شعرية الصعلكة محمد رفيق *
2 مارس , 2012
( أقيموا بني أمي صدور مطيكم فإني إلى قوم سواكم لأميل )
الشنفرى
في حوار الذاكرة الشعرية بموروثها المائز، تنساب الشعرية العربية، كأمواه ينسرب صليلها الشعري لري الذات والوجدان، حوار تتبدى من خلاله العبارات والألفاظ، التي تسافر بالمعاني في رحلة الدلالة وأبعادها الغنية، لاستفزاز قارئ نهم ومتلق مفترض، وهو ما جعل الجاحظ، يعتبر الشعر ضربا من النسج وجنسا من التصوير، علاقة جمالية تؤثث المعنى، وتخط تعالقا ملتبسا ومركبا مع الواقع، في طرق وآليات التعبير والمعالجة، إن الذات الغنائية للشاعر العربي، طفحت بهذا الحوار الملتبس مع الواقع الإنساني الذي يحياه، من خلال ظواهر متعددة، أبرزها تمظهراته في شعرية الصعلكة، في بعديها الفني والجمالي، بعيدا عن المعنى القدحي لمفهوم الصعلكة، خاصة وأنه ارتبط في عصور سابقة بالسلطة الثقافية ووعيها الجمعي، والسلطة السياسية والدينية، امتزج فيها المفهوم بالديني
والقبلي والسياسي، وأضحى آلية لكبح الإبداعية والإنتاجية الشعرية، في الحوار مع الواقع وتناقضاته وإشكالاته المركبة، وأصبحت الصعلكة الشعرية، نموذجا للشعرية المتمردة لرفض السائد، في الوقت الذي جعلت منه سلطة النقد المحافظ، نظيرا للزندقة والشعوبية، والتمرد على طقوس القبيلة والجماعة، وكان أبرزها في العصر العباسي مع بشار بن برد، وعبد الحميد الطوسي، ودعبل الخزاعي الذي قال مخاطبا المأمون بنبرة هجائية حادة، تنم عن رفض الواقع السياسي المعاش،
إني من القوم الذين سيوفهم // قتلت أخاك وشرفتك بمقعد
شاذُوا بذكرك بعد طول خموله // واستنقذوك من الحضيض الأوهد
وغيرهم كثير من شعراء العصر، الذين وسموا تمردهم في الخمريات، كأشكال فنية لرفض التقليد والمحافظة، بل إن الأمر طال شعر المتصوفة، مع الحلاج وغيره ممن جعلوا الحدس الباطني آلية للترقي، في سماوات الشعر وإشراقاته، هروبا من الواقع المأزوم، إلى درجة الحلول والاندماج مع مكونات الوجود، لإدراك المراتب العليا للاتحاد مع المطلق في عالم الماورائيات، وهو القائل ‘المكان الذي لا يؤنث لا يعول عليه’، هذا نموذج من تجليات الصعلكة في هذا العصر، رغم أن الظاهرة في أصولها الأولى، أغنت التجربة الشعرية في ما اصطلح عليه بالعصر الجاهلي، شعراء تمردوا على السلطة الثقافية السائدة، وتمردوا على ثقافة الانصهار في الجماعة/ القبيلة كسلطة مطلقة، بوعي فني مائز، رغم أن الشاعر كان الصوت المعبر عنها، واللسان الناقل لأخبارها وأنسابها وحروبها وحياتها، بل لسان تميزها بين أوساط المجتمعات العشائرية، ألم يقل عمرو بن كلتوم: إنا نورد الرايات بيضا // ونصدرهن حمرا قد روينا، لقد كان الشاعر في واجهة الصراع القبلي بين تغلب وبكر، فكان الحارث بن حلزة في الواجهة الأخرى المنافح عن قبيلته (بكر)، والنماذج كثيرة في التراث الشعري العربي، تتباين الرؤية من شاعر إلى آخر، ثم إن رفض الشاعر لقيم معينة تحنطه في الانصهار السلبي مع القبلية، هو من جعل الشنفرى صاحب لامية العرب يقول: أقيموا بني أمي صدور مطيكم // فإني إلى قوم سواكم لأميل
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى // وفيها لمن خاف القلى متعزل
