علي الطنطاوي مربِي

علي الطنطاوي مربِيًا (2)




وتُظْهِرُ كلمَةُ (عابدة) عنْ طريقَةِ جَدِّها فِي التَّرْبِية، وأنَّه كان يثبِّتُ فِي أذْهان أولادِه وأحفادِه بَعضَ المعاني الأخلاقيَّة، ويَرْبِطُهَا بمصطلحاتٍ خاصَّة وطريفَةٍ، يسهل عليهم حِفْظُها، وتستدعي الابْتِسامَ عند تَذَكُّرِها فيما بعد، وتُخَفِّفُ من حدَّة الموقف إذا وُجِدت، وهو فِي الحقيقة أسْلوبٌ تربوِيٌّ فائقٌ وعظيم.
وفي شكواه التي حمَّلها معنى وصياغةً قريبين مما اشتُهر في مجتمعاتنا العربية، يقول علي: "كنت وحيدًا خفيفًا، وكان لِي جناحانِ منْ أحْلامي وأمانِيِّي، فأثْقَلَ ظَهْرِي بناتِي الأربعُ، وأمُّهُنَّ، وعماتُهن، وعمَّةُ أبيهن، واصْطَدَم جناحايَ بأَرْضِ الواقِعِ، فكيف يطير بغير جناحَيْن مَنْ يَحمل هَمَّ ثَمانِ نساء؟"[3].
أمَّا التَّوْجيهُ والتَّرْبِيَةُ غيرُ المباشرة، فلا يعدم قارئُ الطنطاوي دُرَرًا وفوائِدَ متناثرة في كتاباته وخطاباته على مَدَى سَبْعينَ عامًا.
ففي بعض خطاباته وإشاراته للآباء يقول: "رجُلُ الغَدِ الذي ينْفَعُ نفْسَه والنَّاسَ بعلْمِه وخُلُقِه، وعلى الأب أنْ يُمَهِّدَ لطفْلِه بحسن التربية طريقَ السعادةِ فِي الدارَيْن، والنَّجاةِ فِي الحياتَين"[4]. وينطلق عليٌّ في خطابِه القصيرِ هذا من القاعدة الإسلاميَّة الصَّافِيَةِ، مُتَّخِذًا إيَّاهَا منْهجًا للتوجيه والخطاب.
ويرجو الطنطاوي أوْلِياء أُمُورِ التلاميذ أن يَتَرَفَّقوا بهم في مسيرة حياتِهم الأولى، ويُحَذِّرُ من آثارِ القَسْوة المفْرِطة على مسْتَقْبلِ الأولاد والمجتمع، فيقول: "كان من المناظِر المألوفة كلَّ صَباح، مَنْظَرُ الولد العاصي، وأهله يجُرُّونه، والمارة وأولاد الطريق يعاونونَهم عليه، وهو يتمسك بكل شيء يَجِدُه، ويلتبطُ بالأرض، ويتمَرَّغُ بالوَحَلِ، وبكاؤه يُقَرِّحُ عينيه، وصياحُه يجرح حنجرته، والضرباتُ تنْزِل على رَأْسِه، يساق كأنَّه مجرم عاتٍ، يرى نفسه مظلومًا، ويرى الناسَ كلَّهم عليه حتى أبويه، فتَصَوَّروا أَثَرَ ذلك في نفسه، وعمله في مسْتَقْبَل حياته"[5].
وتحمل كلمته القصيرة هذه شعورًا فيَّاضًا، يَحمِلُ قارئه على التَّأَثُّر الفوريِّ الناتج عن جلاء الصورة الحرَكِيَّة الدِّراميَّة أمام ناظِرِيه بكلمات قلائل.
ولأنَّ عليًّا كان ممن يحْرصون على تَطْوير وإصلاح الحياة التعليمية التربوية، فقد كُلف بتخطيط مناهجِ التعليم الشرعي في مرحلَتَيْه المتوسِّطَة والثانَوِيَّة، وكان له الفضل في أنْ أدْخلَ مادةَ "أَعْلامِ الإسْلام"، وهي تدرس التاريخَ من خلال رِجالِهِ الذين كانوا وراء الحركات الكبرى المؤثرة.
وكان من خلالِ تَدْريسِهِ المناهِجَ في المدارس قد اطلع على جوانبها الإيجابيَّة والسلبيَّة، ولاحَظَ انصِرافَ الطلاب منَ النَّثْرِ إلى الشِّعْرِ، فتَفَكَّرَ فِي السَّبَبِ، وعلم أن "الذي تُقَرِّرُ المناهِجُ تدريسَه في النَّثْرِ العرَبِيِّ في مصر والشام والعراق، لا يَخرج في جملته عن رسائلَ ميِّتة لا روح فيها، أو فِقرات جامدة مُسْجَعَة أو غير مسجعة، ليس فيها وصْف يهزُّ القلبَ، أو معنى يوقِظُ الفكرة"[6].
ويقترح أن تؤخَذَ نصوصٌ من كُتُبٍ أخرى مثل "صَيْد الخاطر" لابن الجوزي؛ فإنَّ فيه من السلاسَة والسهولة والمسائلِ النَّفسية والاجتماعية والدينيَّة ما يُغْنِي عن غيره، كما قدَّم للمناهج المدرَسِيَّة أكثرَ من كتابٍ، ومنها "التحليلُ الأدبي"، و"المحفوظات"[7].
وذكَرَ عليٌّ - أيضًا - أن من بواعثِ تأْلِيفِه "تعريفٌ عامٌّ بدين الإسلام" إلحاحَ الطلاب عليه في وضع كتاب يعرض الإسلامَ بصورة شامِلَة ومبسطة؛ كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَعْرِضُه على الأعرابي فيفهمه في يوْم أو عدة أيَّام.
وربط الطنطاوي المعَلِّم تلاميذَه بواقع أمَّتِهم المعاصر، فإذا درَّس لهم قِصَّةً أو شِعْرًا أو رواية، فإنَّه يُلقي بظلالها على ما يعيشُه الناسُ حينئذ، يقول عن ذلك: "كان من أكْبَر أمانِي تلاميذِنا في بغداد - إذا قرؤوا قصَّةَ الوَحْدة الإيطالية والوَحْدة الألمانية - أنْ يكونَ العراقُ (بيه مونت أو برسيا)، فيحقق الوحدة بيديه معًا: يَدُ الشَّعب بعواطِفِه ورغباتِهِ، ويدُ الحكومة بسياسَتِها وسلاحها، فكيف تبدَّلَتِ الحال حتى صار ذنْبُنا عند حكَّام العِراق أنَّنَا خَطَوْنَا الخُطْوة الأولى في طريق الوَحْدة؟"[8].
ويترك (عليٌّ) الإجابة عن سؤاله الأخير لقارئ الأحداث والتاريخ.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/social/0/3911/#ixzz3bk4vjoqd