خصائص جماعة أبولو
خصائص جماعة أبولو الشعرية:
أولاً: النزعة الرومانسية عند شعراء أبولو:
في بدء عصر النهضة في أوروبا جهد الأدباء في إحياء الأدب الإغريقي واللاتيني القديم، وفي تقليده، وسمي الأدب الذي أبدعوه، وهو أدب القرن القرن السابع عشر، و الثامن عشر أدباً كلاسيكياً، وقد حرص الكلاسيكيون على جودة الصياغة، وفصاحة التعبير، وخضعوا للأصول والقواعد المرعية في اللغة والأدب، واستوحوا الآداب القديمة، واتخذوها نماذج تحتذى، أعمل الأديب الكلاسيكي عقله إعمالاً شديداً في نتاج أدبه، ولذا عيب على الشعراء الكلاسيكيين أنهم يضحون بالعاطفة المشبوبة من أجل الدقائق الذهنية، والوثبات الفكرية، ولم يخلف هذا الأدب شعراً غنائياً ولا قصصياً بل شعراً مسرحياً، وتمثلت الكلاسيكية في أدب راسين وكورني وموليير، وهم من كتاب المسرح.
وسئم كثير من الأدباء في أوربا الكلاسيكية وأخذوا يتخلصون من قيودها وصنعتها، عائدين إلى الطبيعة والريف وحياة البساطة والحرية، فظهرت الحركة الرومانسية في الأدب والنقد وفي الشعر خاصة.
وتتلخص دعوة الرومانسيين في الأدب فيما يلي:
1. تحطيم القيود الكلاسيكية، والرجوع إلى الذوق والعاطفة والوعي والإلهام ومحاولة التجديد، ولو كان في ذلك خروج على المواصفات اللغوية والقواعد الفنية.
2. ترك المدينة إلى الريف وإلى الطبيعة والترنم بجمالها الحر البسيط.
3. العناية بالطابع الشخصي وما يتبعه من ألوان العواطف والشعور ومن ثم اتجهوا إلى الشعر الوجداني الغنائي العاطفي.
4. التحرر من العالم المادي إلى العوالم المثالية.
5. البساطة في كل شيء: في التفكير والتعبير والتذوق والشعور وترك النفس على سجيتها، واتباع الفطرة والطبع الخالص.
ومن ثم صار الأديب والشاعر الرومانسي لا يستوحي إلا نفسه وإلهام ذوقه وصدى عاطفته، وأصبح يستلهم أدبه من الطبيعة والعواطف الإنسانية.
وقد قامت الرومانسية في إنجلترا ثم في ألمانيا وفرنسا ثم في إسبانيا وإيطاليا، والتيار الفلسفي الذي قامت عليه هو التيار العاطفي وجمهور الرومانسية هم الطبقة الوسطى، بعد أن كان جمهور أسلافهم هم الطبقة الأرستقراطية، ومن ثم فقد نهضت الطبقة الوسطى في ظل الرومانسية، وبدأت تسترد حقوقها ومكانتها.
ونهض الشعر الغنائي في ظل الرومانسية للاعتداد بالفرد ومشاعره فصار تعبيراً عن الانفعال أو عن التصور في أعلى درجات إيقاعه اللغوي، ومن ثم ولد الشعر الغنائي في مفهومه الحديث في الأدب الأوربي، وضعف شأن المدح التقليدي، وهان شأن الحكمي والتعليمي، وتكونت الوحدة العضوية للقصيدة، فأصبحت القصيدة ذات بنية حية تنمو من داخلها في اتساق تام نحو نهايتها على نحو ما ذهب إليه جوته وأوسكار وإيلد ولسنج.
وقد خلط الشعراء الرومانسيون مشاعرهم بمناظر الطبيعة، ودعوا في شعرهم إلى الأصالة، وكرهوا التقليد، حتى كان هوجو وهو من شعراء الرومانسية يقول: يجب أن يحذر الشاعر من النقل عن أي شاعر آخر.
ويلح الشعراء الفرنسيون الرومانسيون في التعبير عن ذواتهم، وعن فلسفة الألم التي تنطوي عليها جوانحهم، وازدهرت الرومانسية في القرن التاسع عشر، وقد عارضها بعض النقاد في أوروبا وأخذوا على أصحابها إسرافهم في التشاؤم والنحيب والتغني بالألم والغناء والأطلال والتبرم بالحياة، ألم يقل شاعر رومانسي: أنني أحب الألم البشري، وألم يقل شاعر آخر: المرء طفل معلمه الألم، ولا شيء يسمو بنا إلى العظمة كما يسمو الألم.
ودعوة أبولو لا تبعد عن الدعوة الرومانسية هذه.. فقد دعا أدباؤها ونقادها إلى:
1. الثورة على التقليد والدعوة إلى الأصالة والفطرة الشعرية والعاطفة الصادقة وإطلاق النفس على سجيتها، وإلى الطلاقة الفنية، والبعد عن الافتعال وإلى التناول الفني السليم للفكرة والمعاني والموضوع.
