فن الكتابة الساخرة
كوميديا سوداء تشفي غليل الناس بعيداً عن المقال السياسي
جهاد يقدم في مقرمشاته وجبات ساخنة من المقالات الساخرة
كوميديا سوداء تشفي غليل الناس بعيداً عن المقال السياسي
بغداد- ندى شوكت
صدر للكاتب والصحفي عاصم جهاد كتاب في الادب الساخر بعنوان (مقرمشات وجبات ساخنة من المقالات الساخرة) ويقع في 272 صفحة من القطع الكبيرصمم غلافه الاول احمد الربيعي فيما كان التصميم لحيدر طه الطاهر. والكتاب بطبعته الاولى هذه صدر عن دار الكتب العلمية ببغداد وقام بالتقديم له الاعلامي حاتم حسين والاكاديمي قاسم حسين صالح. ويضم الكتاب اكثر من 60 مقالا من بين عناوينها (باجة ابو كلاش)، (مزاج الخير)، (شماعة عبوسي)، (الهر الالماني والعتوي العراقي)، (صمت الحملان)، (أموت على التعيين)، (لماذا يكرهون ميسي ؟) (عيد المجاري) و(الحبربش وسلطان زمانه). ويصف جهاد كتابه (انه وجبات ساخنة من المقالات والحكايات الساخرة.. التي نعيشها ونتعايش معها، بحلاوتها، مراراتها،سخونتها، برودتها. انها رحلة قلم وتجربة نكشف عن الوجه الاخر لمجتمعنا وللمحيطين بنا.، ولمن ساقتهم الاقدار ليتحكموا في مصائرنا. في (مقرمشات) الضحك والبكاء و السخرية حاضرة.. لكن ممن.. هذا ما سنكتشفه في (مقرمشات) التي حرصت على طبخها بعناية لاقدمها لكم ساخنة شهية ولذيذة بطعم ونكهة الحقيقة والواقع العراقي والعربي). ويقول الكاتب والاعلامي حاتم حسن في مقدمة الكتاب (الكتابة الساخرة الفعالة الإيجابية المبدعة، لا تصدر عن غير كاتب على قدر من العلوّ والتحليق والمعرفة ومن محبة الناس والحياة، ويأمل أن يشذبهما وينظفهما من القبح وما لا يليق بهما.. تمده حساسيته الفطرية وثقافته في رصد واقتناص المفارقة في الأفكار والطبائع والممارسات فيكشفها ويعريها ويثير الامتعاض منها ويرفضها… وإلا فإنه سيكون الساخط الحاقد على الحياة والناس فلا يرى غير كراهيته فيهما…
عاصم جهاد كاتب ساخر وله تجربته في فن الكاركتير.. لاقت كتاباته الصحفية نجاحها وصداها، ببساطتها وصدقها وبعمقها… وباستخدامه الموفق للمفردة الشعبية وللمصطلحات الشائعة، فضلاً عن إثراء مواضيعه بالخلفيات الثقافية… المفارقة هنا ليست فقط في مبدأ الكتابة الساخرة، بل وتدشين مثل هذا الابداع من قبل عاصم جهاد في وقت هو الأعلى والأكبر تسجيلاً للمفارقة، في ميدان السياسة، وفي هذه الفوضى الحالكة في ظلمتها وفجائعيتها ودفقها بالمفارقات على مدار الوقت.. إلا أن ما يُحسب له أنه نجح في السخرية من هذا الواقع وفي الامتعاض منه.. ووجد القارئ عزاءه في الهزء من صورة… وبذا وجد عزاءً في هذه الكتابات ومشاركة له في محنته…
لا حزن ولا تعب ولا إرهاق كالذي يعانيه العراقي.. لذلك لا تأثير ولا أثر للكتابات عليه أكثر من المتهكمة الساخرة بنيّات طيبة ومتفائلة.. وربما في عصر المواقع والكتابات الإلكترونية، وتراجع الصحافة الورقية فقد تكون الأقلام الساخرة مثل قلم عاصم جهاد هي من أواخر الأشياء الماثلة في ذاكرة القارئ).
ثلاث صفات
أما الكاتب ورئيس الجمعية النفسية العراقية قاسم حسين صالح فيقول في تقديم المقرمشات ثلاث صفات يندر أن تجتمع في واحد: كاتب عمود ساخر، وإعلامي إذاعي وتلفزيوني، ورسّام كاريكاتير.. لكنها اجتمعت في عاصم جهاد بنوعيات إبداعية. فهو الفائز بجائزة أفضل رسم كاريكاتير في مسابقة شبكة أنباء العراق عام (2012) وأفضل مقال ساخر عام (2013) وقبلها كان العضو المؤسس للجنة الكاريكاتير (1988)، والعضو المؤسس لجمعية الكاريكاتير العراقية (2011)، وأول من أدخل الرسوم المتحركة في الإعلان التلفزيوني(1996). وتمتاز رسومه الكاريكاتيرية بنباهة الفكرة وجمالية اللون.. بل إن بعضها يقترب من اللوحة الفنية. ومع أنه أمضى ربع قرن في أجمل فنون الرسم فإن له خبرة مميزة في الإعلام التلفزيوني والإذاعي تزيد على ثلاثة عقود من الزمن.. بينها برامجه: استراحة الجمعة، تعلولة عراقية، مساء الخير ياعراق… وشناشيل الحاصل على جائزة مهرجان القاهرة (2002) وغيرها الكثير.
