في الشعرية العربية
|
||||||
Updated: Monday, February 28, 2005 12:25 PM | ||||||
فهرس الكتاب | أدب الطفل | الدراسات | القصة | الشعر | المسرح | الرواية |
في الشِّعريّة العَربيّة "نقد الشعر" لقدامة بن جعفر قراءة جديدة لقد أُسيء فهم قدامة بن جعفر في حدِّه للشعر: بأنه "قول موزون مُقفَّى يدلّ على معنى" من قبل المعاصرين خاصة. حيث أُخذ الحَدُّ على حَرْفيَّته الظاهرة دون أن يؤخذ بنظر الاعتبار: أولاً: أن قدامة حدّ الشعر باعتبار ما هو متحقق من النصوص. ويتفق القدماء والمحدثون على أن أركان الشعر أربعة: قول (لفظ)، ووزن، وقافية، ومعنى، وبعضهم يُنقص منها (الوزن) أو (القافية) أو كلاهما معاً. ولكن لا أحد زاد عليها شيئاً فجعلها خَمسةً مثلاً. ثانياً: إنّ قراءة (نقد الشعر) لم تنفتح على التفاصيل الإجرائية لكل جزء من هذه الأجزاء الأربعة، أو تعاملت معها على أنها أجزاء منفصلة، وليست أجزاء لنص متكامل. ذاك أن فحص قدامة لهذه المكونات الشعرية كأجزاء لم يكن إلاّ عملية إجرائية وليس رؤية نظرية أو مفهومية لها. يتفق القدماء والمحدثون أيضاً، في أن الشعر صناعة، مثل أية صناعة كالنجارة والصياغة والصباغة. والشعرية هي العلم الذي يتمّ به تمييز جيد هذه الصناعة من رديئها. أو تمييز الشعر من النثر بوضعهما في طرفين متضادين مثل خط مستقيم، أحد قطبيه يُمثّل الشعر الذي بلغ أقصى درجة من الانزياح عن اللغة المعياريّة، والطرف الثاني يُمثّل النثر الخالي من كل انزياح. وبين القطبين تتراوح أقدار الأنماط التعبيرية اللفظية الأخرى. وقد تنبّه قدامة إلى هذه المسألة في وقت مبكر عندما قال: (ولما كانت للشعر صناعة، وكان الغرض في كل صناعة إجراء ما يُصنع ويُعمل بها على غاية التجويد والكمال. إذ كان جميع ما يؤلّف ويُصنع على سبيل الصناعات والمهن، فله طرفان: أحدهما غاية الجودة، والآخر غاية الرداءة. وحدود بينهما تُسمّى الوسائط) (ص16). أي أن (شعرية) قدامة تُميّز بين أكثر من نمط من الشعر: شعرٌ في غاية الجودة. وهو (ما اجتمعت فيه الأوصاف المحمودة كلها، وخلا من الخلال المذمومة بأسرها). وشعر في (غاية الرداءة) بالضدّ من الأول. وشعر يتنزّل بين الطرفين (بحسب قُرْبه من الجيد أو الرديء. أو وقوفه في الوسط الذي يقال لما كان فيه: صالح أو متوسط. أو لا جيد ولا رديء. فإن سبيل الأوساط في كل ما لـه ذلك أن تُحَدّ بسلب الطرفين) (ص17). وهذا يعني، كما قال حازم القرطاجني، أن الشعراء على مراتب ثلاث: المرتبة العليا (غاية الجودة والكمال) وهم الشعراء في الحقيقة. والمرتبة السفلى (غاية الرداءة) وهم غير الشعراء في الحقيقة. والمرتبة الوسطى، وهم غير شعراء بالنسبة للمرتبة العليا، وشعراء بالنسبة للمرتبة السفلى([1]). وإذ كان الناس يجهلون قوانين الصناعة الشعرية، وبالتالي يجهلون تخليص جيد الشعر من رديئه، ولم يكن أحدٌ قد وضع كتاباً في هذا العلم: (نقد الشعر) عمد قدامة إلى وضع هذا الكتاب (بما يبلغه الوسع) (ص13ـ 14)([2]). ثم أنه لمّا كان لا بد من تحديد معايير التمييز بين مراتب