2. البساطة في التعبير والتفكير، وفي اللفظ والمعنى والأخيلة ويتبع ذلك التحرر من القوالب والصيغ المحفوظة وأساليب القدماء.
3. تركيز الأسلوب والرجوع إلى النفس والذات وإلى العاطفة الإنسانية الصادقة، والاتجاه إلى الشعر الغنائي العاطفي وإلى التأمل الصوفي.
4. الغناء بالطبيعة الجميلة وبالريف الساحر.
5. الغناء بالوحدة والألم والسأم والقلق النفسي والعذاب الروحي.
6. العناية بالوحدة العضوية للقصيدة وبالانسجام الموسيقي.
وهذا الاتجاه العام لمدرسة أبولو هو نفس الاتجاه الرومانسي في الآداب الأوربية.
ثانياً: خصائص القصيدة عند شعراء أبولو:
التجربة الشعرية:
لم تعد القصيدة عند مدرسة أبولو استجابة لمناسبة طارئة، أو حالة نفسية عارضة، بل صارت تنبع من أعماق الشاعر، حين يتأثر بعامل معين أو أكثر، ويستجيب له أولها استجابة انفعالية قد يكتنفها التفكير وقد لا يكتنفها ولكن لا تتخلى العاطفة عنها أبداً، ومن أجل ذلك حاربت هذه المدرسة شعر المناسبات، ودعت إلى تمثيل الشعر لخلجات النفوس، وتأملات الفكر وهزات العواطف، كما دعت إلى الطلاقة والحرية الفنية وظهور الشخصية الأدبية، وإلى الطاقة الشعرية الابتداعية، مع الابتعاد عن التكلف والافتعال والتصنع، كما عملت على توكيد الدعوة إلى البساطة وصدق التعبير، وطالما نادوا بأن الشعر إنما هو بأحاسيسه وارتعاشاته وومضاته، ومن ثم لم يقبلوا على قصائد المدح والتكريم والمناسبات الطارئة.
الموضوعات:
كان موضوع الحب والمرأة في مقدمة اهتمامات هذا الاتجاه، وقد كان الشعراء يتخذون من الحب ملاذاً يفرون إليه من عذاب الحياة، وعزاء يعوضون به ظلم الدهر، ومرقى يسمون عليه فوق العالم الأرضي، ومن ذلك قول ناجي:
هَوى كالسحر صيَّرني |
|
أرى بقريحة الشُهب |
وطهرني وبصـَّرني |
|
ومزق مغلق الحجب |
* * * |
||
سموت كأنني أمض |
|
إلى رب يناديني |
فلا قلبي من الأرض |
|
ولا جسدي من الطين |
* * * |
||
سموت ودق إحساسي |
|
وجزت عوالم البشـر |
نسيت ضغائن الناس |
|
غفرت إساءة القدر |
وكان بعض الشعراء يكلف بالمرأة روحاً ووجداً وعذاباً، وبعضهم يهيم بها جسداً ومتعة ونعيماً.
يقول ناجي واصفاً لصاحبته بعض ما يعني من وحدة وجوى وخداع وهم وخيبة أمل:
كم مرة يا حبيبي |
|
والليل يغشى البرايا |
أهيم وحدي وما في الظلام |
|
شاك سوايا |
أصير الدمع لحنا |
|
وأجعل الشعر نايا |
يشدو ويشدو حزينا |
|
مردداً شكوايا |
مستعطفاً من طوينا |
|
على هواه الطوايا |
حتى يلوح خيال |
|
عرفته في صبايا |
يدنو إلي وتدنو |
|
من ثغره شفتايا |
إذا بحلمي تلاشى |
|
واستيقظت عينايا |
ورحت أصغي وأصغي |
|
لم ألف إلا صدايا |
ويقول صالح جودت معبراً لصاحبته عن الظمأ الذي يعانيه، واللهفة إلى الري الذي يطمع فيه:
أجل ظمآن يا ليلى |
|
وماء الحب في نهرك |
خذيني في ذراعيك |
|
وضميني إلى صدرك |
دعيني أشرب النور الذي ينساب في شعرك |
||
وروي لهفة الظمآن بالقبلة من ثغرك |
||
هبيني ليلة أثمل يا ليلاي من خمرك |
كما ظهرت النزعة الصوفية في الحب عند شعراء أبولو، وأخذوها تياراً عاطفياً يتمثل في فلسفتهم العاطفية المملوءة بالحب والحرمان والألم والعذاب والضنى والأرق، فالحب عندهم متعة للروح لا الجسد. وهذه نزعة الرومانتيكيين السائدة، وقصيدة الشابي «صلوات في هيكل الحب» مثل من أمثلة هذه الظاهرة الفنية، ويقول في مطلعها:
عذبة أنت كالطفولة كالأحلام |
|
كاللحن كالصباح الجديد |
كالسماء الضحوك كالليلة القمراء |
|
كالورد كابتسام الوليد |
إلى أن يقول:
أنت تحيين في فؤادي ما قد |
|
مات من أمسي السعيد الفقيد |
والصباح الجميل ينعش بالدفء |
|
حياة المحطم المكدود |
أنقذيني فقد سئمت ظلامي |
|
أنقذيني فقد سئمت ركودي |
وإبراهيم ناجي يقول من قصيدته «رسائل محترقة»:
ذوت الصبابة وانطوت |
|
وفرغت من آلامها |
لكنني ألقى المنايا |
|
من بقايا جامها |
عادت إلى الذكريات |
|
بحشدها وزحامها |
في ليلة ليلاء أرقني |
|
عصيب ظلامها |
هدأت رسائل حبها |
|
كالطفل في أحلامها |
أشعلت فيها النار ترعى |
|
في عزيز حطامها |
تغتال قصة حبنا |
|
من بدئها لختامها |
أحرقتها ورميت قلبي |
|
في صميم ضرامها |
ومن أهم الموضوعات التي عني بها شعراء هذا الاتجاه موضوع الطبيعة، فهي عندهم الأم الرؤوم، والملاذ الذي يجدون السكينة في جواره، بعيدين عن زيف المدنية وصخب المدينة، وهم لا يقبلون عليها واصفين، ولا يصفونها مادحين، إنما يندمجون في روحها ويعانقونها عناق الأحباب، ويصفون إحساسهم ومشاعرهم نحوها أكثر مما يصفون مشاهدها الجميلة، وهذا اتجاه رومانسي واضح، فالرومانسية تدعو إلى أن يستلهم الشاعر فنه من الطبيعة والعاطفة الإنسانية.
والشعراء الرومانسيون يفرون من المدينة إلى الريف، ويلقون بأنفسهم في أحضان الطبيعة، ويترنمون بجمالها الخالص، لأنهم يعتزون بالحرية، ومن ثم كرهوا قيود المدينة ولجأوا إلى الريف الحر البسيط يستلهمونه أعذب ما ينظمون من أناشيد وقصائد في وصف الطبيعة.
وقد أجاد الصيرفي وشكري وأبوشادي وناجي والشابي وعلي محمود طه، ومحمود حسن إسماعيل وحسن كامل الصيرفي.
فأبوشادي يفر من عالم الناس إلى محراب الطبيعة فيقول:
ورجعت للماء المعربد مستزيداً ما حكاه |
ورجعت للزهر المبادل من يضاحكه أساه |
وتركت كون الناس في يأس إلى كون سواه |
ويقول الصيرفي مناجيا «شجرة عارية»([1]) يمتزج بها، ويبثها أحزانه، ويقارن بين حظها وحظه:
أنا أنت... لكن خبريني: |
|
أترى أعود إلى ربيعي |
ترويك أمطار الشتا |
|
ء ارتويت من الدموع |
* * * |
||
أنا أنت.. منتشـر الغصون مددت ظلي في الحياة
مددت ظلي في الحياة |
||
لكن أهواء الخريف كأنها حكم الطغاة |
||
عصفت بأوراقي فلا ظل يمد علي
هُواتي |
||
لكن يعود لك الربيع فهل يعود إذاً ربيعي |
||
أنا أنت..منفرد يحيط بي السكون بلا سمير |
||
لكن تحيط بك الطيور كعهدك الماضي الزهير |
||
وتحط فوقك تطلب الذكرى وتهجرني طيوري |
||
ولسوف يرتد الربيع .. فخبريني عن ربيعي |
فالشجرة العارية مثلاً ـ في فصل الخريف قد تكون مشهد مألوفاً، أو مرأى معتاداً لا يستلفت نظر الكثيرين من الشعراء أو يستوقفهم، ولكن الصيرفي ـ يشاركه في ذلك بعض شعراء جيله، وبخاصة رفقاؤه في رحاب جمعية أبولو الشعرية ـ تستوقفه تلك الشجرة، وتستمطر دموعه، وتهيج خواطره، وتوقظ في نفسه أحزانه فيروح ينظر إلى نفسه من خلال تلك الشجرة المعراة من مظاهر النضرة والحياة، ويروح لسانه يتردد في فمه مترجماً عن تلك الأحاسيس والمشاعر بهذه الأبيات التي وجهها إلى تلك الشجرة.
مؤكداً أن الربيع سيعود إلى تلك الشجرة يوماً، وستكسوها الخضرة حين يرحل الشتاء، وينقشع الظلام، أما هو فهيهات أن يعود ربيعه إليه! ([2]).
