عمر بن أبي ربيعة.
عبدالله علي باسودان
عمر بن أبي ربيعة.
شاعر قرشي مخزومي يكنى أبا الخطاب، ولد سنة 23 للهجرة وهي الليلة التي توفي فيها الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكان الحسن البصري رحمه الله إذا ذكر وفاة عمر قال: " أي حق رفع وأي باطل وضع".
أبوه هو عبد الله بن أبي ربيعة استعمله الرسول صلى الله عليه وسلم والياً على إقليم من اليمن واستمر عليها حتى فتنة الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه فقدم لنصرة الخليفة حتى إذا كان قريباً من مكة سقط عن راحلته وتوفي سنة خمس وثلاثين للهجرة وعمر دون الثانية عشر من عمره.
كان عبد الله بن أبي ربيعة بمكانة عظيمة من قومه نسباً وثراءً فشب عمر يتقلب في رياض النعمة والترف، قال الشعر وهو صغير فما التـفت إليه فحول شعراء عصره كجرير والفرزدق والأخطل، فأخذ يروض شعره حتى ارتاض له، فقال جرير حين سمع رائيته التالية مازال هذا القرشي يهذى حتى قال هذه القصيدة:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكرُ
غداة غد أم رائح فمهجر
بحاجة نفس لم تقل في جوابها
فتبلغ عذراً والمقالة تعذر
تهيم إلى نعم فلا الشمل جامع
ولا الحبل موصولا , ولا القلب مقصر
ولا قرب نعم إذا دنت لك نافع
ولا نأيها يسلي ولا أنت تصبر
وأخرى أتت دون نعم ومـثلها
نهى ذو النهى لو ترعوي أو تفكر
إذا زرت نعماً لم يزل ذو قرابة
لها كلما لاقيتها يتنمر
عزيز عليه أن ألم ببيتها
ُيسرُّ ليَ الشحناء والبغض مُظهر
ألكني إليها بالسلام فإنه
ُيُشهرَّ إلمامي بها وينكر
بآية ما قالت غداة لقيتها
بمدفع أكنان أهذا المُشًّهرُ
أَشارَتْ بمِدْراها وقالت لأختها
أَهذا المُغَيْرِيُّ الذي كان يُذْكَرُ
أهذا الذي أطريت نعتا فلم أكن
وعيشك أنساه إلى يوم أقبر
فقالَتْ: نَعَمْ، لا شَكَّ غَيَّرَ لَوْنَهُ
سُرَى اللَّيْلِ يُحْيِي نَصَّهُ والتَّهَـجُّرُ
لَئِنْ كانَ إيَّاهُ لقَدْ حالَ بَعْدَنا
عن العَهْدِ، والإنْسانُ قد يَتَغَـيَّرُ
رَأَتْ رَجُلاً أمَّا إذا الشَّمسُ عارَضَتْ
فَيَضْحى، وأمَّا بالعَشِيِّ فيَخْـصَرُ
أخا سَفرٍ، جَوابَ أَرْضٍ، تَقَاذَفَتْ
به فَلَواتٌ فهْوَ أَشْعَثُ أَغْبَرُ
قَلِيلٌ على ظَهْرِ المَطِيَةِ ظِلّهُ
سِوَى ما نَفَى عَنْهُ الرَّداءُ المُحَبَّرُ
و أعجبها من عيشها ظل غرفة
وريان ملتف الحدائق أخضر
ووالٍٍٍِِِِِ كفاها كل شيء يُهُمَّها
فليست لشيء آخر الليل تسهر
وليلة ( ذي دوران ) جًشَّمتني السُرى
وقد يجشم الهول المحب المغرَّر
فبت رقيباً للرفاق على شفا
أحاذر منهم من يطوف و أنظر
إليهم متى يستمكن النوم منهمو
ولي مجلسٌ لولا اللبانة أوعر
وباتت قلوصي بالعراء ورحْـلُها
لطارق ليلٍ أو لمن جاء معور
وبت أناجي النفس : أين خباؤها ؟
وكيف لما آتي من الأمر مصدر
فدل عليها القلب ريـًّاً عرفتها
لها وهوى النفس الذي كاد يظهر
فلمَّا فَقَدْتُ الصّوْتَ مِنْهُمْ، وأُطْفِئَتْ
مَصابيحُ شُبَّتْ بالعِشاءِ وأَنْوُرُ
وغابَ قُمَيْرٌ كنتُ أَهْوَى غُيُوبَهُ
ورَوَّحَ رُعْيانٌ، ونَـوَّمَ سُمَّرُ
ونَفَّضْتُ عنِّي النَّوْمَ أَقْبَلْتُ مِشْيَةَ ال
حُبابِ ورُكْنِي خِيفَةَ الحَيّ أَزْوَرُ