الشعراء الثلاث التي ذكرنا، أي تحديد (النعوت) التي تميّز الجيد من الرديء من البين بين.. ولما كانت هذه النعوت تقع على المفردات الأربع من حدّ الشعر (اللفظ، الوزن، القافية، المعنى) فقد دلَّ استقصاء صفات الجودة المطلقة (غاية الكمال) والرداءة المطلقة (غاية الرداءة) والوسائط، على أَنْ تشكل ثماني مجموعات من الصفات لدى قدامة: (أربع منها ذاتية في عناصر الشعر الأربعة منفصلة، وهي اللفظ، الوزن، القافية، المعنى)، و(أربع ناتجة عن ائتلاف هذه العناصر المنفصلة مع بعضها البعض. وهي: ائتلاف هذه العناصر المنفصلة مع بعضها البعض. وهي: ائتلاف اللفظ مع المعنى. وائتلاف اللفظ مع الوزن، وائتلاف المعنى مع الوزن وائتلاف المعنى مع القافية)(ص24). ولما كان لكل واحد من هذه العناصر الثمانية، صفات يُمدح بها. وأخرى يُعاب بها: يكون جماع ذلك: إذا اجتمعت للشعر كل أوصاف الجودة، كان في نهاية الجودة. وإذا اجتمعت فيه كل عيوب الرداءة، كان في نهاية الرداءة. أما الوسائط الجامعة للصفات المحمودة والمذمومة؛ فما كان فيه من النعوت أكثر كان إلى الجودة أميل. وما كان فيه من العيوب أكثر كان إلى الرداءة أقرب وما تكافأت فيه النعوت والعيوب كان وسطاً بين المدح والذم.. أما معرفة ذلك كله فعائدة إلى مَنْ أعمل الفكر وأحسن سبر الشعر.(ص25) قلنا أن قدامة حدَّ الشعر بأنه: "قول موزون مُقفَّى يدلّ على معنى" فكان بهذا فيما نعتقد، منسجماً مع كينونة الشعر العربي، ومع ثقافة عصره. ولسنا نرى أن قدامة كان بحاجة إلى الثقافة اليونانية ـ حتى لو كان متأثراً بالمنطق الأرسطوطاليسي، كما قال د. إحسان عباس([3]) ـ حتى يحدّ الشعر بالحدّ الذي ذكرناه. ذاك أن الشعر: كلام. وهذا يفصله عمّا هو ليس بكلام. ويخصّه باللغة البشرية دون غيرها من لغات الطير والحيوان. وقولنا: موزون يفصله عما ليس موزوناً. وقولنا: مقفَّى. يفصله عمّا لا قوافي لـه. حتى لو كان مُسجَّعاً كالنثر المُسجَّع. وقولنا: يدلُّ على معنى يفصله عمّا لا دلالة على معنى له. وإذا تأملنا أية (شعرية) لا نجدها تخرج عن حدِّ قدامة للشعر بالأركان الأربعة. بل إن هناك من يعيد التأكيد على الوزن والقافية في الوقت الذي تخلّت عنهما بعض الأنماط الشعرية (قصيدة النثر، الشعر المنثور، الشعر الحديث) لأنهما من مقوِّمات الشعر وليس زخارف أو مُلصقات من الخارج. بل إن القافية التي كاد يتخلّى عنها الشعر الحديث بشكل مطلق، وأعادت لها (الشعرية) الحديثة الاعتبار.. عالجها قدامة، ولم يتحيّر بأمرها ـ كما ذهب د. إحسان عباس([4]). بل وجدها ـ بما أنها هي لفظة مثل لفظ سائر البيت في الشعر، ولها دلالة على معنى. كما لذلك اللفظ أيضاً، فهي إذن لها ائتلاف مع معنى سائر البيت فأما مع غيره فلا، يعني أنها قافية من أجل أنها مقطع البيت وآخره، وليس أنها مقطعٌ ذاتي لها (ص24). وعاب قدامة التكلُّف في طلبها أو الإتيان بها دون أن تكون لها فائدة في معنى البيت كقول عليّ بن محمد البصري في وصف الدرع وتجويد نعتها:
فقد أتى بها الشاعر من أجل السجع، وليس يزيد في جودة الدرع أن يكون نجادُها مُخططاً أو أن يكون أخضر أو أحمر.. (ص255ـ 256). وإلى هذا ذهب جان كوهن، في أن (القافية ليست في الواقع مجرد تشابهٍ صوتيّ). وليست هي فقط التي تُملي علينا مكان الرجوع إلى السطر، كما قال أراغون.. بل هي عاملٌ مستقل، صورة تضاف إلى غيرها. وهي كغيرها من الصور لا تظهر وظيفتها الحقيقية إلا في علاقتها بالمعنى)([5]). أما الوزن الذي يراه قدامة: هو شيءٌ واقع على جميع لفظ الشعر الدال على المعنى. فإنه يجب أن يكون مؤتلفاً مع اللفظ والمعنى، سهل العروض، فيه ترصيع ـ خالٍ من الخروج عن العروض، ومن التخليع (أي الإفراط في التزحيف) وأن تكون الأسماء والأفعال في الشعر تامة مستقيمة كما بُنيت لم يضطر الأمرُ في الوزن إلى نقضها عن البنية بالزيادة عليها أو بالنقصان منها. (ص189) يعني هذا، وكما قال كوهن: (ليس النظم عنصراً مستقلاً يضاف من الخارج إلى المحتوى، بل هو جزء لا يتجزأ من مسلسل الدلالة)([6]). وإذا كان هناك من يرى ضرورة الاستغناء عن النظم، فإنَّ قدامة يتفق مع القائلين بأنَّ (النظم ليس ضرورياً ـ كما أنه ليس عديم الجدوى، ما دامت العملية الشعرية تجري في مستويي اللغة معاً: المستوى الصوتي والمستوى الدلالي، بدليل وجود القصيدة النثرية)([7]). يقول قدامة: (وعِلْما الوزن والقوافي ـ وإنْ خَصَّا الشعر وحده ـ فليست الضرورة داعية إليهما، لسهولة وجودهما في طباع أكثر الناس من غير تعلّم. ومما يدلّ على ذلك أن جميع الشعر الجيد المُستشهد به إنما هو لمن كان قبل واضعي الكتب في العروض والقوافي، ولو كانت الضرورة إلى ذلك داعية لكان جميع هذا الشعر فاسداً أو أكثره.. ثم ما نرى أيضاً من استغناء الناس عن هذا العلم فيما بعد واضعيه إلى هذا الوقت، فإنّ مَنْ يعلمه ومن لا يعلمه ليس يُعوِّل في شعر إذا أراد قوله إلاّ على ذوقه دون الرجوع إليه..) ص(13ـ 14). والسؤال، بَعْدُ: إذا كان يمكن للشعر أن يستغني عن النظم، فلماذا لايستغني عنه؟ إنّ الفن الكامل هو الذي يستغلُّ جميع أدواته. والقصيدة النثرية بإهمالها للمقومات الصوتية للغة، تبدو، دائماً، كما لو كانت شعراً أبتر)([8]). لقد كان هدف قدامة الأساس من وضع (نقد الشعر) أو إنشاء علم الشعرية، هو أنه أراد أن يضع علماً يُميّز به الناسُ جيدَ الشعر من رديئه، لأنه وجدهم يُخطِئونَ.. وقليلاً ما يصيبون (ص14). ومَنْ يرسم علماً جديداً لا شك يحتاج إلى مصطلح. وأول مصطلح ـ عادةً ـ هو حدّ المادة التي يريد أن يتحدّث فيها، أي الشعر هنا، ثم حصر الخصائص التي تجعل من هذه الصناعة ـ وهذا مصطلح آخر استخدمه قدامة ـ في غاية الجودة والكمال أو في غاية الرداءة والفساد، أو بين بين.. وقد أشار قدامة إلى هذا عندما قال: (فإني لما كنت آخذاً في استنباط معنىً لم يسبق إليه من يضع لمعانيه وفنونه المستنبطة أسماء تدلّ عليها، احتجت أن أضع لما يظهر من ذلك أسماءً اخترعتها، وقد فعلت ذلك، والأسماء لا منازع فيها إذ كانت علامات، فإن قنع بما وضعته وإلاّ فليخترع لها كل من أبى ما وضعته منها ما أحبّ. فليس يُنازع في ذلك) (ص22).
