دراسة أسلوبية
يعد مصطلح الانزياح (L'ecart) من المصطلحات الشائعة في الدراسة الأسلوبية المعاصرة كما قدمت غالباً من العالم الغربي، وهو علمٌ قائم بذاته، يقوم على نظرية متجانسة ومتماسكة، كونها تستند إلى اللسانيات الأدبية على اختلاف تياراتها؛ المتباينة طوراً والمتشاكلة أطواراً أخرى.
وربما يكون جان كوهين هو أول من خصَّ هذا المصطلح بحديثٍ مستفيض في مجال حديثه عن لغة الشعر.
وقد جاءت محاولات كوهين وغيره من المنظرين لتقدِّمَ الشعرية خُطوةً أولى نحو موطنها، وجاءت الثانية لتميّز بين الشعر والنثر، فقامت نظرية الانزياح لديه على مجموعة من الثنائيات ضمن إستراتيجية الشعرية البنيوية، لاسيما في كتبه بنية اللغة الشعرية الذي ظهر عام 1966، حيث أثار فيه ثنائية المعيار والانزياح (L'ecart,Lanorme) مستمداً هذه المفاهيم من الأسلوبية الشائعة في فرنسا أسلوبية شارل بالي، شارل برونو، ماروزو، كيرو، وسواهم من الذين يعدون الأسلوب انحرافاً فردياً بالقياس إلى القاعدة.
تعدد المصطلح
إن مفهوم الانزياح الذي نحن فيه الآن مفهوم تجاذبته وتعلقت بدائرته مصطلحات وأوصاف كثيرة، ومن البديهي أن تتفاوت المصطلحات، ولكن كثرتها تلفت الأنظار، وهذا التفاوت ليس قي الكتب العربية فحسب، بل هي غربية المنشأ، ويشير عبد السلام المسدي إلى بعض تلك المصطلحات مع ترقيمها واسم صاحبها
الانزياح L'ecart فاليري
التجاوز L'abus فاليري
الانجراف La deviation سبيترز
الاختلال La distorsion ويلك و وارين
الإحاطة La subversion لباتيار
خرق السند La violationdes تودوروف
اللحن L'mcorrection تودوروف
التحريف L'alteration جماعة مو
ومن أراد الاستزادة فعليه مراجعة كتاب الدكتور أحمد ويس (الانزياح)، فهي تقارب الأربعين مصطلحاً.
الانزياح عند الغربيين القدماء (اليونانيين)
لئن كان مصطلح الانزياح، من حيث هو مصطلح أسلوبي، حديث النشأة ومن ابتداع الزمن المتأخر، فإن شيئاً من مفهوم هذا الانزياح قديم في أصوله إلى أرسطو وإلى ما تلا أرسطو من بلاغة ونقد.
فأما أرسطو فقد ماز بين لغة عادية مألوفة وأخرى غير مألوفة، ورأى أن اللغة التي تنحو إلى الإغراب وتتفادى العبارات الشائعة هي اللغة الأدبية، يقول وجودة العبارة في أن تكون واضحة غير مبتذلة. فالعبارة المؤلفة من الأسماء الأصلية هي أوضح العبارات، ولكنها مبتذلة ... أما العبارة السامية الخالية من السوقية فهي التي تستخدم ألفاظاً غير مألوفة. وأعني بالألفاظ غير المألوفة الغريب والمستعار والممدود وكل ما بَعُدَ عن الاستعمال.
ويقول أيضاً فبتحوير هذه الكلمات عن أوضاعها الأصلية، والخروج عن الاستعمال العادي تجتنب السوقية.
تعريف الانزياح
الانزياح لغةً الانزياح هو مصدرٌ للفعل المطاوعانزاح؛ أي ذهب وتباعد.
الانزياح اصطلاحاً -في النقد الحديث- هو استعمال المبدع للغةِ مفردات وتراكيبَ وصوراً، استعمالاً لا يخرج بها عمّا هو مُعتاد ومألوف بحيث يؤدّي ما ينبغي له أن يتّصف به من تفرد وإبداع وقوّة جذب وأسر.
