شعراء في غياهب السجون

شعراء في غياهب السجون




ما يدخل السجنَ إنسانُ فتسألُه ما بال سجنك؟ إلا قال: مظلومُ! |
وما أكثر الشعراءَ الذين حُبسوا! وما أكثر الأشعار التي قيلت في السجون! فبددت بنور توهجها ظلامَ السجون الدامسَ، وتنسمت قوافي تلك الأشعار نسائمَ الحرية، وخرجت من غياهب السجون ودياجيرها، لتصبح تاجاً مرصَّعا على هامة الخلود، وقلادةً حرةً في صدر الزمان.
ويبقى العجب: كيف تضم حجرةٌ مظلمة صغيرة بحوراً لُجِّيَّةً من الشعر، وجبالا تطاول عَنان السماء، من العلماء والحكماء! ولاغروَ ولا عجب، فالسجنُ الذي ضمَّ نبياً ورسولاً، يضم عالماً وشاعرا وحكيما.
ويظل السجينُ على أمل اللقاء مع الأهل والأحبة، فالذي ردَّ يوسف إلى أبيه، وأعزَّه - وهو في سجنه - قادرٌ على أن يجمعَ السجين بأهله، ويلمَّ الشملَ، ما لم تعاجلْه المنيةُ وهو في أعماق الأرض، فينتقل من أعماق زنزانته، ويوضع في أعماق الثرى داخل قبره! ورحم الله من قال:
وعسى الذي أهدى ليوسُفَ أهلَه وأعزَّه في السجنِ وهْوَ أسيرُ أنْ يستجيبَ لنا فيجمعَ شملنا واللهُ ربُّ العالمين قديرُ |
أقولُ وقد ناحت بقربي حمامةٌ أيا جارتا, هل بات حالك حالي؟[1] أتحملُ محزونَ الفؤادِ قوادمٌ على غصُنٍ نائي المسافةِ عالِ أَجارتَنا، ما أنصف الدهرُ بيننا تعالَي أقاسمْكِ الهمومَ تعالِي تعالَي ترَيْ روحاً لديّ ضعيفةً تردَّدُ في جسمٍ يعذَّبُ بالِ أيضحكُ مأسُورٌ وتبكيْ طَليقةٌ؟ ويسكُت محزونٌ ويندبُ سالِ؟ لقد كنتُ أولى منكِ بالدَّمعِ مقلةً ولكنّ دمعِي في الحوادثِ غال[2] |
ماذا تقولُ لأفراخٍ بذي مَرَخٍ؟ زغبِ الحواصلِ لا ماءٌ ولا شجرُ؟ ألقيتَ كاسِبَهُم في قعرِ مظلمةٍ فاغفر, عليك سلامُ اللهِ يا عُمَرُ أنت الإمامُ الذي مِن بَعد صاحبِهِ ألقتْ إليكَ مقاليدَ النُّهى البشَرُ لم يؤْثروك بها إذ قدَّموكَ لها لكِنْ لأنفسِهم كانتْ بكَ الإثرُ فامننْ على صبيةٍ في الرملِ مَسكنُهُم بين الأباطحِ يغشاهمْ بها القَدرُ أهلي فداؤكَ، كم بينيْ وبينهمُ مِن عرضِ داويةٍ يعمَى بها الخبرُ! |
كما "حُكي أن الحجاجَ حبس رجلاً في حبسه ظلماً، فكتب إليه رُقعةً فيها: قد مضى من بؤسنا أيامٌ ومن نعيمك أيامٌ، والموعدُ القيامة، والسجنُ جهنمُ، والحاكمُ لا يحتاج إلى بيِّنة، وكتب في آخرها:
ستعلمُ - يانَؤومُ - إذا التقَينا غداً عِندَ الإلهِ مَنِ الظَّلُومُ؟ أما واللهِ إن الظُّلمَ لؤمٌ وما زال الظلومُ هوَ المَلومُ سينقطعُ التلذُّذُ عن أُناسٍ أدامُوه, وينقطعُ النّعيمُ إلى ديَّانِ يومِ الدِّينِ نَمضي وعندَ الله تجتمعُ الخصومُ"[4] |