وعاصم هو أول من استحدث وظيفة المتحدث باسم وزارة النفط بعد التغيير (2003).. وما كان عمله تقليدياً بل إنه فاز في استفتاء واستبيان كلية الإعلام كأفضل متحدث إعلامي وأفضل مكتب إعلامي حكومي عام 2013، وحصل على درع الإبداع للعام ذاته من وزارة الثقافة لدوره في نشر وترسيخ مفهوم إعلام النفط والطاقة، وفاز بالجائزة العالمية الأولى لوكالة “إنترنيوز″ العالمية لأفضل إعلامي في الصحافة النفظية لعام (2013) أيضاً وفاز بجائزة مهرجان القاهرة 2002 عن أفضل برنامج تلفزيوني. ومع أنه يكفيه إبداعه في هذين المجالين المميزين إلا أنه يقدّم نفسه في (مقرمشات) كاتباً ساخراً أيضاً.. ليتم إبداعه بأن يجلسه على ثلاثة!.. والثالث هذا له خصوصية بوصفه أحد أهم كنوز الإبداع الأدبي في العالم. فن المقال أو العمود الساخر هو لون من الأدب الرفيع لا يجيد كتابته إلا القلّة من الكتّاب والصحفيين.. فهو من نوع السهل الممتنع الذي يأتي فقط لمن يعرف أسراره: الفنية واللغوية والسيكولوجية.. والقصدية.. تجتمع في عالم من الفانتازيا تلعب وترقص وتتوجع على مسرحه تناقضات وسخريات مبطنة وكوميديا سوداء، وأخرى تنغز بدبابيس من أغفل حق نفسه أو تجاوز على حق غيره بسلطة أو دين.. وأخرى تشفي غليل الناس وتفضح من يمتلك سلطة، لو أنها قيلت في مقال سياسي لدفع الكاتب رأسه ثمناً لها.. مع أن (عاصم) دفع ثمناً بتعرض ولده الشاب الى محاولة اغتيال بتفجير عبوة أسفرت عن إصابته وبتر ساقه.. واستشهاد صديقه.. وهو مثل كل المثقفين المحبين للعراق وأهله.. يمشي مع الموت واضعاً كفنه على راحته!.
والأدب الساخر فيه سيكولوجيا الخرافة التي من خصائصها أنها تجذب كل الناس باختلاف مستوياتهم الثقافية.. فيخلق الكاتب من سلطتها الخيالية وتداعياتها الحكائية عوالم أليفة وأخرى غريبة، ويوظف غرائبها لخدمة الحقيقة المنكوبة: (ألو… ألو.. أستاذ ويايه على الخط… قلت: نعم.. وبدون تفكير بادرته مرتبكاً، وبدلاً من أن أقول له هل أنت الملك الصالح سألته: هل أنت الرئيس صالح؟ !!.. أجابني: لا أخويه.. وآني شجابني على اليمني صالح!!.. فقلت: أكيد إذاً أنت أما من بني الإنس أو من الجان!! قال: لا هذا ولا ذاك… عندها قررت أن أضع حداً لحيرتي وأواجهه بالسؤال الأصعب.. فقلت له: إذاً أنت.. أحد الموتى من المقبرة… قال: نعم..!! عندها أصبت (بدوار المقبرة) وليس (دوار البحر)..!! ورحت في غيبوبة قصيرة.. وأنا أتمتم: يا ساتر استر.. كيف ستمضي الليلة بسلام وأمان…).
ولخرافيته المحببة صار الأدب الساخر هو الأكثر رواجاً بين الناس والأكثر إثارة للعقل الجمعي وإيقاظاً للوعي الفردي وتحريضاً للتمرد على الظلم والاستبداد. ولهذا يخشى كبار المسؤولين من الأدب الساخر لأنه يفضح نفاقهم وكذبهم وقباحتهم ويعرّيهم بما يجعل الإنسان البسيط يضحك عليهم.