ويقول محمود حسن إسماعيل من قصيدته «الناي الأخضر»([3]) راسما صورة حية من المرح والنشوة، التي تملأ وجدانه ببعض مظاهر الطبيعة البسيطة، وكأنه يستعيض بها عما حرم من مرح ونشوة في دنيا الناس:
زمارتي في الحقول قد صدحت |
|
فكدت من فرحتي أطير بها |
الجدْيُ في مرتعي يراقصها |
|
والنحل في ربوتي يجاوبها |
والضوء من نشوة بنغمتها |
|
قد مال في ردأة يلاعبها |
رنا لها من جفون سوسنة |
|
فكاد من سكره يخاطبها |
نفخت في نايها فطربني |
|
وراح في عزلتي يداعبها |
سكران من بهجة الربيع بلا |
|
خمر به رقرقت سواكبها |
كما كان الحنين إلى مواطن الذكريات، والهروب إليها في لهفة حزينة وتعطش مُر، وذلك فراراً من الحاضر المؤلم والواقع المنفر.. ومواطن الذكريات عندهم كثيراً ما تكون مرابع للطبيعة، أو مدارج للحب، أو مسارح قد لعب الحب عليها أدواره بين أحضان الطبيعة.
وكثيراً ما كان هذا الهروب إلى مواطن الذكريات يصاب بخيبة الأمل، ويصطدم بالواقع المرير الذي يضاعف الحسرة ويزيد مما يحس به الشاعر من مرارة، يقول ناجي في دار أحبابه مجسماً فجيعته حين عاد إليها وهي مهد أعذب ذكرياته فوجدها قد تغيرت وحال فيها كل شيء.
هذه الكعبة كنا طائفيها |
|
والمصلين صباحاً ومساء |
كم سجدنا وعبدنا الحسن فيها |
|
كيف بالله رجعنا غرباء |
* * * |
||
دار أحلامي وحبي لقيتنا |
|
في جمود مثلما تلقى الجديد |
أنكرتنا وهي كانت إن رأتنا |
|
يضحك النور إلينا من بعيد |
رفرف القلبي بجنبي كالذبيح |
|
وأنا أهتف يا قلبي اتئد |
فيجيب الدمع والماضي الجريح |
|
لم عدنا؟ ليت أنا لم نعد |
* * * |
||
أين ناديك وأين السمر |
|
أين أهلوك بساطاً وندامى |
كلما أرسلت عيني تنظر |
|
وثبت الدمع إلى عيني وغاما([1]) |
ويقول الهمشري في قريته، وكان قد أمل أن يكون في العودة إليها مهرباً لروحه المعذب، وملاذاً لقلبه الجريح، ولكنه اكتشف أنه انتقل إليها بأعباء نفسه وعذاب روحه وجراحات قلبه، وبكل ما تحمله الدنيا من أوجاع فانعكس كل هذا على جمال القرية فجعلها شائهة،واختلط بصفو الطبيعة فيها فكدرها، وكانت خيبة الأمل، واصطدام الذكريات الحلوة بالواقع المرير:
رجعت إليك اليوم من بعد غربتي |
|
وفي النفس آلام تفيض ثوائر |
أتيت لألقى في ظلالك راحة |
|
فيهدأ قلبي وهو لهفان حائر |
ولكن بلا جدوى أتيت فلم أجد |
|
سوى قفرة أشباحها تتكاثر |
وقد نسجت أيدي الشتاء سياجها |
|
عليها وأسوار الظلام تحاصر |
ومن أبرز الموضوعات والتجارب الشعرية التي اهتم بها شعراء هذا الاتجاه، موضوع الشكوى، فهم كثيراً ما يفضون بأحزانهم ويصورون آلامهم، التي تكون أحياناً واضحة الأسباب مبررة وأحياناً غامضة غائمة مجهولة المصدر، حتى لنرى الواحد منهم وكأنه يحزن لمجرد الحزن ويشكو لمجرد الشكوى، أو كأنه يجد في الحزن متعة، أو في الألم لذة، كما يجد في الشكاية تعبيراً عن متعة الحزن ولذة الألم، ولعل ذلك لاعتقادهم ككل الرومانتيكيين ـ أن الألم يطهر النفس والحزن يسمو بالروح، أو لاعتقادهم أن الألم من سمات الحساسين والحزن من صفات الواعين الشاعرين([2]).
يقول الهمشري، متحدثاً عن وحدته وعذابه، وضياع أمله ومرارة يأسه، ويتعلل أخيراً بخلود الشعر ومجد الفن:
جَلَستُ عَلى الصَخرِ الوَحيد وَحيداً |
|
وَأَرسَلتُ طَرفي في القَضاءِ شَريدا |
وَكَفكَفتُ دَمعاً لا يُكُفكُ غَربُهُ |
|
وَواسَيتُ قَلباً في الضُلوعِ عَميداً |
أرى صَفحةَ الآمالِ قد ضاق أُفقُها |
|
وَلاحَ عَلىِ اليَأسِ البَعيدِ مَديدا |
لَقَد عِشتُ في دُنيا الخَيالِ مُعَذَّباً |
|
فَيا لَيتَ شِعري هَل أموتُ سَعيدا |
لَقَد كُنتُ في الدُنيا جَمالاً يَزينُها |
|
بِما شادَهُ شِعري عَلى هَذِهِ الدُنيا |
خَلَقتُ لِروحي سِحرَها لا لِغَيرِها |
|
وَمِن أجلِها أقضي وَمِن أجلِها أحيا |
إِذا ذَبُلَ النارِنجُ عاشَ عَبيرُهُ |
|
وَكانَ لَهُ في الوَهمِ مِن نَفحِهِ مَحيا |
وَيَخلُدُ بَعدَ البَدرِ في الفِكرِ رَونَقٌ |
|
يُغَذّي خَيالي الشِعرَ وَالحُبَّ وَالوَحيا([3]) |
ويربط حسن كامل الصيرفي بين الحب اللاهب، وما يعقبه من أنات وآهات في قصيدة بعنوان «انفردت»([4]):
يا فؤادي بعد إيناس الأماني انفردت!