لعمرك ما في الأرض ضيق على امرء // سرى راغبا أو راهبا وهو يأمل،
إن الشاعر يعزو اللوم إلى القبيلة، التي تضببت الرؤية أمامها، إلى درجة فقدان البوصلة في تحديد الركب لمسار الطريق، وحادت عنه وليس الشاعر، الذي أصبح يبحث عن هوية وانتماء جديدين، رغم تداعيات ذلك النفسية، أما عروة بن الورد، عروة الصعاليك لا عروة قبيلة عبس، فأشعاره خير معبر عن حياة الصعلكة، بقوله : لحى الله صعلوكا إذا جن ليله // مصافي المشاش آلفا كل مجزر
يعد الغنى من دهره كل ليلة // أصاب قراها من صديق ميسر
ينام عشاء ثم يصبح قاعدا // يحث الحصى عن جنبه المتعفر
وهو النهج الذي يسير عليه سليك بن السلكة، في تصوير نمط حياة الصعلكة بقوله
فضاربت أولى الخيل حتى كأنما // أميل عليها ايدع وصبيب ، ولم تقتصر الظاهرة على هذه المجموعة، بتشكيلات وتلوينات أخرى في التمرد على الواقع القبلي، فقد تبدت آثارها لدى امرؤ القيس والأعشى في الحوار مع المكان وأنس الخمرة في الصحراء، وكان طرفة بن العبد أبدع شاعرية في تصوير العلاقة بالقبيلة، بعد أن هجرها مرغما تائها في المكان، تعبيرا عن اغترابه في حضنها :
ومازال تشرابي الخمور ولذتي// وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدي
إلى أن تحامتني العشيرة كلها// وأفردت إفراد البعير المعبد
إن الظاهرة في بعدها الفني وتمظهراتها في أشكال جمالية جديدة، اتخذت أبعادا أخرى في العصرين الأموي والعباسي، مع شعراء الغزل الإباحي مع عمر بن أبي ربيعة، وشعراء النقائض مع جرير والفرزدق والأخطل، في حياة الترف الأموي، وتجلت في العصر العباسي أيضا، مع شعراء التجديد، من خلال الثورة على الأشكال الشعرية القديمة، من خلال رفض المقدمات الطللية والاحتفال بالمكان، وخاصة مع أبي نواس في خمرياته، في تعبير عن روح العصر بقوله:
لتلك أبكي ولا أبكي لمنزلة // كانت تحل بها هند وأسماء
ثم إن أبا تمام، الذي واجه سلطة النقد المحافظة، والتي قالت إنه أراد البديع فخرج إلى المحال، بصوره الجديدة المركبة، وألفاظه الغريبة، رغم أن الغموض هو سمة جمالية الشعرية العربية، والتي تطورت آلياتها الفنية في الشعر المعاصر والحديث، في توظيف الرمز والأسطورة، ولغة الإيحاء والانزياح والتكثيف الدلالي، في خطاب المعاصرة والتحديث، والتي لم تخل أشعار شعرائه من نماذج للصعلكة، تعبر عن اغترابها عن الواقع والحياة الملتبسة، وما يعني ذلك من تمرد ورفض لهذا الواقع، تجسد في صور جمالية تشي بشعرية مائزة جماليا، عبر عنها عبد المعطي حجازي في ديوان ‘مدينة بلا قلب’ ، بقوله في نبرة قوية :
وأمضي في فراغ بارد، مهجور/ غريب في بلاد تأكل الغرباء، وقوله أيضا :
رسوت في مدينة الزجاج والحجر/ الصيف فيها خالد، ما بعده فصول
وللشعراء المعاصرين امثال عند البياتي وصلاح عبد الصبور، وأنسي الحاج ويوسف الخال ومحمد الماغوط، إبداعات شعرية في شعر التفعيلة وقصيدة النثر، نماذج حية تعبر عن الاغتراب والتمرد على الواقع، في صعلكة جديدة لها منزعها الفني والجمالي، وتبقى كل التجارب الشعرية، على مر العصور، مجالا لاكتشاف الظاهرة في أبعادها الجمالية، وآليات اشتغالها في مقاربة الواقع