أنواع الانزياح
1. الانزياح الاستبدالي وهي تمثل الاستعارة، والاستعارة المقصودة هي المفردة حصراً وهي تلك التي تقوم على كلمة واحدة ( التي تستعمل بمعنى مشابه لمعناها الأصلي ومختلف عنه)، ويمثل كوهن لهذا النوع من الانزياح بالتالي
هذا السطح الهادئ الذي تمشي فيه الحمائم
فالسطح هو البحر والحمائم هي السفن، وجمالية البيت تكمن في هذه المفردات فلو قال هذا البحر الهادئ الذي تمشي فيه السفن (البواخر) لما شعرنا بآية شاعرية.
ملاحظة تجدر الإشارة إلى أن الاستعارة موجودة عند القدم فأرسطو يقول أعظم الأساليب حقاً هو أسلوب الاستعارة، ... ،هو وحده الذي لا يمكن أن يستفيد المرء من غيره، وهو آية الموهبة.
أما تعريفه لها بأنها نقل اسم شيء إلى شيء آخر، فلو حاكمنا هذا التعريف بما انتهت إليه البلاغة العربية يكون معادلاً للمجاز اللغوي الذي يشمل الاستعارة والمجاز المرسل بالإضافة للكناية.
الاستعارة
تعريف الاستعارة، كما عرَّفها النقاد العرب القدماء، هي استعمال اللفظ في غير ما وُضِع له، في أصل اللغة، لعلاقة مشابهة، أو أنها تُشبيه حُذِف أحد طرفيه.
وفي تعريف آخر الاستعارة مجاز علاقته التشبيه، أو تشبيه حُذِف أحد طرفيه المشبّه أو المُشبّه به، فإذا حُذِف المشبّه به فهي مكنيّة، وإذا صُرّح بالمشبّه به في تصريحيّة أو تخييلية.
وتكون الاستعارة تحقيقية، إذا كان معناها يتحقق حسّاً أو عقلاً، أي إذا كان طرف التشبيه المحذوف يُدرك بالحواس أو بلا عقل، فالحسّي مثل ((رأيت أسداً))، أي رجلاً شُجاعاً كالأسد، والعقلي، مثل (( أبديت نوراً)) أي حُجّة كالنور، والحجة أمر يُدرك بالعقل، والاستعارة من الناحية الحسيّة والعقليّة تقسّم وفق التالي
1- استعارة محسوس لمحسوس بوجه حسّي ((فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار))، المستعار منه ولد البقرة، المستعار له الحيوان المخلوق من حلي وجواهر، وجه الاستعارة(التشبيه) الشكل وكلُّ ذلك حسّي.
2- استعارة لمحسوس بوجه عقلي ((وآية لهم الليل نسلخ منه النهار)) المستعار منه هو سلخ الجلد من الشاة ، والمستعار له إزالة الضوء، ووجه الشبه هو ما يُعقل من ترتّب الأمر على الآخر، وهو عقلي.
3- استعارة محسوس لمحسوس بوجه بعضه حسّي وبعضه عقلي (( رأيت شمساً))، أي وجهاً كالشمس، فوجه الشبه حسّي وهو جمال الطلعة، وعقلي وهو علوّ المنزلة والقدر.
4- استعارة عقليّ لعقلي بوجه عقلي ((مَن بعثنا من مرقدنا))، فالمستعار منه هو الرقاد، أما المستعار له فهو الموت، ووجه الشبه هو عدم ظهور هذه الأفعال للسائلين.
5- استعارة حسّي لعقلي بوجه عقلي ((فاصدع بما تُؤمَر))، فالمستعار منه هو صدعُ الزجاجة(كسرها)، وهو حسّي، أما المستعار له فهو تبليغ الرسالة، في حين أن وجه الشبه هو التأثير.
- استعارة عقلي لحسّي بوجهٍ عقلي ((إنا لما طغى الماء))، المستعار منه هو الطغيان(التكبّر)، وهو عقلي، في حين أن المستعار له هو حسّي وهو كثرة الماء، ووجه الشبه بينهما عقلي، وهو الاستعلاء المُفرط(أي اُسْتعير الطغيان للماء).