ثم جئت الآن تشكو ما تعاني هل عرفت
يا فؤادي سر آلام الحياه؟
إنه الحب إذا ولى سناه
فالمرأة التي فجرت ينابيع شاعريته في بعض القصائد هي نفسها المسؤولة عن تفجير الشكوى الآلمة في نفسه حين جفته وقلَتْه.
ومن الموضوعات التي برزت عند شعراء أبولو تصوير البؤس وإبراز بعض الجوانب المظلمة في المجتمع، فقد عنى بعض الشعراء بتصوير تعاسة الريف وشقاء الفلاح، كما عنوا بإبراز مأساة بعض ضحايا المجتمع كالمشرد والبغي، وكان أكثر الاهتمام في هذا الشعر الاجتماعي موجهاً إلى الريف وما يعاني من تخلف وفقر، وإلى الفلاح وما يقاسي من ظلم وقهر حتى لقد كتب أبوشادي عديداً من القصائد في الريف والفلاح([5])، بل كتب محمود حسن إسماعيل ديواناً كاملاً سماه «أغاني الكوخ»([6]) وجعل محوره القرية وساكنيها وقصد ـ فيما قصد ـ تعميق الإحساس بالريف ومأساته، وبالفلاح والظلم الاجتماعي الواقع عليه.. يقول أبو شادي عن الفلاح الذي سماه «أميرنا الصعلوك»([7]) محملاً المجتمع إثم تخلفه، بل مجاهراً بأن المجتمع سيظل مجرماً حتى ينصف الفلاح المظلوم:
هو ذلك الفلاح يا قومي الذي |
|
يحيا حياة سوائم ورغام |
وهو الذي لو لاه ما ارتفعت لنا |
|
رأس ولا كنا من الأقوام |
إنا جميعاً مجرمون إزاءه |
|
حتى يخلص من هوى الإجرام |
حتى ينال حقوقه في عيشه |
|
خلصت من الأدران والأسقام |
ويقول محمود حسن إسماعيل، جاعلاً من بكاء الساقية رمزاً لبكاء نفسه، ومن الثور المغمض العين، الذي يدور والنير على كتفيه والسوط يلهب ظهره، رمزاً لهذا الفلاح الكادح المعذب، الذي أغمض الجهل عيونه، وأثقل الذل كاهله، وألهب العذاب ظهره، تماماً كهذا الثور الذي تنوح عليه الساقية أو تنوح عليه نفس الشاعر([8]).
لها عيون دائمات البكا |
|
بمدمع كالسيل في رفده |
دؤوبة الشكوى على راسف |
|
في الذل مفجوع على جده |
دارت به البلوى فما راعه |
|
الإعماء غال من رشده |
أعمى رماه البين في دارة |
|
لم يدر نحس الخطو في سعده |
شُدّت حبال الذل في رأسه |
|
وفَت صرفُ الرِّق في كِبده |
مَنَادِحُ الضجة في أذنه |
|
ومَلْعَبُ السوط على جلده |
والسائق الأبله لا ينثني |
|
عن ضربه العاتي وعن كبده |
يتلو على آذانه سورة |
|
من قسوة السيد على عبده |
ومن الموضوعات التي التفت إليها بعض شعراء هذا الاتجاه موضوع التأمل ـ وهذا التأمل كان يتجه إلى حقائق الكون بلمحة الصوفي حيناً، كما كان يرمقها بعين المتفلسف حيناً آخر، ولكن كل التأملات كان يغلب عليها الجيشان العاطفي ومن الحقائق التي كان يتأملها هؤلاء الشعراء، حقائق الكون، والخير والشر، والخلود والفناء، والحياة والموت، وما إلى ذلك.
ومن نماذج هذا الشعر التأملي، قول الصيرفي من قصيدة بعنوان «الحيارى»([9]) مناجياً الله عز وجل، ومعبراً عن حيرة الإنسان إزاء سره:
قد سبحنا بالفكر عندك يا رب |
|
فتاهت أرواحنا في سمائك |
وشدونا ما قد شدونا ولكن |
|
ضاع هذا جميعه في فضائك |
وعرفنا من الخيال معانيه |
|
وغابت عنا معاني جلائك |
وسمعناك في الضمائر توحي |
|
ما يهز القلوب من إيحائك |
فجهلناه واستمعنا إلى ما |
|
يملأ الجو من صغير هوائك |
.................. |
|
|
أنت قدرت أن نعيش حيارى |
|
والحيارى على الرضا بقضائك |
وأبيات هذه القصيدة تعلوها مسحة تصوفية رقيقة، ولكنه التصوف الواضح المعتدل، لا السابح في تهاويم الفكر، ومجاهل الخيال.