وحالة سيكولوجية أخرى في الأدب الساخر هي أنه ممتع لإثارته الفكاهة والضحك.. فالفكاهة تنعش المزاج، والضحك يطيل العمر.. وكلاهما ناجم عن فضح مستور أو كشف مفارقة من نوع (الإسكافي.. حافي، والحائك..عريان) أو فضح نفاق.. أقبحه أن يكون في الدين: (خرجت لأستطلع الأمر وإذا بي أرى أحد الأشخاص، وهو ينتعل “قبقاباً” شبيها “بقبقاب” غوار الطوشي في مسلسل “صح النوم” محاطاً برجل يحمل له الإبريق وآخر يحمل له المنشفة، اعتقدت في بادئ الأمر بأن مسلسلاً كوميدياً جديداً يصوَّر في أروقة وزارتنا، وإذا بالموظف الذي سألته سابقاً يقف بجواري قائلاً: “شوف أستاذ هذا هو صاحبنا المدير الجديد اللي حجيتلك عليه” ! قلت له: “شنو القصة”..؟ قال: “أستاذ هسه بدت مراسم الوضوء.. والحبل على الجرّار” ! قلت له: “ليش هو عابس ومتجهم الوجه.. هو رايح يصلّي لو ماشي للحرب”! أجابني: “أستاذ هذه من متطلبات الدور، دتشوف شلون متقمص الشخصية..بروح أبوك أستاذ مو ديمثل أحسن من غوار الطوشي.. بس هذا على طريقة الحامض شلغم”. قلت له: “أكيد أخلاقه حلوة..وخوش ولد..” ؟ أجابني : “أستاذ هذا حاروكة خمس نجوم، يستحوذ على كل الإيفادات والامتيازات وما عنده يمّه ارحميني..مصلحته وبس..” قلت له: “هذه التصرفات تتناقض مع ديننا الحنيف”؟ أجابني: “أستاذ مالهم علاقة بالدين..والمشكلة هذوله مسنودين من الممثلين ممن هم على شاكلتهم).. ويصل بالقارئ الى استنتاج بأن: (الكثير ممن يتاجرون “بالدين” الحنيف..يتلقون دعماً من “المزايدين” الكبار بهدف تشجيع سوق النفاق السياسي والاجتماعي !).
والأدب الساخر ينشط في أزمنة التحولات الكبرى والفوضى السياسية وحين يتحول الفساد من خزي الى شطارة.. الذي ما كان له أن يحصل في العراق بهذا القبح وهذه الصلافة لولا أن السمكة قد فسدت من رأسها!.. التي أوصلت (عاصم) الى تشبيهه المسؤول بـ (الأرضة التي تعمل بهدوء وسرية تامة.. وتقضي على الأشجار المعمرة والأبنية والأثاث والملابس والكتب والسجلات والأرضيات، لتتغذى على مادة (السليلوز) المقرمشة الشهية اللذيذة !..التي صارت في مجتمعنا بشراً تكاثر في الدوائر والوزارات بشكل مخيف شملت حتى من هم بدرجة (العتوي العام) وممن تقلدوا المناصب بطريقة أو بأخرى في غفلة من الزمن، فضلا عن نشاط هذه الأرضة البشرية في الوسط الصحفي والإعلامي والسياسي والاجتماعي، وذلك لوفرة (السليلوز) من جهة، ولانعدام المبيدات وطرق المكافحة الفعالة وطرق الوقاية منها من جهة أخرى..!!
ويستشهد (عاصم) بمقولة برناردشو من عيوب الديمقراطية أنها تجبرك على الاستماع الى رأي الحمقى !).. وكيف صارت تنطبق بشكل فجائعي على الواقع السياسي العراقي الذي يعج بالحمقى. وهو لا يقتصر في سخريته على السياسة والسياسيين بل وتناقضات الناس في تصرفاتهم، وما تلعبه الأمزجه في مواقف وأحداث وقرارات بعضها مصيرية.. كما يتناول الإعلام الذي صار يعتقد بأن لغة التسقيط هي أقصر الطرق التي تؤدي الى الشهرة. وبحكم خبرة (عاصم) الغنية وموسوعيته الثقافية فإن (مقرمشاته) زاخرة بمعلومات تاريخية ومعارف ثقافية، ينهي كل موضوع منها بنقطة ضوء هي أشبه بالحكمة، عبر زمن يمضي بك الى ما قبل جلجامش ويوصلك الى الزمن الجميل.. زمن الشاشة الفضية.. والآي باد والآي فون. إن الأديب الساخر.. (حالم كلمات). صحيح أننا جميعاً نترجم أحلامنا الى كلمات، لكن الأديب الساخر يحوَل (كلماته) الى مشاريع.. يقرّب فيها الأحداث بعدسة مكبرة ملونة لتوقظ فينا الإحساس بأن السخرية من واقع مرير.. تشكّل أقوى دافع للتغيير. ندعوكــــــــــــم،احبتنا، لتحلموا مع (مقرمشات) عاصم جهاد.. ففيها الكثير مما يجعلنا نسخر، ليس من واقعنا فقط.. بل ومن أنفسنا أيضاً!).