وقد تختلط الاستعارة بالتشبيه البليغ فيُفرّق بينهما القرينة والذوق، و اشترط القدماء لجمال الاستعارة إحكامها ومقدرتها على إثارة ذهن القارئ وتحريك مشاعره.
ويقول عبد القاهر الجرجاني في الاستعارة (( واعلم أن من شأن هذه الأجناس أن تجري فيها الفضيلة، وأن تتفاوت التفاوت الشديد، أفلا ترى في الاستعارة العامي المبتذل، كقولنا ((رأيت أسداً))و((وردتُ بحراً))، أما الخاصيّ النادر الذي لا تجده إلا في كلام الفحول، ولا يقوى عليه إلا أفراد الرجال كقوله ((وسالت بأعناق المطيّ الأباطح))، أراد أنها سارت سيراً حثيثاً في غاية السرعة، وكانت سُرعةً في لينٍ وسلاسةٍ كأنها كانت سيولاً وقعت في تلك الأباطح فَجَرَتْ بها.
وليست الغرابة في قوله ((وسالت بأعناق المطيّ الأباطح))، وذلك أنّه لم يُغْرِب لأنَّ جعلَ المطيّ في سرعة سيرها وسهولة كالماء يجري في الأباطح، فإن هذا شَبَهٌ معروفٌ ظاهرٌ، ولكن الدقّة واللطف في خصوصيّته أفاد بأن جعل (سال) فعلاً (للأباطح) ثمّ عدّاه بالباء، ثم بأن أدخل الأعناق في البيت وقال (بأعناق المطي)، ولم يقلْ (بالمطيّ)، ولو قال (سالت المطي في الأباطح)، لم يكن شيئاً.
أفلا يُماثل هذا القول ما قاله أرسطو في موت الجملية في الاستعارة التالية أرجل المائدة، وهي ماتت لأننا اعتدنا على سماعها وألفناها.
المجاز
ويماثل الانزياح وفق مفهومنا الحديث المجاز الموجود عند القدماء، وقد جرى تعريفه على النحو التالي كل كلمة أُريد بها غير ما وقعت له في وضع واضعها، لملاحظة بين الثاني و الأول فهي مجاز، وإن شئت قلت كل كلمة جُزْتَ بها ما وقعت له في وضع الواضع إلى ما لم تُوضع له من غير أن تستأنف فيها وضعاً، لملاحظة بين ما تُجوَّز بها إليه وبين أصلها الذي وُضِعت له في وضع واضعها، فهي مجاز.
والمجاز لغةً التعدية والانتقال. واصطلاحاً استعمال اللفظ في غير ما وُضِع له لعلاقةٍ مع قرينةٍ مانعةٍ من إرادة المعنى الحقيقي، مثل أمطرت السماء نباتاً، أي يتسبب عنه النبات.
والمجاز عند ابن رشيق(456هـ) يقع في من الكلام، وهو أبلغ من الحقيقة، وأحسن موقعاً في القلوب والأسماع، والتشبيه والاستعارة وغيرهما من محاسن الكلام داخِلةٌ تحت المجاز، ومن ذلك
إذا سقط السماء بأرض قومٍ رعيناه، وإن كانوا غِضابا
أراد نزل المطر لقربه من السماء، والمطر لا يُرعى، ولكنه أراد النبات الذي يكون عنه، فهذا كلّه مجاز.
ويتابع عبد القاهر الجرجاني(471هـ) سابقيه في تعريف المجاز، فيقول إنه كلّث لفظ نُقل عن موضوعه فهو مجاز، ويذكر من أنواعه الاستعارة والتمثيل، ثمّ يُقسّم المجاز إلى نوعين
1- مجاز في الإسناد، ومرجعه العقل، ومثاله (بنى الأمير السور)، والباني الحقيقي هو العمال، وإنما أُضيف البناء للأمير باعتبار سببه.