فحييت إذ فاجأتها فتولهت
وكادت بمخفوض التحية تجهر
وقالتْ، وعَضَّتْ بالبَنانِ: فَضَحْتَنِي
وأنتَ امروءٌ مَيْسُورُ أمْرِكَ أعْـسَرُ
أَرَيْتَكَ إذْ هُنّا عليكَ، أَلَمْ تَخَفْ
رَقِيباً، وحَوْلِي مِن عَدُوِّكَ حُـضَّرُ
فو الله ما أَدْرِي أَتَعْجِيلُ حاجَةٍ
سَرَتْ بِكَ أَمْ قد نامَ مَن كنـتَ تَحْذَرُ
فقلتُ لَها: بل قادَنِي الشَّوْقُ والهَوَى
إليكِ، وما عَيْنٌ مِن الـنّاسِ تَنْظُرُ
فقالت وقد لانت و أفرغ روعها :
كلاك بحفظٍ ربك المتكبر
فأنت , أبا الخطاب , غير مدافعٍ
عليَّ أميرٌ ما مكثت مؤمـُّر
فبِتُّ قَرِيرَ العَيْنِ أُعْطِيتُ حاجَتِي
أُقَبِلُ فاها في الخَلاءِ فأُكْثِرُ
فيالَكَ مِن لَيْلٍ تَقَـــــاصَرَ طُولُهُ
وما كانَ لَيْلِي قَبْلَ ذلكَ يَقْـصُرُ
ويالك من ملهىً هناك, ومجلسٍ
لنا لم يكـُّدره علينا مكـُّدر
يَمُجُّ ذَكِيَّ المِسْكِ مِنْها مُفَلَّجٌ
رقِيقُ الحَواشِي ذُو غُرُوبٍ مُؤَشَّرُ
يَرِفُّ إذا تَفَتَرُّ عَنْهُ كأَنَّهُ
حَصَى بَرَدٍ أو أُقْحُـوانٌ مُنَوِّرُ
وتَرْنُو بعَيْنيْها إليَّ كما رَنا
إلى رَبْرَبٍ وَسْطَ الخَمِيـلَةِ جُؤْذَرُ
فلمَّا تَقَضَّى الليلُ إلاّ أَقَلَّهُ
وكادَتْ تَوالِي نَجْمِهِ تَتَغَوَّرُ
أَشارَتْ بأَنَّ الحيَّ قد حانَ مِنْهُمُ
هُبُوبٌ، ولكنْ مَوْعِـدٌ لكَ عَزْوَرُ
فما راعَنِي إلاَّ مُنادٍ " ترحـًّلوا "
وقَدْ لاحَ مَفْتُوقٌ مِن الصُّبْـحِ أَشْقَرُ
فلمَّا رَأَتْ مَن قد تَنَبَّهَ منهُمُو
وأَيْقاظَهُمْ، قالَتْ: أَشِرْ كـيفَ تَأْمَرُ
فقلتُ: أُبادِيهمْ، فإمّا أَفُوتُهُمُ
وإمّا يَنالُ السَّــيْفُ ثَأْراً فَيثأ رُ
فقالَتْ: أَتَحْقِيقاً لِما قالَ كاشِحٌ
عَلَيْنا، وتَصْدِيقاً لِمـا كانَ يُؤْثَرُ
فإنْ كانَ مما لا بُدَّ مِنْهُ، فغَيْرُهُ
مِن الأَمْرِ أَدْنَى للخَـفاءِ وأَسْتَرُ
أَقُصُّ على أُخْتَيَّ بَدَْء حَدِيثنا
وماليَ مِن أنْ تَعْلَـما مُتَأَخَّرُ
لعلهما تطلبا لك مخرجاً
و أن ترحبا سَرباُ بما كنت أحضر
فقامت كئيباً ليس في وجهها دم ٌ
من الحزن تذري عبرة تتحدر
فقامت إليها حرَّتانِ عليهما
كساءان من خز دمقس و أخضر
فقالَتْ لأُخْتَيْها أَعِينــا علي فتىً
أَتَى زائِراً، والأَمْرُ للأَمْرِ يُقدَرُ
فأقبلتا فارتاعتا , ثم قالتا
أقلي عليك اللوم , فالخطب أيسر
فقالَتْ لَها الصُّغْرَى سأُعْطِيهِ مُطْرَفِي
وبُرْدِي وهذا الدِّرْعَ، إنْ كــان يَحْذَرُ
يَقُومُ فيَمْشِي بَيْنَنا مُتَنَكِّراً
فلا سِرُّنا يَفْشُو ولا هُو يُبْـصَرُ
فكانَ مِجَنِّي دُون مَنْ كنتُ أتقى
ثلاث شخوص كاعبان ومعصر
فلمَّا أجَزْنا ساحَةَ الرَّكْبِ قُلْنَ لِي
أَلم تَتَّقِي الأعْداءَ واللَّـيْلُ مُقْمِرُ
وقلن: أهذا دأبك الدهر سادراً
أما تستحي أم ترعوي أم تفكـَّرُ ؟
إذا جئت فامنح طارف عينيك غيرنا
لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظر
فآخر عهد لي بها حين أعرضتْ
ولاح لها خد نقي و محجر
سوى أنني قلت يا نعم قولة
لها والعشاق الأرحبيات تزجر
هنيئاً لأهل العامرية نشرها ال
الذيذ ورياها التي أتذكر
قال عمر هذه القصيدة في امرأة تدعى " نُعم " وتعتبر القصيدة من أشهر ما قال عمر.