سجاياكَ إنْ عافيتَ أندَى وأَسْمَحُ وعذرك إن عاقبت أولى وأوضحُ وإن كان بين الخطّتينِ مَزيةٌ فأنت مِن الأَدنى إلى الله أجنحُ وماذا عسَى الأعْداء أنْ يتزيدوا سِوى أنَّ ذنبي ثابتٌ ومُصَحَّحُ وإنَّ رجائي أنَّ عندكَ غيرَ ما يخوضُ عدوِّيْ اليومَ فيهِ ويَمرَحُ أقِلْنِي بما بيني وبينِكَ من رِضىً لهُ نَحْوَ رُوح اللهِ بابٌ مُفتَّحُ ولا تلتفتْ رأيَ الوشاةِ وقولَهُمْ فكلُّ إناءٍ بالّذي فيه يرْشحُ ألاَ إنّ بطشاً للمؤيَّد يُرتَجى ولكنَّ حلماً للمؤيّدِ يرجحُ سلامٌ عليه كيفَ دار بهِ الهَوى إليَّ فيدنوْ أوْ عليّ فينزحُ[5] |
جراحاتُ السِّنانِ لها التِئامٌ ولا يلْتَامُ ما جرحَ اللِّسانُ |
وقد أورد البغدادي في خزانته أبياتَ شعرٍ لجَعْفَر بن عُلْبَة الحارِثِيّ قالها في سجنه، وأوردها أبو تمام في أول الحماسة، وهي في غاية الروعة:
هَوايَ مع الرَّكْبِ اليَمانِينَ مُصْعِدٌ جَنِيبٌ وجُثْمانِي بمَكَّةَ مُوثَقُ عَجِبْتُ لِمَسْراها وأَنَّى تَخَلصَتْ إِليَّ، وبابُ السَّجْنِ دُونِي مُغْلَقُ أَلَمَّتْ فحَيَّتْ ثُم قامَتْ فَوَدَّعَتْ فَلمَّا تَوَلَّتْ كادَتِ النَّفْسُ تَزْهَقُ فلا تَحْسَبِي أَنِّي تَخَشَّعْتُ بَعْدَكُم ْبِشَيْءٍ، ولا أَنِّي مِنَ المَوْتِ أَفْرَقُ ولا أَنَّ نَفْسِي يَزْدَهِيها وَعِيدُكُمْ ولا أَنَّنِي بالمَشْي في القَيْدِ أَخْرَقُ ولكنْ عَرَتْنِي مِن هَواكِ صَبابَةٌ كما كنتُ أَلْقى مِنْكِ إِذْ أَنا مُطْلَقُ |
أسجنٌ وقيدٌ واغترابٌ وعَبرةٌ وفقدُ حبيبٍ؟ إنّ ذاك عظيمُ وإنّ امرأً تبقى مواثيقُ عهدِه، على كلِّ هذا، إنه لكَريمُ[6] |
ألْوَى بعزمِ تجلُّدي وتصبُّري نأيُ الأحبّةِ واعتيادُ تذكُّرِي |
عجباً لقلبي يومَ راعتْنا النّوى ودَنا وداعُكَ كيفَ لم يتفطرِ؟! ما خِلْتُني أبقى خلافَك ساعةً لولا السكونُ إلى أخيكَ الأكبَرِ[7] |
ومَن يكُ أمسَى بالمدينةِ رَحْلُهٌ فإني وقياراً بها لغَريبُ وما عاجلاتُ الطير تُدني مِن الفتى نجاحاً ولا عن ريثهِنّ يَخيبُ ورُبَّ أمورٍ لا تضيركَ ضيرةً وللقلبِ مِن مَخْشاتِهنَّ وَجِيبُ ولاخيرَ فيمن لا يوطِّن نفسَهُ على نائباتِ الدّهرِ حينَ تنوبُ[8] |
إلى الله أشكوْ؛ إنّه موضعُ الشّكوَى وفي يدِهِ كشْفُ المُصيبةِ والبَلْوَى خرجْنا مِن الدُّنيا ونحنُ مِنَ اهْلِها فما نحنُ بالأحْياءِ فيها ولاَ المَوتى إذا ما أتانا مُخبرٌ عن حديثِها فرحْنا وقُلنا: جاءَ هذا مِن الدُّنيا! وتُعجبنا الرُّؤْيا فجُلُّ حديثِنا - إذا نحنُ أصبَحْنا - الحدِيثُ عنِ الرُّؤيا فإنْ حسنتْ لم تأتِ عجلَى وأبطأتْ وإن قبحتْ لم تحتبِسْ وأتَتْ عجلَى![9] |
كأَنِّيَ لم أَكُنْ فيهمْ وَسِيطاً ولم تَكُ نِسْبَتِي في آلِ عَمْرِو أَضاعُوني وأَيَّ فَتىً أَضاعُوا لِيَوْمِ كَرِيهَةٍ وسِدَادِ ثَغْر[10] |
