بدايات الكلاسيكية




كان (مارو) في أول أمره يهتم بالبلاغة التقليدية، ثم أصبح شاعراً مؤرخاً لدى البلاط، أما أشعاره فإنها تتميز بالتنوع والوضوح ودقة التعبير، مثله الأعلى الشاعران (فيرجيل) و(أوفيد)، وقد قرأ (بترارك) باللغة الإيطالية، وكتب باللغة الفرنسية محترماً نحوها فجاءت في أشعاره نقية رشيقة، وتتمتع قصيدة (مارو) بالأسلوب القصصي الحواري السّهل والممتع مع بعض التلاعبات اللفظية البلاغية كالتورية والجناس، كما في قصيدته التي أرسلها من السجن إلى صديقه (ليون) عام 1526م، فهي منظومة شعرية لطيفة تتضمن قصة الأسد والجرذ التي أُثِرتْ عن الحكيم اليوناني (إيسوب)، وكان يهدف من خلالها إلى دفع صديقه ذي النفوذ ليطلق سراحه، وهذا ما حدث حقاً، وفيما بعد اقتبس (لافونتين) هذه القصة ليجعل منها حكاية من أجمل حكاياته الخرافية، ويمكن القول إن آثار (كليمان مارو) كانت في منزلة جسر عبور من القرون الوسطى إلى عصر النهضة.
ازدهرت الآداب والفنون في مدينة (ليون) في القرن السادس عشر، فقد انتشرت فيها الطباعة، وكانت أكثر المدن تأثراً بإيطاليا لقربها منها، فظهر منها كثيرٌ منَ الأدباء الذين تركوا في المذهب الجديد آثاراً واضحة مثل: (أ. هيروويه)، و(موريس سيف)، والسيدة (لويز لابيّه)، هؤلاء عاشوا في أواسط القرن السادس عشر شعراء غير بلاطيين، وقد مهدوا بأساليبهم الطريق لـ (رونسار) وجماعة الثريا الذين كانوا يقدرونهم جداً، وتابعوا الطريق من بعدهم، لاسيّما في الابتعاد عن الطابع العلمي وبعض القيود الفنية والميل إلى الفكر والعاطفة، وتفضيل اللغة المحليّة مع مراعاة البساطة والوضوح.
ظهرت جماعة الثريا في أواسط القرن السادس عشر، واستمرّت إلى نهايته، أما أعضاؤُها فَهُم: (رونسار: ت 1585م، يواكيم دوبيلي: ت 1560م، ريمي بيللو: ت 1577م، أنطوان دو باييف: ت 1530م، بونتوس دوتيار: ت 1603م، جوديل: ت 1660م، جان دورا: ت 1588م)، إضافة إلى شعراء آخرين، ولكن هذه الجماعة الشابّة لم تأتِ بتغيير منهجي جذري في الشعر، بل تُعَدُّ مرحلةً ناضجةً من الجهد المنظم نحو مذهب شعريٍ عام، ومن المبادئ التي تبنتها هذه الجماعة أن اللغة الفرنسية أصبحت قادرة على منافسة اللغات القديمة والتعبير عن شتى الأفكار والأحاسيس في شتّى الأنواع الأدبيّة، لذلك لا بدّ من أن يسعى الشعراء لإغنائها بالمفردات والارتقاء بها، سواءٌ بالترجمة أو التقليد، أو بإدخال الأنواع الأدبية العظيمة القديمة إلى مجالها الإبداعي، وكان (رونسار) يؤكد ضرورة نبذ الكلمات القديمة والبحث عن لغة فرنسية كاملة، كما دعا في كتابه (فن الشعر) إلى تبني الكلمات التي يستعملها الحرفيون كالحصّادين والحدادين والصاغة وما إلى ذلك، ودعا إلى توليد كلماتٍ جديدة، وقد طبق رونسار كل ذلك في معظم أعماله الأدبية، ومن مبادئ هذه الجماعة أيضاً التجديد في النحو، وإدخال الأجناس الأدبية العظيمة المعروفة في الآداب اليونانية واللاتينية كالتراجيديا والكوميديا والملحمة والنقد إلى مجال اللغة الفرنسية، وأخيراً تجديد إيقاعات الشعر الفرنسيّ وتطويرها، وابتكار أوزان جديدة.
إن (رونسار) من الوجهة الكلاسيكية متمسك بالثقافة القديمة وتقليد القدماء في الموضوعات والصور والمعالجة إلى درجة انعدام فرديّته، ومن جهة أخرى بقي محافظاً على نظرية الأجناس الأدبيّة والأسلوب الخطابي والتعليمي الذي يتجه إلى العقل، ولكنه خطا في الشعر خطوات جديدة حين اتجه إلى العاطفة والخيال والمناخ الحزين، كما تميز أسلوبه بالغزارة والتنوع والانسياق مع الحماسة الشعرية دون روّية، مما يعده النقاد جذوراً للمدرسة الرومانسية التي ظهرت بعد الكلاسيكيّة.
يشكل (ماليرب) مدرسة واضحة بنفسه أثّرت في تجديد الشعر في بداية القرن السابع عشر، لم يؤيّد اتجاهات رونسار، بل انتقده في كتابه (الفن الشعريّ)، ولشدّة تأثيره في المدرسة الكلاسيكية قال عنه (بوالو): (وأخيراً جاء ماليرب..)، ولكنه لم يصبح مدرسة ذات شهرة واتساع إلا بعد وفاته بأربعين عاماً، وهذا يحدث في الأدب كثيراً.
عاد (ماليرب) بالشعر الفرنسي إلى صفاته الوطنية الأصيلة، وله في موسيقا الشعر آراء إيجابيّة، وجاء بشعرٍ جميل الإيقاعيّة، وكان يرفض التقليد المبالغ فيه للقدماء، ولم يكن يرى مانعاً من الاقتباس من أفكار القدماء، لا من تقنيات التعبير وأساليبه، أما أدبه فهو أدب العقل والفكر وموضوعات الساعة لا أدب الخيال والرمز، وكان قدوة في أسلوبه لموليير وراسين مع احتفاظ مقلّديه بطابعهم الشخصيّ، يؤثر السهولة والوضوح والمنطق ويعوّل فقط على اللغة الفرنسية كما هي لدى أعمق الطبقات الشعبية، أمّا قواعد اللغة فقد بقيت عنده أصيلة.
كانت هذه لمحة عن أهم المدارس والتيارات التي ظهرت في بدايات الكلاسيكية الفرنسية، وفي المقال القادم سنتحدث عن العصر الذهبي للكلاسيكية ومرحلة ازدهارها والظروف والعوامل والتأثيرات التي أسهمت فيها.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Literature_Language/0/6288/#ixzz2UJkm1PSE