فضاءات الصورة الشعرية عند محمود درويش- شفيق علي القوسي
فضاءات الصورة الشعرية عند محمود درويش- شفيق علي القوسي |
07/11/2011 07:25:00
![]() |
محمود درويش |
الصورة الشعرية هي الوسيلة الفنية الجوهرية لنقل التجربة الشعرية،حيث إنها أداة النقل والإيحاء والبديل الأقوى عن التعبير المباشر ولذلك فلها الدور الحاسم في تحديد ماهية الشعر حتى غدت القصيدة تقرأ صورة صورة، ومن ثم أصبحت الصورة عنصراً رئيساً من عناصر شعرنا العربي المعاصر.
ويرى النقاد المعاصرون أن دراسة الصورة الشعرية تعتمد على ركيزتين أساسيتين ومهمتين هما: الخيال واللغة، وإذا كان الخيال هو جوهر المحاور الفنية في التصوير فإن اللغة هي الوسيلة والأداة المعرفية التي تتشكل منها عناصر الصورة، ومن خلال علاقات لغوية جديدة بين الكلمات تكسب الألفاظ والجمل والتراكيب دلالات خاصة تبعث في النفس ضروباً من الارتياح والمتعة والتشوق عند سماع الشعر، وذلك كله يخضع لموهبة الشاعر الفنية ومن ثم سعة الاطلاع، وعمق المعرفة العميقة بالآلية التي تعد عنصراً أساسياً من عناصر الشعر، وتعتبر الصورة الشعرية وسيلة للتجديد والابتكار، وهذا الابتكار يتبع قوة الشاعر الصياغية وموهبته المتشطية بأفكار بديعة ورؤى خارقة يغذيها الخيال، وتنضجها اللغة الأنيقة والرصينة.
والتوالد الذهني عند أي شاعر، تسبقه تداعيات عديدة للمشاعر والعواطف، وتأملات عميقة للانفعال والمهارة التصويرية في إنتاج الصورة الشعرية المكللة بعناصر الجذب ولفت الانتباه.
وفي شعر محمود درويش نجد صوراً شعرية بديعة، ترفض اللغة السائبة والمكرورة، كما يرفض فنه الإبداعي الصورة المجانية التي لا يمكن لأحد أن يفهمها أو يستوعبها، أي لا توجد روابط بين أجزائها لذلك نجد أن الصورة الشعرية عند محمود درويش عبارة عن تركيبة بين الصورة الخارجية والصورة الداخلية التي تنتج من وجدان الشاعر وخياله بجانب تمكنه من استشعار مفردات الحياة اليومية بكل الانتباه.
يرفض فنه الإبداعي الصورة المجانية التي لا تنوعاتها وتحويلها إلى صورة شعرية فائقة الروعة، وبالغة الجمال.
وفي نص “كفر قاسم” نجد صوراً في غاية الصياغة، والدقة، أودع فيها” محمود درويش” إمكانياته البديعة فجاءت هكذا:
مروا على صحراء قلبي حاملين ذراع نخلة
مروا على زهر القرنفل تاركين أزيز نحلة
وعلى شبابيك القرى رسموا بأعينهم أهله
وتبادلوا بعض الكلام عن المحبة والمذلة
والكلام يدور عن شهداء قرية” كفر قاسم” والشاعر يودعهم بطريقته الخاصة بدءاً من الفعل “مروا” ليدل على آثار حركاتهم والتي ما زال لها وقع في ذاكرته وذاكرة كل أبناء فلسطين.