2- المجاز المرسل ، وهو أعم من الاستعارة وهو نوعان
أ- مجاز لغوي يدور بين الاستعارة والملابسة، ويتعلّق بالمفردات وسمّاه مَن بعده(مجازاً مرسلاً).
ب- مجاز عقلي، ويتعلّق بالجمل و الإسناد، من مثل وشى الربيع والروض فإن في ظاهر اللفظ ما يدل على أن الربيع فاعلاً، وهذا يجوز من حيث المعقول لا من حيث اللغة.
الكناية
ولا يمكننا تجاهل الكناية، فهي على اتصال بطرف من أطراف الانزياح، فالكناية كما يرى عبد القاهر الجرجاني هي إن المُراد بالكناية أن يريد المتكلم إثبات معنًى من المعاني، فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة، ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه، وردفه في الوجود، فيومئ به إليه يجعله دليلاً عليه.
مثال ذلك قولهم هو طويل النجاد يريدون طويل القامة، وكثير رماد القدر ويعنون كثير القِرى، وفي المرأة نؤم الضحى أي مُترَفة مَخْدومة لها مَن يكفيها أمرها.
فقد أرادوا في هذا كلّه كما ترى معنى لم يذكروه بلفظه الخاص، ولكنهم توصلوا إليه بذكر معنى آخر من شأنه أن يردِفَه في الوجود، أفلا ترى أن القامة إذا طالت طال النجاد؟، وإذا كثر القِرى كثر رماد القدر؟، وإذا كانت المرأة مُترفة لها مَن يكفيها أمرها رَدِفَ ذلك أن تنام إلى الضحى؟.
2. الانزياح التركيبي
من المعروف أن تركيب العبارة الأدبية عامة والشعرية منها على نحو خاص، يختلف عن تركيبها في الكلام العادي أو في النثر العلمي.
فالشاعر، على حد قول كوهين، شاعر بقوله لا بتفكيره وإحساسه، وهو خالق كلمات وليس خالق أفكار، وعبقريته كلها إنما ترجع إلى إبداعه اللغوي .
بيد أن الكلام لا ينبغي أن يؤخذ على حرفيته، فيُظن بأن من طبيعة الشعر أن يخلو من الفكر، لأن مثل هذا الظن هو من قبيل المغالطة .
إن الانزياحات التركيبية في الفن الشعري تتمثل أكثر شيء في التقديم والتأخير، ومن المعروف أن في كل لغة بنيات نحوية عامة ومطردة، وعليها يسير الكلام فالفاعل في العربية مثلاً يكون تالياً لفعله، وسابقاً مفعوله غالباً، إن كان الفعل متعدياً؛ على حين هو في الإنكليزية متصدر للجملة؛ أي أنه مبتدأ يتلوه فعل فمفعول... وهكذا.
ويجب التنبيه إلى أن ليس كل عملية قلب تعد انزياحاً فهو يقول ينبغي لكي ينتج القلب أثره أن نعطيه ذلك الاتساع الذي تشير إليه البلاغة باسم الاعتراض، ويضرب لنا كوهن مثلاً عن عملية القلب وأثرها على الجملة
تحت جسر ميرابو يتدفق السين
ويقارنها بالجملة الأصلية، فيرد الكلمات إلى أماكنها الصحيحة، فيقول
السين يتدفق تحت جسر ميرابو
والسؤال لماذا نشعر أن التركيب الأول أكثر شاعرية من الثاني؟
هل لمجرد مخالفته الاستعمال الشائع، ويقول الدكتور أحمد محمد ويس إن المخالفة وحدها غير كافية لتوليد الشاعرية، ولابد من أن تكون وراء المخالفة قيم فنيّة وجماليّة، إذ ليس بالضرورة أن تكون المخالفة حباً لتميُّزٍ أو تفرد فحسب، والغالب أن يكون وراءها غاية فنية تعبِّر عن شيء في النفس.
