره. وكان عشقه الأكبر للفلسفة الصحافية الضاحكة لذلك كان يبتكر أساليب في الكتابة يتشربها العقل بسلاسة وتتذوقها العين والأذن باستمتاع بالغين رغم أن قضيته التي يكتب عنها قد تكون سياسية ومعقدة لكنه يأبى إلا أن يقدمها لقرائه في وجبة خفيفة الهضم جميلة الطعم. والفقيد من رواد الكتابة الساخرة في الصحافة العربية وتميزت كتاباته بالأسلوب الساخر وعمل في صحف 'الجمهورية' و' المصري' و' الجمهور المصري' ومجلة 'المصور'، كما عمل سكرتير تحرير في مجلة 'روز اليوسف' وشارك في تحرير وتأسيس عدد كبير من الصحف والمجلات العربية في مصر وخارجها حيث ترأس تحرير مجلة '23 يوليو' في لندن. وكان له باب ثابت في مجلة 'المصور' بعنوان 'على باب الله' وفي صحيفة 'أخبار اليوم' بعنوان 'أما بعد' تناول فيهما قضايا سياسية واجتماعية هامة بأسلوبه الساخر الذي انفرد به.
وانخرط السعدني في العمل السياسي حيث انضم إلى التنظيم الطليعي، وكما يقول عن نفسه واصفاً دوره السياسي في ذلك الوقت: 'إذا كان محمد حسنين هيكل هو سفير عبدالناصر للدوائر السياسية العالمية، فقد كنت سفيراً لعبد الناصر لدى الشعب المصري في الداخل'، وهذه المقولة توضح حجم دور السعدني في مصر بتلك الفترة.
وقد كان للسعدني في ذلك الوقت شهرة ونفوذ كبيران، حتى أن بريد قرائه كان الأضخم بين جميع الكتاب العرب، كما كان باستطاعته إنجاز معاملات معارفه بمكالمة تليفونية واحدة.
وبصفة عامة يعرف عن السعدني أنه تخلى في أعماله عن البلاغة التقليدية ونحت قاموسا جديدا من الألفاظ التي تجمع بين الفصحى والعامية المصرية. وفي النهاية لا يسعني لكوني احد قرائه إلا أن أتقدم لله الحي القيوم أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته ويسكنه فسيح جناته.