والصور الشعرية كما هو الحال عند محمود درويش تراكيب عدة بين الصور الخارجية والصور الداخلية والتي صاغها وجدانه، وحولها إبداعه إلى صورة شعرية باذخة الجمال، وانظر قوله:
“صحراء قلبي، ذراع نخلة، زهر القرنفل، أزيز نحلة، شبابيك القرى، رسموا بأعينهم أهله، تجد التشبيهات البليغة، والتي زادتها الإضافة إتقاناً، وهذه التشبيهات أفضت إلى كناية ورمز، ولعل هذا ما قصده الشاعر، فقلبه صحراء، والشهداء زرعوا فيه ذراع نخلة كرمز واضح للعطاء والنماء والخير، وزهر القرنفل بجماله الخلاب تركوا بصماتهم لديه وهي عبارة عن أزيز نخلة، كرمز واضح على ديمومة العطاء بين الزهر والنحل، ثم ينتقل إلى شبابيك القرى التي أضحت أهلة، وهذا رمز واضح على أن المقاومة لا زالت في بدايتها، لبث روح الصمود بين أبناء المقاومة فالجهاد والمقاومة والتحدي دليل على حب الوطن، والخضوع والاستسلام مذلة.
إن صور محمود درويش الشعرية عايشت القضية الفلسطينية بكل أبعادها، أرضاً وإنساناً، عائدين ومقاومين توحي بذلك قصائده ودواوينه التي سمى بها دواوينه” أوراق الزيتون، العصافير تموت في الجليلد، عصافير بلا أجنحة أزهار الدم، حصار لمدائح البحر….” فنجده بكل بسالة المقاوم والمحارب الباسل يقول:
لا تدفنونا بالنشيد
وخلدونا بالصمود
لا لا تذلوا
يا كفر قاسم لن ننام وفيك مقبرة وليل
فوصية الدم لا تساوم
ووصية الدم تستغيث بأن نقاوم، أن نقاوم.
إنها الروح الثائرة المقاومة الصامدة، وانظر معي إلى “مقبرة وليل، وما ترمز إليه من كثرة الشهداء والعدو الغاصب، وكذلك وصية الدم تستغيث” وهذه صورة بديعة فالدم أضحى وصية تستغيث وتصرخ تطلب الاستمرار والمقاومة والصمود، بالفعل لا بالكلمات والأناشيد، فالخلود في الصمود والماومة.
وفي ديوان” حبيبتي تنهض من نومها” الصادر عام 1970م نجد قصائد مقاومة كثيرة منها: قصيدة” الجسر” يعلن درويش عن قضية وجود مصيرية، قضية بقاء قضية تحد مستمر، فيقول:
مشياً على الأقدام
أو زحفاً على الأيدي تعود
قالوا
وكان الصخر يضمر
والمساء يداً تقود
لم يعرفوا أن الطريق إلى الطريق
دم، ومقصلة وبيد
كل القوافل قبلهم عاصت
وكان النهر يبصق ضفتيه
قطعاً من اللحم المفتت
في وجوه العائدين…
والنص طويل اجتزأت منه المقطع السابق، والذي يعج بالكثير من الدلالات الفكرية والسياسية التي تغذي أواصر التصميم والإصرار على العودة إلى الأرض المحتلة على الرغم من كثرة الصرعى الذين يبصق النهر جثثهم ويلقيها إلى شاطئه من العائدين السابقين، وقد أكد ذلك من خلال” الصخر يضمر، يدا المساء تقود، النهر يبصق ضفتيه……” باعتبارها صور شعرية ترمز إلى أشياء عدة منها: الإصرار على المقاومة، كطبيعة فطرية أن يعود المهاجر إلى وطنه، وكذلك انتقاء الشاعر للألفاظ الدالة على الرحلة والحياة المتجددة مثل: مشياً، زحفاً، نعود، تقود، غاصت، العائدين…، على الرغم من أن العودة موت محقق لمن حاول تجريبها أو حتى التفكير فيها، وربما كان عنوان القصيدة رمزاً معبراً عن أن التحدي والصمود والإصرار على العودة هو جسر العبور من حالة التيه والضياع إلى حالة الانتعاش والأمل.