هل الرّياحُ بنجمِ الأرضِ عاصفةٌ أمِ الكسوفُ لغَيرِ الشمسِ والقمرِ؟ إن طال في السِّجنِ إيداعيْ فلا عجبٌ قدْ يوْدعُ الجفن حدّ الصارمِ الذّكَرِ[11] |
خليليَّ إنّ الجودَ في السجنِ فابكِيا على الجُودِ إذْ شُدَّتْ عليهِ مرافِقُهْ تَرى عارضَ المعروفِ في كلِّ ليلةٍِ وكلِّ ضُحًى يستنُّ في السجنِ بارِقُهْ إذا صاحَ كبلاه طفا فيضُ بحرِهِ لزوَّاره حتى تُرامَ غرائقُهْ[12] |
في منزل كالليلِ أسودَ فاحمٍ داجي النواحي، مظلمِ الأشباجِ يسودُّ والزهراءُ تشرقُ حولَهُ كالحبرِ أُودعَ في دَوَاةِ العاجِ[13] |
قالوا: حُبستَ، فقلتُ: ليس بضائرِيْ حبسيْ، وأيُّ مهنَّدٍ لا يُغمَدُ؟! أوَ ما رأيتَ اللَّيثَ يأْلفُ غِيْلَهُ كبراً، وأوباشَ السِّباعِ تردَّدُ؟ والبدرُ يُدركهُ السِّرارُ فتنجلِي أيّامهُ وكأنَّهُ متجدِّدُ والنَّارُ في أحجارها مَخبُوءَةٌ لا تُصطلى ما لمْ تُثرْها الأزندُ ولكلِّ حالٍ معْقبٌ ولربَّما أجْلَى لكَ المكروهُ عمّا تَحمدُ لا يؤْيِسنّكَ مِن تفرّجِ كُرْبةٍ خطبٌ أتاكَ به الزّمانُ الأَنْكدُ صبراً فإنّ اليومَ يتْبعهُ غدٌ ويدُ الخليفةِ لا تطاولها يَدُ والحبسُ - ما لمْ تغْشَهُ لدَنِيّةٍ تزريْ - فنعم المنزلُ المتورَّدُ |
قالت: حُبست، فقلت: خطبٌ أنكدُ أنحَى عليّ به الزمانُ المرصدُ لو كنتُ حراً كانَ سِربي مطلَقاً ما كنتُ أُؤخَذُ عنوةً وأُقيّدُ أوْ كنتُ كالسَّيفِ المهنَّدِ لم أكنْ وقتَ الشّديدةِ والكَريهةِ أُغمَدُ أوْ كنتُ كاللّيث الهَصُور لَما رعَتْ فيّ الذئابُ وجذوتيْ تَتَوقّدُ مَن قال: إنّ الحبسَ بيتُ كَرامةٍ فمُكاشرٌ في قولهِ مُتَجَلِّدُ ما الحبسُ إلاّ بيتُ كلِّ مَهَانَةٍ ومَذلّةٍ ومكارِهٍ ما تنفَدُ إن زارَني فيه العدوُّ فشامِتٌ يُبدي التوجُّعَ تارَةً ويفنّدُ أو زارني فيه الصَّديقُ فمُوْجعٌ يذرِي الدُّموعَ بزفرةٍ تتَردَّدُ يَكفِيك أنّ الحبسَ بيتٌ لا تَرى أحداً عليهِ مِنَ الخلائقِ يُحسَدُ! عِشنا بخيرٍ برهةً فكَبَا بنا ريبُ الزّمان وصَرفُه المتردِّدُ قصرتْ خطاي وما كبرتُ وإنما قصرتْ لأني في الحَدِيدِ مصفَّدُ في مُطْبقٍ فيه النهارُ مُشاكِلٌ للَّيلِ والظُّلُماتِ فيهِ سَرمَدُ تمضي اللياليْ لا أذوق لرَقدةٍ طَعْماً.. فكيفَ حياةُ مَن لا يَرقُدُ فتقولُ لي عينيْ: إلى كمْ أسهرتْ؟ ويقولُ لي قلبيْ: إلى كمْ أكمدُ؟ وغِذايَ بعْدَ الصّوم ماءٌ مفردٌ كمْ عيشُ من يغذُوْهُ ماءٌ مفردُ؟! وإذا نهضتُ إلى الصلاةِ تهجُّراً جذبتْ قيوديْ ركبتيَّ فأَسْجُدُ فإلى متى هذا الشقاءُ مؤكَّدٌ؟ وإلى متى هذا البلاءُ مجدَّدُ؟ يا ربِّ، فارحمْ غُربتي وَتَلاَفَنِيْ إنّيْ غريبٌ مفرَدُ مُتلدّدُ[14] |