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر غداة غد أم رائح فمهجر
عاش عمر بن أبي ربيعة حياته للغزل الصريح ويسر له ثراؤه وجماله والدلال الذي نشأته فيه والدته فقد كان وحيدها أن جنح للهو والمجون.
قصر شعره على وصف النساء وتزاورهن بلفظ رشيق فأولع به المغنون وشغف به القيان والندماء فكان المغنون والمغنيات من أهل مكة والمدينة يغنون بشعره، وكثر غناء الناس به حتى ضج العباد والزهاد فقال ابن جريج:
"ما دخل العواتق في خدورهن شيء أضر من شعر ابن أبي ربيعة"
عُرف بلهوه ومجونه وتعرضه للنساء والتشبيب بهن فكان يتعرض للمسلمات العفيفات ويترقب خروجهن للحج محرمات فيصفهن وهن طائفات ولا يتورع عن ملاحقتهن قرب الحطيم وأمام حرم الله، فوقعت النساء في حرج شديد حتى قيل أن كرائم الأسر زهدت في أداء فريضة الحج خشية أن يتعرض لنسائهن، فلما تمادى في التشبيب بالنساء وشبب ببنات الخلفاء ضاق به عمر بن عبد العزيز فنفاه إلى دهلك إحدى جزر البحر الأحمر بين اليمن والحبشة وكانت هذه الجزيرة منفى لبني أميه، ولم يعد إلا بعد أن أقسم أنه يقلع عن صبوته ويخلص إلى الله في توبته.
وصف عمر بن أبي ربيعة الحالة الاجتماعية للنساء في عصره وما كنّ فيه من ترف فقال:
قالت ثريا لأتراب لها قطف
قمن نحيىَّ أبا الخطاب من كثب
يرفلن في مطرفت السوس آونة
مثل التماثيل قد مُوَّهن بالذهب
ترى عليهن حلي الدر متسقا
وفي العتيق من الديباج والقصب
لا نجد في شعره الشعور العميق والوصف الدقيق للحب فهو يسلك في الغزل مسلك القصص فيصف النساء ومخالطتهن والحديث إليهن فهو ينتقل من امرأة إلى امرأة دون أن يفتح قلبه لواحدة منهن إلا ما كان من أمره مع الثريا بنت علي بن عبد الله بن الحارث فإنه يشبه أن يكون حباً. وفي هذه الأبيات يتغزل عمر بالثريا فيقول:
حدثيني وأنت غير كذوب أتحبينني ؟ جعلت فداك
واصدقيني فإن قلبي رهين ما يطيق الكلام فيمن سواك
كلما لاح أو تغور نجم صدع القلب ذكرهم فبكاك
قد تمنيت في العتاب فراقي فلقد نلت يا ثريا مناك
لا تطيعي الوشاة في ما أرادوا يا ثريا ولا الذي ينهاك
كم فتى ماجد الخلائق عفِ قد تمنى في مجلس أن يراك
حال من دون ذاك ما قدر الله بحق فما يطيق لقا ك
وسأل قوماً عن أخبار الطائف، وكانت الثريا تصيف بها، فقالوا أنهم سمعوا صياحاُ على امرأة من قريش تسمى "ثريا" فوجه فرسه إلى الطائف حتى انتهى إلى الثريا فوجدها سليمة، فأنشد قائلاً:
تشكىَ الكميت الجري لما جهدته وبين لو يسطيع أن يتكلما
فقلت له : إن ألق للعين قرة فهان علينا أن تكل وتسأما
عدمت إذا وفرى وفارقت مهجتي لئن لم أقل قرنا إذا الله سلَما
لذلك أدني دون خيلي رباطه وأوصي به أن لا يُهان ويُكرما
فما راعها إلا الأغر كأنه عقاب هوت منقضة قد رأت دما
فقلت لهم : كيف الثريا هبلتم فقالوا : ستدري ما مكرنا وتعلما
هنالك فانزل فاسترح فإذا بدت ثرياك في أترابها الحور كالدمى