ومن الشعر التأملي أيضاً قول إبراهيم ناجي من قصيدة «الحياة»([10]) مبيناً كيف يضل الإنسان إذا تأملها، حتى ليستوي جهله وعلمه، لأن حقيقته أنه صغير مغرور:
جلست يوماً حين حل المساءْ |
|
وقد مضى يومي بلا مؤنس |
أريحُ أقداما وهت من عياءْ |
|
وأرقب العالم من مجلسـي |
أرقبه يا كد هذا الرقيب |
|
في طيب الكون وفي باطله |
وما يبالي ذا الخضم العجيب |
|
بناظر يرقب في ساحله |
سيان ما أجهل أو أعلم |
|
من غامض الليل ولغز النهار |
سيستمر المسـرح الأعظم |
|
رواية طالت وأين الستار |
عييت بالدنيا وأسرارها |
|
وما احتيالي في صموت الرمال |
أنشد في رائع أنوارها |
|
رشدا فما أغنم إلا الضلال |
يا رب غفرانك إنا صغار |
|
ندب في الأرض دبيب الغرور |
نسحب في الدنيا ذيول الصغار |
|
والشيب تأديب لنا والقبور |
|
|
|
ومن قصيدة «أكذوبة الموت» ([11]) للشاعر صالح جودت نراه يتحدث عن خلود الروح، ويصل من ذلك إلى استمرار حياة الإنسان برغم انتقاله من هذه الدنيا، وفيها يقول:
قد حرت في الموت وفي أمره |
|
وما زواه الله من سره |
وكلما سألت عنه امرأ |
|
أجابني: والله لم أدره |
والروح إما حل في غيره |
|
أو آثر الإخلاد في بئره |
فلم يقول الناس مات امرؤ |
|
إن هاجر الدنيا إلى قبره |
أليس في القبر حياة امرئ |
|
تطول بالمرء إلى حشـره |
فكيف قالوا إنه ميت |
|
من يوم أن غيَّب عن دهره |
وليس بعد رحلتيه سوى |
|
جديد عيش دَبَّ في إثره |
هذا، وقد كان شعراء هذا الاتجاه يبتعدون ـ في فترة ظهوره ـ عن الشعر السياسي وعن شعر المناسبات بصفة عامة، باستثناء أحمد زكي أبو شادي، الذي كان يهتم بالموضوعات السياسية والوطنية والقومية منذ وقت مبكر، حتى لقد أظهر ديواناً كاملاً باسم «مصريات»، وفي «ديوانه الشفق الباكي » قصائد عن:
«اضطهاد الرأي العام»، و«مصر للحضارة»، و«عصبة النيل»، و «المؤتمر الوطني»، و «الطيار المصري»، و«بيت الأمة»، و «الزعيم» و «الكرامة القومية»، و«دار ابن لقمان»، «كارثة دمشق».
ولكن بعد سنوات من ظهور هذا الاتجاه، أخذ شعراؤه يكتبون في الموضوعات السياسية والقومية والوطنية، بل أخذوا يخوضون بشعرهم بعض المناسبات التي كانت من أهم مجالات الشعراء المحافظين.
وبرغم هذا ـ بقيت الموضوعات الغالبة على شعرهم هي تلك الموضوعات المتصلة بالحب والطبيعة والحنين والشكوى والتأمل.
الأسلوب وطريقة الأداء:
خصائص هذا الاتجاه من حيث الأسلوب وطريقة الأداء، أساسها الطلاقة البيانية، والحرية التعبيرية، بحيث تستعمل اللغة استعمالاً جديداً أو شبه جديد، في استخدام الألفاظ ودلالتها، ووضع الصفات من موصوفاتها، ثم في التوسع الكبير في المجازات والابتكار المبدع في الصور، ثم في تفضيل معجم شعري خاص، مؤثر من الكلمات ما كان ذا موسيقى معينة، ومن التعابير ما كان ذا إيحاءات خاصة.
ومن خصائص هذا الأسلوب:
1.التوسع في نقل الألفاظ من مجالاتاستعمالها القريبة المألوفة، إلى مجالات أخرى بعيدة مبتكرة، لا عن طريق المجاز القديم المعتمد على العلاقات التي ذكرها البلاغيون، وإنما عن طريق مجاز جديد معتمد على تراسل الحواس، بحيث يستعمل للشيء المسموع ما أصله للشيء الملموس أو المرئي أو المسموع، والعكس ومن هنا يتحدثون عن: نعومة النغم، أو بياض اللحن، أو تعطر الأغنية.