ومما يدخل ضمن أشكال الانزياحات التركيبية من أسلوب إلى آخر انتقالاً مفاجئاً يستهدف إحداث تأثير فني ، من مثل ما كان يقوم به إليوت حين كان ينقل أسلوبه في مسرحياته عامداً من مستوى إلى آخر، فينتقل مثلاً من النظم الشعري إلى اللهجة الدارجة، كي يتحقق له نوع معين من التأثير، وواضح أن مثل هذا الانتقال ببنية العمل الفني على نحو عام. وشبيه بهذا الأسلوب أسلوب آخر كان يقوم به بعض مؤلفي العصر الإليزابيثي مما عرف بـ الترويح الكوميدي في المأساة، بالإضافة لظاهرة الالتفات في الرواية الحديثة ابتداءً من جيمس جويس وفرجينيا وولف خاصة. ومن ذلك طريقة التصوير الحر لدى السرياليين في انتقالاتهم المفاجئة وتحريكهم لعناصر الواقع فيما يعرف بالخط الزماني والمكاني.
وطبعاً في المثال السابق (تحت جسر ميرابو يتدفق السين) نلمح التقديم والتأخير، وهناك ثمّة مَن أحسَّ من النقاد القدماء بهذه العلاقة بينه وبين الانزياح، فأدخله في باب المجاز، وعلى ذلك جَرَى أبو عبيدة وابن فارس الذي نراه يقرن بين كلٍّ من الاستعارة والتمثيل والتقديم والتأخير في سياق واحد، هو تعريفه للحقيقة بأنها (( الكلام الموضوع موضعه الذي ليس باستعارة ولا تمثيل ولا تقديم ولا تأخير))، ومن هذا القبيل أيضاً ما صنعه ابن قتيبة، إذ أدخل التقديم ضمن باب القلب الذي يشتمل على كثير من أمثلةِ المجاز.
أما ابن طباطبا فيبدو أنه يرى في التقديم والتأخير غثاثة يجب الاحتراز من مثلها، وهكذا فقد كان على الأعشى في رأيه بدل أن يقول
أفي الطوف خفت علي الردى وكم من ردٍ أهله لم يَرِمِ
كان عليه أن يقول ((لم يرمِ أهله))، ولكن الفارق الدلالي كبير جداً بين تقدير ابن طباطبا وبين ما يراه الشاعر، فالشاعر يريد التأكيد لابنته-وقد خافت عليه الهلاك من كثرة الأسفار- أن الموت لن يمتنع عنه حتى وإن تحصّن في داره وبين خلانه، وليس أحد أحرص على المرء من أهله وخلانه، ولكن الموت كثيراً ما ينتزع المرء من بينهم من دون أن يملكوا له دفعاً، كذلك يريد الشاعر ليُطمئن ابنته أن لا خوف على أبيها من الأسفار مهما تبعد أو تطول، مثلما لا أمان له من الموت حتى وإن يكن بين أهله وأولاده، وهي دلالات لا ندري هل كان ممكناً أن تُفهم من البيت لو أن الشاعر قال ما قاله على نحو ما أراد له ابن طباطبا؟!.
معيار الانزياح
وهاهنا نحن أمام قضية ليس من اليسير حلها، وهي أن الفن قائم على معيار نفسي، في حين يعتمد العلم المعيار المنطقي.
فكيف سيُعرف الانزياح؟ وهل له معيار يُعرف به؟
للخروج من هذه الأزمة علينا أن نستجلي الفروق بين كل من الخطاب الأدبي والخطاب العادي، وسنجد أننا أمام آراء كثيرة تؤكدها، فمن ذلك ما ارتآه تودوروف حين اعتبر أن الحديث اللساني –العادي- خطاب شفاف نرى من خلاله معناه ولا نكاد نراه هو في ذاته، فهو مَنْفَذٌ بِلَّوري شفاف لا يقوم حاجزاً أمام أشعة البصر، بينما الخطاب الأدبي في كونه ثخيناً غير شفاف، يستوقفك هو نفسه قبل أن يمكنك من عبوره أو اختراقه، فهو حاجز بلوري طُلِيَ صوراً ونقوشاً وألواناً، فصدَّ أشعة البصر أن تتجاوزه.
