تحليل قصائد أمل دن
قصيدة : مقابلة خاصة مع ابن
نوح
__________________________ جاء طوفانُ نوحْ! المدينةُ تغْرقُ شيئاً.. فشيئاً تفرُّ العصافيرُ, والماءُ يعلو. على دَرَجاتِ البيوتِ - الحوانيتِ - - مَبْنى البريدِ - - البنوكِ - - التماثيلِ (أجدادِنا الخالدين) - - المعابدِ - - أجْوِلةِ القَمْح - - مستشفياتِ الولادةِ - - بوابةِ السِّجنِ - - دارِ الولايةِ - أروقةِ الثّكناتِ الحَصينهْ. العصافيرُ تجلو.. رويداً.. رويدا.. ويطفو الإوز على الماء, يطفو الأثاثُ.. ولُعبةُ طفل.. وشَهقةُ أمٍ حَزينه الصَّبايا يُلوّحن فوقَ السُطوحْ! جاءَ طوفانُ نوحْ. هاهمُ "الحكماءُ" يفرّونَ نحوَ السَّفينهْ المغنونَ- سائس خيل الأمير- المرابونَ- قاضى القضاةِ (.. ومملوكُهُ!) - حاملُ السيفُ - راقصةُ المعبدِ (ابتهجَت عندما انتشلتْ شعرَها المُسْتعارْ) - جباةُ الضرائبِ - مستوردو شَحناتِ السّلاحِ - عشيقُ الأميرةِ في سمْتِه الأنثوي الصَّبوحْ! جاءَ طوفان نوحْ. ها همُ الجُبناءُ يفرّون نحو السَّفينهْ. بينما كُنتُ.. كانَ شبابُ المدينةْ يلجمونَ جوادَ المياه الجَمُوحْ ينقلونَ المِياهَ على الكَتفين. ويستبقونَ الزمنْ يبتنونَ سُدود الحجارةِ عَلَّهم يُنقذونَ مِهادَ الصِّبا والحضاره علَّهم يُنقذونَ.. الوطنْ! .. صاحَ بي سيدُ الفُلكِ - قبل حُلولِ السَّكينهْ: "انجِ من بلدٍ.. لمْ تعدْ فيهِ روحْ!" قلتُ: طوبى لمن طعِموا خُبزه.. في الزمانِ الحسنْ وأداروا له الظَّهرَ يوم المِحَن! ولنا المجدُ - نحنُ الذينَ وقَفْنا (وقد طَمسَ اللهُ أسماءنا!) نتحدى الدَّمارَ.. ونأوي الى جبلٍِ لا يموت (يسمونَه الشَّعب!) نأبي الفرارَ.. ونأبي النُزوحْ! كان قلبي الذي نَسجتْه الجروحْ كان قَلبي الذي لَعنتْه الشُروحْ يرقدُ - الآن - فوقَ بقايا المدينه وردةً من عَطنْ هادئاً.. بعد أن قالَ "لا" للسفينهْ .. وأحب الوطن! ![]() |
|
|
|
|
"جاء طوفان نوح". وحين يستخدم الشاعر أو الكاتب جملة فعلية، يعني أن هناك حدثاً ما قد وقع، أو يقع، تتناولـه حركة الفعل على لسان الراوي أو الشاهد، والجملة بتكوينها هذا تشير إلى أن طوفان نوح حدثٌ قد وقع فعلاً في الزمن الماضي.. البعيد، لكن حركة الفعل داخل النّص الشعري /الحكاية/ وما يوحيه لنا العنوان، تشي أن المقابلة مع ابن نوح جرت في الزمن الراهن، وليس لنوح أية علاقة بالمقابلة وبالتالي فالحكاية القصيدة، ليست رصداً للحادثة التاريخية. فالمقطع الثاني من القصيدة يخلو تماماً من الفعل الماضي، بينما يعتمد على الأفعال المضارعة المتعددة: //المدينة تغرق.. والعصافير تفرّ.. ويطفو الأوزّ على الماء.. والصبايا يلوّحن فوق السطوح.. إلخ//. هنا تدخل القصيدة /الحكاية/ في لعبة الزمن. فطوفان نوح ضارب في القدم لكنّ طبيعة الأسماء ودلالات الأمكنة، ومفردات الحياة الواردة في محور القصيدة، طبيعة معاصرة وحاضرة في الذهن والواقع: ((مبنى البريد –البنوك- مستشفيات الولادة- بوابة السجن- أروقة الثكنات- إلخ)). ثم نتلمس في المقطع الثالث –رغم استخدامه للفعل المضارع- طبيعة الأسماء الحاضرة في التاريخ القديم. وليس لها علاقة بالراهن كمفردات تحمل دلالات الزمن الذي تنتمي إليه: //الحكماء –قاضي القضاة- حامل السيف- راقصة المعبد-)). ثم في المقطع الرابع يعود الزمن الراهن بمفرداته المعاشة: ((الجبناء –السفينة- شباب المدينة- مهاد الصبا- الوطن.. الخ)). هكذا