جهة نظر أدبية حول




الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنَّا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وما توفيقي ولا اعتمادي إلاَّ على الله، عليه توكَّلت وهو ربّ العرْش العظيم.
ثمَّ أمَّا بعد:
حول كتاب "دلائل الإعجاز" للجرجاني:
يَجب قبل الخوْض في أيِّ بحثٍ أو دراسة لِموضوعٍ ما، أن نلمَّ بفكرة ما، تَكون هي المفْتاحَ الَّذي ندخُل منه إلى تِلْك الدِّراسة أو البحْث، وهذا ما سوف أبيِّنه بعوْن الله - تعالى - عن تِلْك الفِكْرة التي أخذتها وكوَّنتها حول كتاب "دلائل الإعجاز" للإمام عبدالقاهر الجرجاني - رحِمه الله.
فقد بدأت بذور التَّدوين تنتشِر عمومًا مع تلك الخطوة الَّتي تلت جَمع المصْحف الشَّريف، والَّتي قام بها عُثمان بن عفَّان - رضِي الله عنْه - حيثُ تلا ذلك بعد فترة خطواتٌ مطَّردة متفاوتةٌ في الحماس لِجمع أشعار العرب، وجمع الأحاديث النَّبويَّة، وتقْعيد القواعد النَّحْويَّة، وكان ذلك لا يتجاوز العام الخمسين بعد المائة للهِجْرة، حيث ظهر أوائل النُّحاة الَّذين قعَّدوا القواعد، واستفادوا من النّصوص الشعريَّة الَّتي كانت متداولةً في أرْجاء شبه الجزيرة العربيَّة.
وما أُريد قوله مما سبق هو أنَّه في هذه الفترة لم تكُن آثار الثَّقافات والدِّيانات الأُخرى قد تغلْغَلت في الفِكْر العربي، بِما يَكْفي لتطرح شكوكًا واستِفهاماتٍ حوْل إعجاز الأسْلوب القرآني، ولكنَّ هذا الأمر بدأ يظهر واضحًا وجليًّا مع تغلْغُل النفوذ الفارسيِّ المرافق لضعْف الخلافة العباسيَّة، حيث كانت تلك التَّساؤلاتُ خافتةً، ثمَّ بدأت بالظُّهور بأشْكالٍ متفاوتةٍ ما بين شكٍّ واضحٍ ودعواتٍ مبطَّنةٍ، تَحمل في ظاهرها مسألةً عقائديَّةً؛ ولكنَّها تُخفي في باطنها شكًّا حول القرآن الكريم؛ هل هو وحيٌ إلهيٌّ أم صناعةٌ بشريَّةٌ؟
لم تكْتف تلك الدَّعوات والتَّساؤُلات بالظهور، بل أخذت بالتَّفرع العنقودي بين أصْحاب الملَل المختلفة، من يهوديَّة ونصرانيَّة ومجوسيَّة وهنديَّة، بَلْهَ أصحاب الفِرق الإسلاميَّة المتطرِّفة الَّتي تأثَّرت في نشأتها بإحدى تلك المِلَل السَّالفة الذِّكْر.
ولَم نعدم من شبه الجزيرة العربيَّة أولئك العرب الخُلَّص الَّذين شكَّكوا في أنَّ القرآن الكريم صناعةٌ ربَّانيَّةٌ، كأمثال المشْركين الَّذين عاصروا النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكان قولُهم واضحًا في هذا الشَّأن؛ حيثُ قالوا كما جاء في القُرآن الكريم: ﴿ لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا ﴾ [الأنفال: 31]، هذا عدا أنَّ بعضَهم قد حاول أن يقلِّد أسلوب القُرآن الكريم؛ كأمثال مسَيْلِمة الكذَّاب الذي صاغ بعض السّور على أنَّها وحيٌ إلهيٌّ يتنَزَّلُ عليه هو أيضًا.
هذا فيما يخصُّ العرب أنفسهم، أمَّا فيما يخصُّ العجم، فقد وردتْ بعضُ الأخبار الَّتي تُشير إلى أنَّ ابن المقفَّع قد حاول أن يقلّد القرآن الكريم؛ لأنَّه لم يكن يعتقد بإعجازه، ولكنَّه تبيَّن عجزه بعد ذلك وأعرض عن تِلْك الفكرة نهائيًّا؛ ذلك لأنَّه كان ضليعًا في الأساليب الكتابيَّة الأدبيَّة التي ظهرت من خلال مؤلَّفاته.
أمَّا غير الأدباء فلم يقِفوا على أسرار بلاغة القرآن الكريم، فقد كان هذا الحديث دائرًا فيما بينَهم على الدَّوام، ولكن دون أن يستطيع أحدٌ أن يقلّد شيئًا من القُرآن الكريم، أو أن يأْتي بسورة على نَمطه وأسلوبه، وفي نفس الوقت أيضًا لَم يكن المسلمون المعتقِدون بإعجاز الأسلوب القرآني قادرين على الإجابة عن كوْن القرآن الكريم معجزًا.
وهكذا وعندما بدأ عُلماء العربيَّة بتدْوين المؤلَّفات الخاصَّة بعلوم اللُّغة العربيَّة، فقد تفرَّعوا إلى قِسمين: الأوَّل يشمل اللغة وقواعدَها، والثَّاني يشمل الأدب ونصوصه، ثمَّ ظهر بعد ذلك اتّجاهٌ جديد أخذ من كلا الطَّرفين، وهو القسم الخاصّ بالحديث عن الإعجاز القرآني، وبمعنًى آخر كان هذا القسم ناتجًا أوَّلاً: عن إجابةٍ عن السّؤال الَّذي أثاره المشكِّكون في أنَّ القرآن الكريم غير معجزٍ بدايةً، ولَم يجدوا لسؤالهم جوابًا، وثانيًا: عن تساؤُل الغيورين على الإسلام والَّذين ظلُّوا وحيدين في السَّاحة، ولم يَستطيعوا إلى ذلك الوقت الإجابة عن السؤال: أين يكْمُن إعجاز القرآن الكريم؟
من ثمَّ فقد ظهرت المؤلَّفات التي بدأت البحث عن مكامن الإعجاز القرآني، وكان أصحابُها في ظاهرهم موصوفين بالورَع والتَّقوى والصَّلاح، وهم فِئَة من العلماء اختلفتْ عن نَمط العُلماء الَّذين كانوا متربِّعين على عرش الأدَب والنَّحو، وبمعنى أدقّ: فإنَّ العلماء الَّذين تحدَّثوا عنالإعجاز القرآني كانوا ثمرةً لتلاقُح الأدب والنَّحو معًا ومنهم صاحب كتاب "دلائل الإعجاز" الإمام عبدالقاهر الجرجاني - رحمه الله.
والحمد لله رب العالمين.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Literature_Language/0/22307/#ixzz2TIt01jQh