وهذه الأسماء أو المصطلحات التي يخترعها قدامة، بعضها مما عرفت العربُ قبل قدامة، وبعضها مما لم تعرف.. تصبُّ كلها في (علم جيد الشعر من رديئه) (لأن الكلام في هذا الأمر أخصُّ بالشعر من سائر الأسباب الأخر) وهنا يظهر بشكل جلي: (إن قدامة ناقد يُولي الشكلَ اهتماماً متميزاً، ويرد عِلّة الجمال في الشعر إلى ما ينطوي عليه الشعر من تجانس بين العناصر والأجزاء، وهو يحاول ـ بالتركيز على الصناعة ـ تبرير قيمة الشعر. تلك القيمة التي ترتد إلى صورة القصيدة، والتي لا يمكن أن تفهم منفصلة عن عناصرها، والتي يحددها، أخيراً، "علم" يميز الجيد من الرديء في الشعر)([10]). فقدامة، مثلاً، لا يعيب، خِلاف آخرين، قول امرئ القيس:
لأنهم قالوا بأنّ هذا معنىً فاحش، "وليس فحش المعنى في نفسه مما يزيلُ جودةَ الشعر فيه. كما لا يعيب جودة النجار في الخشب، مثلاً، رداءتُه في ذاته" (ص19). كما أن قدامة لا يعيب مُناقضة الشاعر نفسه في قصيدتين أو كلمتين كأَنْ يصف شيئاً وصفاً حسناً ثم يذمّه بعد ذلك ذماً حسناً أيضاً. فهذا عند قدامة يدل على قوة الشاعر في صناعته واقتداره عليها (ص18) "لأنّ الشاعر ليس يوصف بأن يكون صادقاً، بل إنما يراد منه، إذا أخذ في معنى من المعاني ـ كائناً ما كان ـ أن يجيده في وقته الحاضر لا أن يطالب بأن لا ينسخ ما قاله في وقت آخر.) (ص21ـ 22). وهنا يلتقي قدامة مع الجاحظ والجرجاني وحازم القرطاجني وغيرهم في أنّ الكذب في ذاته ليس من شأنه الحُكمُ على جودة الشعر أو رداءته، وإنما الشاعر مطالب بأنْ يُحسن القول.. لكنّ كل هذا، لا يعني أنَّ قدامة غير معنيّ بالمعنى. فالمعنى هو أحد الأركان الأربعة للشعر، وحده: (يفصل ما جرى من القول على قافية ووزن مع دلالة على معنىً مما جرى على ذلك من غير دلالة على معنى.) (ص15). وقد أخذت (نعوت المعاني الدال عليها الشعر) حيزاً كبيراً من (نقد الشعر). وجماع الوصف في نعوت المعاني أن يكون المعنى مواجهاً للغرض المقصود، غير عادلٍ عن الأمر المطلوب) (ص61). وإذا كان الخلاف بين الناس في مذهبين من مذاهب الشعر حول المعاني: وهما الغلوّ في المعنى، والاقتصار منه على الحدّ الأوسط.. فإن قدامة مع الغلوّ. "لأن الغلوّ عندي أجود المذهبين". وقد قال بعضهم: أحسنُ الشعر أكذبه، أي أقدره تخييلاً. مثل قول أبي نوّاس:
وهذا إفراط في الغلوّ. وإذا أتى بما يخرج عن الموجود، فإنما قَصَدَ إلى تصييره مَثَلاً. وقد أحسن أبو نوَّاس حيث أتى بما يُنبئُ عن عِظم الشيء الذي وصفه.(ص67) الاستعارة أو الانحراف باللغة الشعرية: بعد أن يفرغ قدامة من نعوت اللفظ، والوزن، والقوافي، والمعاني، ينصرف إلى نعوت ائتلاف هذه مع بعضها البعض. ويهمنا من نعت (ائتلاف اللفظ مع المعنى): الإرداف، والتمثيل. "والإرداف هو أن يريد الشاعر دلالةً على معنى من المعاني فلا يأتي باللفظ الدال على ذلك المعنى، بل بلفظ يدلّ على معنىً هو رِدْفُهُ وتابع له، فإذا دلَّ على التابع أبان عن المتبوع. كقول عمر بن أبي ربيعة:
وإنما أراد الشاعر أن يصف طول الجيد (العُنق) فلم يذكره بلفظه الخاص به. بل أتى بمعنى هو تابع لطول الجيد، وهو "بُعْدُ مَهْوى القُرْطِ" (ص178ـ 179). وواضح من هذا، أن الإرداف عند قدامة، هو الاستعارة عند الجرجاني وسواه. أما التمثيل: "وهو أن يريد الشاعر إشارة إلى معنى فيضع كلاماً يدلّ على معنى آخر. وذلك المعنى الآخر والكلام مُنْبِئان عمّا أراد أن يشير إليه. كقول الرَّماح بن ميَّادة:
فعدل عن القول المباشر: إنه كان عنده مُقدَّماً فلا يؤخره. إلى القول غير المباشر: إنه كان في يُمنى يديه، لا يجعله في اليسرى، ذهاباً نحو الأمر الذي قصد الإشارة إليه بلفظ ومعنى يجريان مجرى المثل له. وقصد الإغراب في الدلالة والإبداع في المقالة"(ص182). وإذا أخذنا بنظر الاعتبار نعوت ائتلاف اللفظ والمعنى الأخرى، كالمساواة (وهو أن يكون اللفظ مساوياً للمعنى حتى لا يزيد عليه ولا ينقص عنه). والإشارة: (وهو أن يكون اللفظ القليل مشتملاً على معانٍ كثيرة بإيماء إليها أو لمحة تدلُّ عليها). والمطابق والمجانس (ومعناهما أن تكون في الشعر معانٍ متغايرة قد اشتركت في لفظة واحدة وألفاظ متجانسة مشتقة). إضافة إلى التشبيه الذي أفرد لـه قدامة، فصلاً مستقلاً. نجد أنَّ هذه جميعاً تنتج عن تآلف المعاني والمباني في الشعر. وهي (تؤكد أنّ المعنى الشعري لـه كيفية خاصة في تقديمه، وأنه لا يُقدَّمُ تقديماً حَرفيَّاً.. وإنما يُقدَّم تقديماً مجازياً أو شعرياً عن طرق ما تنطوي عليه اللغة الشعرية من تكثيف وتعدد في الدلالة)([11]). وهي ما تُمثِّلُ الشعر الجيد الذي لم يعتوره (إخلال) في لفظه ولا في معناه([12]). وعلى الجملة فإن المجموعات الأربع الناتجة عن تشابك العلاقات بين اللفظ والوزن، والقافية، والمعنى، إذا ما تآلفت وخَلَتْ من (الإخلال) أو الحشو أو التخليع أو التزحيق إلى غير ذلك من العيوب التي قد تعتور العروض أو القوافي أو المعاني أو اللفظ: كان ذلك هو الشعر في (غاية الجودة). وإذا ما تكاثرت فيه تلك العيوب فهو الشعر في (نهاية الرداءة) أما سبيل الوسائط من الشعر فَتُحَدُّ بسلبِ الطرفين كأن يقال فيه: صالح، متوسط. أو لا جيد، ولا رديء..(ص17). وُصِفَ ابن طباطبا في (عيارالشعر) بأنه عقلي. ويُوصف قدامةُ بأنه منطقي. فهو قد تأثر بالفلسفة والمنطق اليوناني (الأرسطي) وله في هذا الحقل إسهامات، لا تعنينا هنا إلا بقدر تعلّقها أو تأثيرها في (نقد الشعر). وأحسب أن ثمة مبالغة في تقدير التأثير المنطقي في (شعرية) قدامة، لأن حدّ الشعر الذي وصفه قدامة، ليس بالضرورة نتيجة التأثر بالمنطق الأرسطوطاليسي ـ كما ذهب د. إحسان عباس([13])، لأن أركان الشعر الأربعة معروفة لدى العرب، مقولة بهذه الصيغة أو تلك. وكل ما في الأمر أن قدامة اعتبر (الشعرية) "علماً" ـ كما جعلها ابن