وفي هذا السبيل ذاته نجد مؤلفي البلاغة العامة يقولون إن الذي يميز الخطاب الأدبي هو انقطاع وظيفته المرجعية، لأنه لا يرجعنا إلى شيء ولا يبلغنا أمراً خارجياً، وإنما هو يبلغ ذاته، وذاته هي المرجع والمنقول في نفس الوقت، ولما كفَّ النص عن أن يقول شيئاً عن شيء إثباتاً أو نفياً فإنه غَدَا هو نفسه قائلاً ومقولاً.
وظيفة الانزياح
وظيفة الانزياح تخدم- في المقام الأول – النص ومتلقي النص.
ولا حرج في أن نسارع إلى القول أن الوظيفة الرئيسة التي أكثرت الدراسات الأسلوبية من نسبتها إلى الانزياح، إنما هي المفاجأة . وغني عن البيان أن مفهوم المفاجأة مرتبط أصلاً بالمتلقي، وهو الذي أولَتْهُ الأسلوبية وغيرها من المدارس النقدية عناية خاصة، بل أدخلته ضمن دائرة الإبداع، بعد أن لم يكن له في العصور السالفة كبيرَ اعتبارٍ للمتلقي.
الخاتمة
لقد حاولت في هذا البحث أن أُظهر أن هذا المفهوم لم يَغِبْ عن أذهان المبدعين والنقاد القُدامى، بل كانت له أصول في التراث العربي النقدي و البلاغي.
وقد ابتدأت البحث بشرح مفهوم الانزياح عند النقاد الغربيين والعرب المحدثين، ولم أغفل الإشارة إلى أن اليونانيين قد رأوا شيئاً منه، ثم حاولت تأصيل هذا المصطلح من خلال عرض بعض جذور المصطلح في نقدنا القديم، وبيّنت مفهوم بعض المصطلحات النقدية القديمة؛ والتي ماثلت مفهوم الانزياح-في هذا العصر- فكانت أكثر مما يُتصوّر، ويعود ذلك لكثرة معاني المصطلح (الانزياح) في نقدنا المعاصر وكثرة استخداماته.
ويمكننا القول أن النقّاد القدماء قد عرفوا أهمية هذا المصطلح –في وجوهه القديمة-، وما يُنتجه من مُفاجأةٍ للمتلقي، ولكنهم لم يعرفوه كما عرفناه نحن، وإنما عرفوه بمصطلحات عديدة مجزّأة مبعثرة.
إذاً إن اليونانيين القدماء، ومن بعدهم العرب، وأخيراً الغرب قد عملوا خلال هذه الآلاف من السنين، لتطوير هذا المصطلح حتى غدا على هذا الشكل؛ أي أنه نتاج حضاري ثقافي شاركت فيه جميع الأمم، وليس مخصوصاً بأمَّةٍ معيّنة دون أخرى.
المصادر والمراجع
- بوخاتم، مولاي علي، مصطلحات النقد العربي السيماءوي الإشكالية والأصول والامتداد، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق2005.
- ويس، أحمد محمد، الانزياح من منظور الدراسات الأسلوبية، مجد للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2005.
- ويس، أحمد محمد، الانزياح في التراث النقدي والبلاغي، مطبعة اتحاد المتاب العرب، دمشق2002.
- المعجم المدرسي، تأليف محمد خير أبو حرب، تدقيق ندوة النوري، الطبعة الأولى، 1406هـ،1985م.
- الزبيدي، محمد مرتضى ، تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق مجموعة من المؤلفين، تُصدرها وزارة الإعلام في الكويت،1982.
- إسبر، محمد سعيد و جنيدي، بلال، الشامل معجم في علوم العربية ومصطلحاتها،دار العودة في بيروت، الطبعة الأولى151981.
- عزام محمد، من دلائل الإعجاز في علم المعاني، لللإمام عبد القاهر الجرجاني، منشورات وزارة الثقافة في دمشق، المختار من التراث العربي((79)).
- عزام، محمد، المصطلح النقدي في التراث الأدبي، دار الشرق العربي.