2. التجسيم وهو تحويل المعنويات من مجالها التجريدي إلى مجال حسي، ثم بث الحياة فيها أحياناً وجعلها كائنات حية تنبض وتتحرك.
يقول ناجي في معاودة ذكريات حب قديم([1]):
ذوت الصبابة وانطوت |
|
وفرغتُ من آلامها |
عادت إليّ الذكريات |
|
بحشدها وزحامها |
فالصبابة ـ وهي تجريدية ـ يجعلها الشاعر تذوي كالنبات، وتنطوي كالبساط، والذكريات ـ وهي من المجردات ـ تعود بتجسيم الشاعر في احتشاد وازدحام، كأنها أشياء مجسمة أو كائنات حية وليست معاني مجردة.
3. التشخيص: أي منح الحياة الإنسانية لما ليس بإنسان، حتى ليتصور شعراء هذا الاتجاه ما ليس إنساناً وكأنه إنسان يحس إحساسه، ويفكر تفكيره، ويفعل أفعاله ومن ذلك قول الهمشري([2]):
فنسيم المساء يسـرق عطراً |
|
من رياض سحيقة في الخيال |
* * * |
||
صور المغرب الذكي رباها |
|
فهي تحكي مدينة الأحلام |
ووراء السياج زهرة فل |
|
غازلتها أشعة في المساء |
* * * |
||
إن هذي الأزهار تحلم في الليل وعطر النارنج خلف السياج |
||
* * * |
||
والندى والظلال تنعس في الماء وهذا الشعاع خلف الغمام |
فالشاعر يجعل النسيم لصاً ظريفاً، يسرق العطر من رياض سحيقة في الخيال، كما يجعل المغرب مصوراً ذكياً ترسم ألوانه لوحة الربا، ثم يجعل أشعة المساء محباً غزلاً، وزهرة الفل حبيبته التي يوجه إليها هذا الغزل، وأخيراً يجعل الأزهار تحلم في الليل، والندى والظلال تنعس في الماء. وكل هذا بسبب منح الشاعر الحياة الإنسانية لهذه المظاهر الطبيعية، واعتبارها ـ في تصوره ـ كالبشر في إحساسهم وتفكيرهم وأفعالهم.
4. التجريد وهي تحويل المحسوسات من المجال المادي الذي هو طبيعتها، إلى مجال معنوي هو من خلق الشاعر ومنها قول محمود حسن إسماعيل في شمعة غرفته([3]):
كأنها والدَّجْنُ يلهو بها |
|
أمنيةُ في يأسها فانية |
فالشمعة والظلام يلهو بها أمنية فانية عند محمود حسن إسماعيل.
5. التعاطف مع الأشياء، الذي يصل أحياناً إلى حد الامتزاج بها أو الحلول فيها والتفكير من خلالها. فهو يجعل الشيء يفكر بدلاً منه، ويحس نيابة عنه، ويعبر عما يريد هو أن يؤمي إليه.
يقول الصيرفي عن «عقب السيجارة»([4]):
في الأرض ملقاة مُذَهَّبَة |
|
هذي البقية من سجارتها |
منبوذة كانت مقربة |
|
من ثغرها تفني لسلوتها |
كانت تؤانسها فتخلق من |
|
موج الدخان عوالما شتى |
كانت تؤانسها فتبعث من |
|
قبر الحياة حوادثا موتى |
* * * |
||
فرمت بها يا سوء ما يلقى |
|
من عز يوما من هوى الغيد |
يفنى الفؤاد هوى وما أشقى |
|
قلبا يضحى فوق جلمود |
فعقب السيجارة من شأنه أن يلقى، وألا يصان في متحف، ولكنها ليست سيجارة عادية، إنها سيجارة امتزج بها الشاعر وفكر من خلالها، أو ربط بين مأساته ومأساتها، فجعلها تحس بما أحس به، حين نبذته الحبيبة وطرحته، بعد أن كان المؤنس الذي يخلق لها عوالم شتى، ويبعث حولها الحوادث الموتى، ولهذا الامتزاج بين الشاعر والسيجارة، كانت صرخته من أجل هذا «العقب» الملقي على الأرض، أو من أجل نفسه الممثلة في هذا «العقب».
6. التعبير بالصورة، وهذه الصور تكون حيناً صوراً جزئية تؤلف لتجسيم الفكرة، أو لتعميق الإحساس بالعاطفة، كقول أبي شادي في ملاحة حسناء([5]):
هيفاء ينبض بالملاحة جسمها |
|
فترى الحياة من الثياب تُطِل |
وأحياناً تكون الصورة كلية تمثل مشهداً حياً خارجياً أو جواً نفسياً داخلياً، وهذا المشهد أو ذاك الجو يؤلف من صور جزئية تتآزر لتشكل الصورة الكلية. وصور الشعراء تمتزج فيها الحقيقة بالخيال غالباً، فهي تتخذ نقطة انطلاق من الواقع، ثم تضم إليها إضافات خلاقة من خيال الشاعر، لتؤلف في النهاية شيئاً جديداً مبتدعاً، وقد تعتمد الصورة على الخيال فقط، ولكنه الخيال المستمد من الواقع كثيراً من عناصره.