طباطبا "عياراً" ـ شأنه شأن أي علم آخر أو صناعة أخرى. وأنه يخوض ميداناً بكراً من حيث التأسيس لـ "علمٍ" يُميّز جيد الشعر من رديئه. بعد أن رأى الناس فيه يخبطون خبطاً.. وكان لا بد لهذا التأسيس من حدود تحكمه وتضبطه، سواء فيما تعلَّق بـ (نعوت) (الأربع المفردات) وهي (الوزن، اللفظ، القافية، المعنى) أو (نعوت) (الأربع المركبات) أي نعوت ائتلاف الأربع المفردات مع بعضها بعضاً، أو عيوب ذلك. ومع أن قدامة يستجيب لثقافته (ثقافة عصره) إلاّ أن هذا لم يمنعه أن يأخذ بما سُميَ بـ (طريقة العرب) في تقييم بعض معاني الشعر. فهو مثلاً، يعدّ من عيوب المعاني، مخالفة العُرْف والإتيان بما ليس في العادة والطبع، مثل قول المرَّار:
لأن "المتعارف المعلوم أن الخِيلان سود، أو ما قاربها في ذلك اللون، والخدود الحسان إنّما هي بيضٌ، وبذلك تُنْعَتُ. فأتى هذا الشاعر بِقَلْبِ المعنى"(ص244). وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع قدامة في الأسس التي وضعها لتقييم جيد الشعر من رديئه، أو في تقييمه للشعر بالجودة أو الرداءة، فإن ذلك لا يُقلّل من شأن إنجازه، لأنه لا يُنظرُ في تقدير النظرية ـ أية نظرية ـ من حيث الصحة أو الخطأ، الاتفاق أو الاختلاف، بقدر ما يُنظرُ إلى الأسس والدعائم العلمية والمنهجية التي تقوم عليها من حيث انسجامها أو مفارقتها للظاهرة الأدبية التي تدرسها، في إطار عصرها. ونعتقد أن قدامة، رغم كل ما قيل عن تأثّره بالفلسفة والمنطق الأرسطوطاليسي، لم يفارق الظاهرة الأدبية ـ الشعرية ـ في عصره. فالأسس التي وضعها للشعرية، صحيحة من حيث المبدأ، بل (متكاملة) ـ كما قال د. إحسان عباس([14])، أي من حيث (البحث عن سبيل إلى تأسيس علم متميز لنقد الشعر)([15]). وإذا كان من المفيد مقارنة عمل قدامة، فيقارن بعمل أرسطو في (فن الشعر)، وبالجرجاني في نظرية (النظم) وأسرار البلاغة، والبنيويين والشكلانيين من حيث تحديد طبيعة العلاقة بين (اللفظ والوزن، القافية والوزن). وفي حديثه عن "الأرداف، والتمثيل" كما لاحظنا سابقاً، يضع مصطلحين دالّين: "الإغراب في الدلالة"، و"الإبداع في المقالة". والأول يوازي ما يسميه الجرجاني بـ "معنى المعنى". والثاني هو ما يمكن أن نصفه بالتنكّب عن الطريق المألوف في توصيل المعنى. أي التوسّل بعدد من الإشارات والصيغ المجازية لتوصيل المعنى وتحقيق التأثير في آن واحد. وهو ما أطلق عليه د. جابر عصفور (التقديم الرمزي)([16]) في إطار: الأرداف، والإشارة، والتشبيه، والتمثيل. فعندما يقول امرئ القيس:
فإنما أراد أن يذكر ترفُّهَ هذه المرأة وأنَّ لها مَنْ يكفيها في خدمة البيت، فَعَدل إلى التعبير غير المباشر، وهو: "نؤوم الضحى" (ص179). وهكذا يظهر لنا من كل ما تقدم أن قدامة: (آمن بأن النقد يقوم على نظرية مُحدَّدة، وأنه في ذلك نسيج وجده، وإن خالفناه في أكثر ما يريده من الشعر والنقد)([17]). |