وإذا كانت الصورة الشعرية تقوم بتجسيد الحقائق النفسية والشعورية والذهنية، فإن محمود درويش يتحدث بشعور وطن مسلوب وشعب منكوب لذلك جاءت صوره مرآة لحالته النفسية والشعورية فتراه يقول في نص” تضيق بنا الأرض” من ديوان” حصار لمدائح البحر
تضيق بنا الأرض
تحشرنا في الممر الأخير
فنخلع أعضاءنا كي نمر
وتعصرنا الأرض
يا ليتنا قمحها كي نموت ونحيا
ويا ليتها أمنا، لترحمنا أمنا
ليتنا صور للصخور التي سوف يحملها حلمنا
إلى أين نذهب بعد الحدود الأخيرة؟
أين تطير العصافير بعد السماء الأخيرة؟
أين تنام النباتات بعد الهواء الأخير؟…….
هنا سنموت هنا في الممر الأخير
هنا أو هنا سوف يغرس زيتونه…. دمنا.
فالنص كما نرى مضمخ بعبير الصور البديعة، والتي تفنن”درويش” في تحسين أجزائها، ومن أول النص إلى آخره، نحس بترابط متين رسخه الحزن الفلسطيني وقضيته التي باتت على كل لسان، لذلك نجد الصور الشعرية مكللة بالرموز الخفية من مثل قوله:-
” تضيق بنا الأرض، تحشرنا، نخلع أعضاءنا، تعصرنا الأرض، يا ليتنا قمحها، ليتنا صور للصخور، يحملها حلمنا، تنام النباتات، يغرس زيتونه دمنا” هذه الصور كلها احتشدت في معرض الصياغة المتآزرة عبر سياق فني تتشذر أيقوناته من خلال الأمل المتلألئ في انكماش الروح وحزنها، وذلك جسد انثيال الأفعال، تضيق، تحشرنا، نخلع يحمله، تنام يغرس…” وكذلك تجليات الرمز في قوله:
نخلع أعضاءنا، يا ليتنا قمحها، صور للصخور، يحملها حلمنا، تنام النباتات، يغرس زيتونه.
إن الصور البصرية والسمعية والحركية كلها قام” درويش” بتركيبها مع الصور الداخلية والمعتملة في ضميره، والمصطحبة في وجدانه، إنه الإحساس بالألم المرير في واقع اللاوطن واللاعودة، لذلك جاءت صوره حائرة تبحث عن إجابات وتطلب الأمان، وكم كان أسلوبه حزيناً في قوله:- يحملها حلمنا، بعد صور: للصخور، ومن هنا سنموت هنا أو هنا… وبرغم الأسى وفقدان الأمل، إلا أن الطموح والصمود من الأمور التي يزرعها زيتون فلسطين في دماء أبنائه، وعلى وقع الكنايات المتكررة، الممر الأخير، قمحها أمنا الصخور الحدود الأخيرة، السماء الأخيرة الهواء الأخير، والتي ترمز إلى عمق المأساة التي وقع في براثنها الشعب الفلسطيني المقاوم والذي تعددت نكباته، ومع ذلك ما زال حياً مقاوماً باسلاً.
وفي مشهد آخر، نرى محمود درويش يحس بظلم الغزاة الذين لا يريدون لأهل البلد أن يبقوا في ديارهم، وتقف حرابهم دون أن يستنشق الفلسطيني نفحات تراب وطنه، وهذا يدل على أن التضحيات والقوة هما السبيل الأمثل إلى تحقيق الحلم لدى كل فلسطيني عبر شعر درويش وصوره الجميلة فيقول:
صوتك الليلة سكين وجرح وضماد
ونعاس جاء من صمت الضحايا
أين أهلي خرجوا من خيمة المنفى وعادوا
مرة أخرى سبايا
وعرفنا ما الذي يجعل صوت القبرة
خنجراً يلمع في وجه الغزاة
وعرفنا ما الذي يجعل صوت المقبرة
مهرجاناً وبساتين حياة
في دمي ومن جهه صيف ونبض مستعار
عدت خجلان إلى البيت فقد خر على جرحي شهيدا
كأن مأوى ليلة الميلاد كان الانتظار
وأنا أقطع في ذكراه عيداً
في النص السابق مجموعة من الصور الشعرية، كل منها يؤدي دوراً في إبراز إحساس الشاعر لذلك نلاحظ كيف استمد جزئيات الصور لتعبر عن هذا الموقف أو ذاك.