يتيسّر لنا أن نكتشف تداخل الأزمنة عبر صراع الحركة والتحول، كعنصر هام من عناصر الفن الحكائي- القصصي- لدى أمل دنقل، مستفيداً من أشكال وبنى فنية تعامل معها فن القصة والرواية. مما أثرى فن الحكاية الشعرية لديه. وطوّره بشكل يكاد يكون كثيفاً في مرحلة ما بعد السياب وعبد الصبور وأدونيس ودرويش وسعدي يوسف- فالزمن لديه ليس في تحديد زمن وقوع الفعل فحسب، وإنّما أيضاً مدى الحركة والحيوية.. حيوية العلاقة بالراهن التي يمنحها للنص الشعري، لتكتسب في النهاية رموزها ودلالاتها الفكرية والفنية. 2-يشير عنوان القصيدة إلى /الحكاية/ الأسطورة التي وردت في "التوراة" و"القرآن"، وفي أساطير شعوب أخرى كثيرة مثل الهند وبلاد ما بين النهرين /أسطورة جلجامش/. وقد ركّزت تلك الأساطير –كما في طوفان نوح- على الدلالة الأخيرة التي توجّت الطوفان الذي يرمز بشكل واضح- في الأسطورة- إلى بدايةٍ جديدة للحياة على الأرض. أو بداية تكوين العالم من السديم. وبالتالي هو رمز الولادة الجديدة للحياة، هو إنقاذ حفنة نيّرة من البشرية، من شرور حفنة من "الكافرين". غير أننا سنكتشف /في القصيدة/ أن أمل دنقل قد نسف المعادل الرمزي للأسطورة، وحوّلها إلى دلالة أخرى تماماً، هي دلالة الهدم والخراب والفزع، حتى العصافير ولّت هاربة، من رهبة هذا الطوفان المدمّر.. الذي أغرق كل شيء على وجه الأرض: ((البيوت- الحوانيت- مبنى البريد- البنوك- التماثيل لأجدادنا الخالدين –المعابد- أجولة القمح- مستشفيات الولادة.. دار الولاية.. الخ)). ثم تشي لنا القصيدة أن جزءاً كبيراً منها يرصد حركة الطوفان وحركة البشر معتمداً على النص القرآني* الذي يبدأ مباشرة بوصف السفينة الناجية، وذكر ابن نوح- الذي لم يذكره النص التوراتي** الحافل بالتفاصيل في وصف حركة الطوفان: كيف محى الله- بالطوفان- كل قائم على الأرض/-: //فتغطّت الجبال. فمات كل ذي جسد كان يدبّ على الأرض. من الطيور والبهائم والوحوش وكل الزحافات والتي كانت تزحف على الأرض وجميع الناس)). ولم يبق سوى نوح والذين صعدوا إلى السفينة من "الطاهرين". غير أن الشاعر يرى –عبر المفارقة في الرمز والدلالة- أن الناجين من الموت في الطوفان هم: الجبناء –الحكماء –المغنون- سائس الخيل- المرابون- قاضي القضاة /ومملوكه/ -حامل السيف- راقصة المعبد- جباة الضرائب- مستوردو الأسلحة- عشيق الأميرة في سمته الأنثوي.. الخ)). كل هذه الرموز، بما تحمله من دلالات اجتماعية وفكرية وسياسية، تنفي فكرة إنقاذ البشر الطيبين من الشرور، وتعترف بشكل خفي بوحدة التناقض وصراع الأضداد في الطبيعة والبشر، عبر مفارقة فكرية فلسفية بين الشاعر والأسطورة، مستخدماً إياها للتدليل على حركة الخراب الراهنة. هكذا تبنى القصيدة /الحكاية/ عبر حركة التحام وتداخل مع الواقع المعاصر، نكتشفها شيئاً فشيئاً في حركة طوفان من نوح آخر، حركة تغرق الأشياء المادّية المكوّنة للحياة- للحضارة بصفة عامة. فالطوفان هنا يمثل الغزو بمعناه الشمولي، كمقدمة للخراب الاجتماعي والثقافي والسياسي؛ على نقيض المعنى الدلالي للأسطورة /الطوفان" الذي يمثل إنقاذ البشرية من المهانة والفساد والشرور. لذلك جاءت بعض أجزاء القصيدة –التي تحفل بدرجة عالية من الرصد الخارجي- الموضوعي- لتعزّز بناء الحكاية في رصد حركة الحدث وانعكاسه الداخلي /الذاتي/ على موقف ومعاناة الشاعر في الزمن الراهن. فالت |