ومن هذه الصورة قول ناجي عن لحظة إحساس بداعي الجسد، وقد انتابه هو وصاحبته مرة في ساعة لقاء وشوق([6]):
ومن الشوق رسولاً بيننا |
|
ونديم قدم الكأس لنا |
وسقانا فانتفضنا لحظة |
|
لتراب آدمي مسنا |
فالواقع أنه لم يكن في الخارج الحسي رسول يسعى بين الشاعر وصاحبته، أو نديم يقدم لهما كأساً، وهما لم يتعرضا لهبوب تراب من أي نوع يصيبهما بالانتفاض، وإنما هي صورة خيالية محضة يستمد خيالها بعض عناصره من الواقع لتعبر عن جو نفسي داخلي، هو ما أحس به الشاعر في تجربته تلك.
7. الميل إلى استخدام التعابير الرامزة، التي يغلفها ستر من الضباب الخفيف، أو يغشيها جو من الإبهام اللطيف، فيحول بينها وبين الدلالة المحددة المباشرة، فهي لا تعطي مدلولاً وضعياً أو مجازياً دقيقاً، وإنما تثير في النفس أحلاماً ورؤى وأحاسيس مبهمة، تنتقل بها إلى أودية خيالية بعيدة. تبعث بها ذكريات قديمة، أو تخلق فيها علاقات بين أشياء تبدو غريبة.. ومن تلك التعابير:
«اللهب المقدس» و «الشاطئ المجهول» و«وادي الجن» و«شاطئ الأعراف» و«حجب الغيب» و«نهر النسيان».
8. الميل إلى الألفاظ الرشيقة، ذات الخفة على اللسان، وحسن الوقع على الأذن، وذات الإمكانيات الموسيقية الصافية الهامسة البعيدة عن الصخب الخطابي والتفاصح اللغوي، والبريئة من الجفاف والوعورة اللذين يتنافيان مع لغة الشعر.
موسيقى الشعر عند شعراء أبولو:
أهمها الاعتماد على القالب المقطعى، إلى جانب الاعتماد على القالب الموحد، وهذا التنوع في موسيقى الشعر كان يقوم على أساس التزام التماثل بين الأجزاء المتقابلة، بحيث ينتظم القصيدة تنسيق محدد، برغم ما فيها من تنويع وتلوين.
ومن نماذجه قول علي محمود طه في «سيرانادا مصرية»([7]):
دنا الليل فهيا الآن يا ربة أحلامي
دعانا ملك الحب إلى محرابه السامي
تعالى فالدجى وحي أناشيد وأنغام
|
سرت فرحته في الماء والأشجار والسحب |
||
|
سرت فرحته في الماء والأشجار والسحب |
||
على النيل وضوء القمر الوضاح كالطفل |
|
||
جرى في الضفة الخضـراء خلف الماء والظل |
|
||
تعالى مثله نلهو بلثم الورد والفل |
|
||
|
هناك على ربى الوادي لنا مهد من العشب |
||
|
يلف الصمت روحينا ويشدو وبلبل الحب |
||
إلى نهاية هذه القصيدة التي تؤلف من مقاطع خماسية، الثلاثة أبيات الأولى من كل قافية تتغير من مقطع إلى آخر، والبيتان اللذان يختم بها المقطع على قافية ملتزمة في القصيدة كلها.
أما اللون الثاني من لوني هذا الشعر المقطعي، فهو اللون الذي يتجاوز التنويع في القافية، ويصل إلى الوزن نفسه، وفي هذا اللون نرى شعراء هذا الاتجاه لا يلتزمون وحدة الوزن الشعري، التي تفرض أن تكون القصيدة كلها من بحر واحد وفي حالة واحدة من حالاته، التامة أو المجزوءة أو المشطورة أوالمنهوكة، وإنما يتحررون فيجعلون القصيدة على حالات مختلفة من حالات البحر، فيكون جزء من الرمل مثلاً في حالته التامة ذات التفاعيل الثلاث، وجزء آخر من الرمل في حالته المنهوكة ذات التفعيلة الواحدة، فتأتي شطرة طويلة وأخرى قصيرة، وقد يؤلف الشطران بيتاً واحداً من أبيات القصيدة، ومن أمثلة ذلك قول أبي شادي في إحدى قصائده الغزلية([8]):
جزع الصب وللحزن العميق |
|
في سبيلك |
لوعة الدنيا، فمن هذا يطيق |
|
لمثيلك |
إلى آخر هذه القصيدة، التي يستخدم فيها الشاعر بحر الرمل في حالتين من حالاته، الحالة الأولى تعتمد على ثلاث تفعيلات والحالة الثانية تعتمد على تفعيلة واحدة.
ومن خصائص موسيقى الشعر عند أبولو، الاعتماد على البحور ذات الموسيقى الجياشة المتدفقة، دون رنين عال أو نبرة خطابية.