وما هذه الأيامُ إلاّ مَنازلٌ فمِن مَنْزِلٍ رحْبٍ إلى منزِلٍ ضَنْكِ وقدْ دهَمتْكَ الحادثاتُ وإنّما صفا الذّهبُ الإبرِيزُ قَبْلَكَ بالسّبْكِ أمَا في نبي الله يُوسفَ أُسْوَةٌ لمثِلكَ محبوسٌ عنِ الظُّلْمِ والإفْكِ أقامَ جميلَ الصّبرِ في السِّجن بُرهةً فآلَ بهِ الصّبرُ الجميلُ إلى المُلْكِ[15] |
أبا خالدٍ ضاقتْ خراسانُ بعدَكمْ وقالَ ذَوُو الحاجاتِ أينَ يزيدُ؟ فما قطرتْ بالشرقِ بعدكَ قطرةٌ ولا اخضرَّ بالمروينِ بعدكَ عُودُ وما لسرورٍ بعدَ عزِّكَ بَهجةٌ وما لجوادٍ بعدَ جُودِك جُودُ"[16] |
وممن كتب وأبدع في هذا المجال الدكتورُ يوسفُ القرضاوي، الذي ألقى قصيدة نونية بمناجاة نظمها ليلة 27 رمضان عام 1369هـ، 1949م بمعتقل الطور، وذلك عندما احتفل المعتقلون بهذه المناسبة، منها:
يا ربِّ، إنّ الطغاةَ استكبروا وبغَوا بغْيَ الذئابِ على قطعانِ حملانِ يا ربِّ، كمْ يوسفٍ فينا نقيِّ يدٍ دانُوْهُ بالسّجنِ والقاضي هوَ الجاني يا ربِّ، كم من صبيٍّ صفَّدوا.. فمَضَى يبكِي كضفدعةٍ في نابِ ثُعبانِ يا ربِّ، كم أسرةٍ باتتْ مشرَّدةً تشكُوْ تجبُّرَ فرعونٍ وهامانِ |
والليثُ لنْ تحنيَ الأقفاصُ هامتَهُ وإنْ تحكّمَ فيهِ أَلْفُ سَجَّانِ |
أبتاهُ، ماذا قد يخطُّ بَناني؟ والحبلُ والجلاّدُ منتظرانِ هذا الكتابُ إليكَ مِن زنزانةٍ مَقرُورةٍ صخريّةِ الجُدرانِ لمْ تبقَ إلاّ ليلةٌ أحْيَا بِها وأحسُّ أنّ ظلامها أكفاني ستمرُّ - يا أبتاهُ - لستُ أشكُّ في هذا، وتحمِلُ بَعدها جُثماني الليلُ مِن حوْلِي هدوءٌ قاتلٌ والذّكرياتُ تمورُ في وجداني ويهدُّني ألَمي، فأَنْشُدُ راحتي في بضعِ آياتٍ مِنَ القُرآنِ والنّفْسُ بين جوانحي شفّافةٌ دَبَّ الخضوع بِها فهزّ كياني شكراً لهم، أنا لا أريدُ طعامَهمْ فلْيرفعُوهُ، فلستُ بالجوعانِ هذا الطعامُ المرُّ ما صنعَتْهٌ لي أمّي، ولا وضعُوه فوقَ خوَانِ كلاّ، ولمْ يشهدْهُ - يا أبتي - معِي أَخَوانِ لي جاءَاهُ يسْتَبِقانِ مَدُّوا إليّ بهِ يدًا مصبُوغةً بدَمِي، وهذِي غايَةٌ الإحسانِ والصَّمتُ يقطَعُهُ رنينُ سلاسلٍ عبثتْ بهنّ أصابعُ السّجَّانِ |
خَرَجْنا مِن السِّجْن شُمَّ الأُنُوفِ كما تخرُجُ الأُسْدُ مِن غابِها نَمُرُّ على شَفَرَاتِ السّيوفِ ونأتِي المنيّةَ مِن بابِها ونأْبَى الحياةَ إذَا دُنِّسَتْ بِعَسْفِ الطُّغاةِ وإرهابِها ونحتقِرُ الحادثاتِ الكِبارَ إذا اعترَضَتْنَا بأَتْعَابِها ونعلَمٌ أنّ القَضا واقعٌ وأنّ الأُمُورَ بأَسْبابِها سَتعلمُ أمّتُنا أنّنا ركبْنا الخطوبَ حناناً بِها فإنْ نحنُ فزْنا فيا طالَما تذلُّ الصِّعابُ لطلاّبِها وإنْ نلْقَ حتفاً فيا حبّذا ال مَنايا تَجِيءُ لخطّابِها |
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/literature_language/0/5179/#ixzz3sF8RRXJD