“صوتك سكين وجرح وضماد ونعاس، يجعل القبرة خنجراً يلمع، يجعل صوت المقبرة مهرجاناً وبساتين حياة، هذه التشبيهات يكاد يلمس من يسمعها حدة السكين، والدم يسيل من الجرح ألما، ثم الإحساس بالضماد الشافي لمزيد من البذل الجديد في دروب العودة إلى فلسطين وهناك النعاس الذي يغالب الإنسان أحياناً مع غمرات العمل والإرهاق والضنى، ثم نجد”الخنجر اللامع” أمام عيني الخصم الذي يهدد بجبروته، وتتلاقى وجهاً لوجه، عنجهية الغاصب المحتل وإرادة صاحب الحق المتعالية وفي لمحة أخرى يبدو مشهد فيه استمرار الجهاد فذاك موكب الشهداء”تتبدّى” حالات من الإصرار على متابعة الطريق بدلاً من الحزن، وتتعلم الأجيال صنوف التضحية زهوراً تتفتح معها أبواب المستقبل.
ونلمح” الاستعارتين”: أقطف، وصيف، وما فيهما من قيمة تعبيرية ليست فقط في الهزة للمفاجأة اللغوية عندما نرى القطاف مع العيد، وكأنه غصون يانعة الثمار لتعين على مسيرة الحياة، ولا عندما تطالع لفح الصيف مع الدم الذي يجري في العروق.
إن دلالات الاستعمارة تكمن في العلاقات المشتملة عليها والتي تمتد أمام الشاعر الذي يخوض التجربة فتبرز بها وانفعاله المتحول غصباً وفعلاً يتحرك.
إن القطاف في الأسلوب الاستعماري استطاع أن يجمل معها مراحل التكون والإزهار ثم التحول إلى ثمار يانعة، ومع هذا يتراءى لنا جهد الفلاح وعناؤه وسهره في الليل وشقاؤه يدمي اليدين حتى تستوي الشجرة وتسلم من الآفات، إن العيد الذي يراه الشاعر بعين البصيرة هو كل ما يصحب القطاف وما يكون قبله، وهنا نعرف أعماق المعاناة في الموقف.
إن فضاءات الصور في النص السابق تتفتح عبر أسلوب استعاري رصين من خلال كلمة”صيف” والتي جاءت مرتبطة لغوياً بالجار والمجرور” في دمي” إن الحماسة التي تدفقت في نفس الشاعر، وإن الحيوية التي اختلجت في جسمه لدى رؤية الشهيد، إنهما يبثان قدرة عظيمة على الفعل، فالشاعر لم يربط انفعاله بدفء هذه الكلمة الحالمة لكنه قال” صيف” وهنا نتابع الحرارة والقيظ والاندفاع الذي تحفل جوانبه بالغبط والرغبة في الخلاص من العدو المغتصب، فالحركة هنا لها معالمها الخاصة وتكون مرافقة بشراسة لا تعرف حدوداً حتى تبلغ غايتها، وهذا ما نجده في أغلب قصائد محمود درويش، من حضور كثيف للصور الشعرية المتآزرة والمتشكلة في ميدان موهبة الشاعر درويش، ومقدرته الفنية، ذلك أن الصورة هي قبل كل شيء تشكيل مكاني والمكان بذاته جمود وسكون وتلاش وصمت ومقدرة الشاعر تبرز في بث الحركة والحياة في المكان، بمعنى خلق حالة التوافق بين الحركة النفسية من جهة، وحركة الأشياء من جهة أخرى، أي بين الشاعر والعالم الخارجي وهذا ما تقوله كل رمال فلسطين.
صهيون يقتل ثائراً
والأرض تنبت ألف ثائر
يا كبرياء الجرح لو متنا
لحاربت المقابر………….
نقلاً عن صحيفة الثورة