يُردن احتياز السر منك فلا تبح بما لم تكن عنه لدينا مجمجما
وعندما شبب برملة بنت عبد الله الخزاعية غضبت الثريا وهجرته فأخذ ينتحل الأعذار لينال رضاها وكان مما قاله:
قال لي صاحبي ليعلم ما بي : أتحب القتول أخت الرباب
قلت وجدي بها كوجدك بالعذب إذا ما منعت طعم الشراب
من رسولي إلى الثريا بأني ضقت ذرعاُ بهجرها والكتاب
أزهقت أم نوفل إذ دعتها مهجتي ما لقاتلي من متاب
حين قالت لها :أجيبي فقالت : من دعاني ؟ قالت : أبو الخطاب
فأجابت عند الدعاء كما لبَى رجال يرجون حسن الثواب
أبرزوها مثل المهاة تهادى بين خمس كواعب أتراب
وهي مكنونة تحيَر منها في أديم الخدين ماء الشباب
دمية عند راهب ذي اجتهاد صوَرها في جانب المحراب
ثم قالوا : تحبها قلت : بهرا عدد النجم والحصا والتراب
فلما تزوج سهيل بن عبد الرحمن بن عوف الثريا قال عمر:
أيها المنكح الثريا سهيلا عمرك الله كيف يجتمعان
هي شأمية إذ ما استقلت وسهيل إذا استقل يمان
وعندما أزمعت الثريا الرحيل إلى الشام، أنشد عمر قائلاُ:
يا صاحبي قفا نستخبر الطللا عن بعض من حله بالأمس ما فعلا
فقال لي الربع لما أن وقفت به : إن الخليط أجد البين فاحتملا
وخادعك النوى حتى رأيتهم في الفجر يحتث حادي عيرهم زجلا
لما وقفنا نحيهم وقد شحطت نعامة البين فاستولت بهم أُصلا
قامت تراءى لحين ساقه قدر وقد نرى أنها لن تسبق الأجلا
ومقلتي نعجة أدماء أسلمها أحوى المدامع طاوي الكشح قد خذلا
وقد شبب عمر بالكثير من النساء منهن عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين، وفاطمة بنت عبد الملك فقد حجت فتغزل بها عمر دون أن يذكر اسمها خوفا من أبيها ومن الحجاج الذي توعده إن عرض بها فلما قضت حجها قال عمر:
كدت يوم الرحيل أقضي حياتي ليتني مت قبل يوم الرحيل
لا أطيق الكلام من شدة الوجد ودمعي يسيل كل مسيل
ذرفت عينها ففاضت دموعي وكلانا يلقى بلب أصيل
وحج عبد الملك بن مروان فلقيه عمر بن أبي ربيعة بالمدينة فقال له عبد الملك: يا فاسق، قال بئست تحية ابن العم على طول البعد، قال: يا فاسق أما إن قريشاً لتعلم أنك أطولها صبوة وأبطؤها توبة ألست القائل:
أحب لحب عبلة كل صهر علمت به لعبلة أو صديق
ولولا أن تعنفني قريش وقول الناصح الأدنى الشفيق
لقلت إذا التقينا قبليني ولو كنا على ظهر الطريق
فما قلب ابن عبد الله فيها بصاح في الحياة ولا مفيق
كثيراً ما يصور في شعره بأن الفتيات هن من يرغبن في التودد إليه ويتخذن الأسباب للقائه، كما يصور محبوبته هي التي تشكو الهجر والغرام وتتمنى لو تراه فيقول:
أرسلت هند إلينا رسولا عاتباً : أن ما لنا لا نراكا
فيم قد أجمعت عنا صدودا أأردت الصرم ؟ أم ما عدنا عداكا
أن تكن حاولت غيظي بهجري فلقد أدركت ما قد كفاكا
ويقول أيضاً:
تقول إذ أيقنت أني مفارقها يا ليتني مت قبل اليوم يا عمرا
ويقول على لسان محبوبته:
ما وافق النفس من شيء تُسر به وأعجب العين غلا فوقه عمر
ويصور لتصديهن له حتى في مواسم الحج:
قالت لترب لها تحدثها لنفسدن الطواف في عمر
قومي تصدي له ليعرفنا ثم اغمزيه يا أخت في خفر
قالت لها قد غمزته فأبى ثم اسبطرَت تسعى على أثرى
ويحكى أنه تاب و حلف ألاّ يقول بيت شعر إلا أعتق رقبة، فبينما هو يطوف بالبيت، إذا بشابّ قد دنا من شابه ظاهرة الجمال فألقى إليها كلاما، فقال له عمر: يا عدو الله ؛ في بلد الله الحرام وعند بيته تصنع هذا ! فقال: يا عمّاه ؛ إنها ابنة عمي، وأحب الناس إليّ؛ وإني عندها لكذلك، وما كان بيني وبينها من سوء قط أكثر مما رأيت، قال: ومن أنت ؟ قال أنا فلان ابن فلان، قال أفلا تتزوجها ؟ قال: أبى عليّ أبوها. قال: ولم ؟ قال يقول: ليس لك مال، فقال: انصرف والْقَني .
ولما لقيه بعد ذلك، دعا ببغله فركبها؛ ثم أتى عم الفتى في منزله فخرج إليه وفرح بمجيئه ورحب وقرّب، ثم قال: ما حاجتك يا أبا الخطاب ؟ قال: لم أرك منذ أيام فاشتقت إليك ! قال: فانزل. فأنزله وألطفه، فقال له عمر في بعض حديثه: إني رأيت ابن أخيك، فأعجبني ما رأيت من جماله وشبابه، قال له: أجل ! ما يغيب عنك أفضل مما رأيت، قال: فهل لك من ولد ؟ قال لا، إلا فلانة. قال: فما يمنعك أن تزوجه إياها ؟ قال: إنه لا مال له، قال: فإن لم يكن له مال فلك مال، قال: فإني أضنّ به عنه . قال: لكني لا أضنّ به عنه فزوّجه واحتكم، قال: مائة دينار، قال نعم ! فدفعها عنه، وتزوجها الفتى.
وانصرف عمر إلى منزله، فقامت إليه جارية من جواريه، فأخذت رداءه وألقى بنفسه على الفراش وجعل يتقلّب، فأتته بطعام فلم يتعرض له ، فقالت له: إن لك لأمرا، وأراك تريد أن تقول شعرا، فقال: هاتي الدواة فكتب :
تقول وليدتي لما رأتني
طربتُ وكنتُ قد أقصرتُ حينا
أراك اليوم قد احدثتَ أمراً
وهاج لك الهوى داءً دفينـــا
وكنتَ زعمتَ أنك ذو عزاءٍ
إذا ماشئتَ فارقتَ القرينا
بـربـِّك هل أتاك لها رسولٌ
فشا قك أم لقيتَ لها خدينا .؟
فقلتُ شكا إليِّ أخٌ محـبٌّ
كبعض زماننـــا إذ تعلمينــا
فقـصَّ عليّ ما يلقى بهندٍ
فذكّر بعض ماكنا نســــــينا
وذو الشوق القديم وإن تعزّى
مشوق حين يلقى العاشقينا
وكم من خًلةٍ أعرضتُ عنها
لغير قلى وكنتُ بها ضنينا
فكفـَّر عمر عن كل بيت قاله أن يتصدق بناقة.
اختلفت الرويات في وفاته فمن قائل إنه تاب بعد أن نفاه عمر بن عبد العزيزوأقسم انه يقلع عن صبوته، ومنهم من قال إنه تنسك عندما كبرت سنه، ويذكرون أنه لما مرض مرضه الذي مات فيه جزع أخوه الحارث جزعاً شديداً، فقال له عمر: أحسبك إنما تجزع لما تظنه بي. والله أعلم أني ركبت فاحشة قط، فقال: ما كنت أشفق عليك إلا من ذلك وقد سريت عني . ومنهم من قال إنه شارك في غزوة ليكفّرعن سيئاته فاحترقت السفينة التي كان فيها، ومنهم من قال أنه تغزل بامرأة في الحج فدعت عليه فكانت وفاته سنة 93 للهجرة.