قصة قصيدة د. عبير
قصة قصيدة
د. عبير عبد الصادق محمد بدوي
أستاذ الأدب والنقد المشارك بالكلية
قصيدة ( وجئت أصلي ) للشاعر محمود حسن إسماعيل
وجئت أصلي
ورغم اندلاع الدجى كالبراكين حولي ،
ورغم الأعاصير ترمي خطاها بسفحي وجرحي
وساحات هولي
أتيت أصلي !
ورغم احتراق الدروب !
ونهش الخطوب لحبات قلبي ورملي !
أتيت أصلي !
ورغم اندفاع الذئاب علي كل باب ،
به حسرة من شرايين أهلي !
وجئئت أصلي ،
وفجرت ذاتي لهيبا جديدا،
يمزق أغلال رقي ، وذلي
وما كنت عبدا
ولا ذقت قيداً
ولكن صوتاً خفياً من الله يملي !!
إذا حدت عنه ، تردي صباحي بليلي!
وكدنا نحس
بأنا بأرض ضللنا إليها طريق الصلاة
وأنا اتجهنا إلي ساحة
لها نسب بفجور العصاه
وحاشا .. وحاشا لبيت الإله
وجدنا الصلاة.. بغايا من الشر ترقص فوق الحريق
وجدنا الأذان ..
شياطين لغو.. تهاتر بالإثم عبر الطريق
وجدنا المصلي ..
ميادين لهو ، تخاصر فيها الخنا والفسوق
وجدنا الحمام الذي كان يصغي
لصوت الحوا ميم يخضر منه السكون العريق ،
.. ويهد ل بالطهر نشوان
يشرب من كل حرف خشوع الرحيق ؛؛
ذبيح الأمان
جريح المكان
يولول في صمته لا يفيق !!
وجدنا التراب الذي فيه صلي.. "محمد" .
حريقاً.. به لعنة الله ترغي وتزبد !!
وجدنا المنابر..
تحكي مجازر للطهر مخنوقة في العروق
وجدنا علي صخرة الحق
ليلا.. ينادي الشروق
وناراً.. تشد يد النور
من قاع ليل عميق
من الدم والعظم نعلي ذراها
بيوم سيزحف بالقادسية
وبالغضب الحر في كل نفس أبية
وبالثأر .. وهو الصلاة الزكية
وصوت الإله إلي كل روح تقية
بها يعجل النصر .. جمع الصفوف
وإصرارها .. في صمود الوقوف
فهيا إلي الثأر .. من كل سفح وسهل
وهيا.. وهيا..
إلي المسجد القدس .. جمعا نصلي
يضم ديوان (صلاة ورفض ) بين ضفتيه قصائد لأنات الشاعر(محمود حسن إسماعيل ) علي فلسطين الجريحة علي رفاتها المحطم وتاريخها الذبيح وحاضرها الشقي ، وغدها المشنوق المجلود ، ومأساة عمرها التي تتناقلها الأجيال في حسرة وهوان .
وقصيدتنا (وجئت أصلي )إحدى قصائد الديوان تحكي هذه القصة القديمة الجديدة
فقد استيقظ الوجدان العربي فجأة بعد الحرب العالمية الثانية علي جرح هائل في كبريائه ، وأخذت القضية شكلا جديا من يوم أن أصدر ا للورد "بلفور " وزير خارجية بريطانيا تصريحه المشئوم في 2نوفمبر1917م الذي يعد فيه اليهود بإقامة الوطن القومي لهم بفلسطين .
فقد اغتصبت فلسطين وتشرد أهلها في الداخل والخارج في مأساة غير عادلة وغير عادية في آن واحد ، أصبح الإنسان العربي المشرد يواجه حاضراً رهيباً مليئاً بالتعاسة خالياً من الإشرافات 0
ولقد كانت لأحداث فلسطين أصداء بعيدة المدى في شعر ( محمود حسن إسماعيل) خصها بديوان "التائهون " بالإضافة إلي قصائده الوطنية الكثيرة في دواوينه (نهر الحقيقة – الملك – أين المفر – هدير البرزخ ).
وديوانه (صلاة ورفض )عايش المأساة ورصد تبعاتها و شارك البلد المحتل آلامه وأحزانه ، وخاصة مسجدها الأقصى فالجرح الذي أصاب فلسطين ،أصاب قلب كل مسلم وعربي ، فالمسلم للمسلم كالبنيان إذا اشتكي من عضو تداعي له سائر الأعضاء.
فاحتلال فلسطين كان ولا يزال جرحاً دامياً في أدق مكان من العالم الإسلامي كله ذلك أنه وقع بالتآمر والدس والخداع ،ولم يكن بالحرب, أو المواجهة الصريحة .
وشاعرنا حين يتحدث عن القضية يشير إلي إسلاميتها من حيث إن في قلب فلسطين "مدينة القدس " مسري النبي – صلي الله عليه وسلم – وأولي القبلتين ، وثالث الحرمين الشريفين .
إذن فقد أعطت العناية الإلهية هذا الموطن دوراً خاصاً، ومكانة خاصة في قلوب المسلمين في كل بقعة من بقاع الأرض .
قال تعالي (سبحان الذي أسري بعبده ليلا من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصى
الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير )
وعن أبي الدر داء قال : قال رسول الله – صلي الله عليه وسلم - :
(الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة ، والصلاة في مسجدي بألف صلاة ، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة )
ويبقي بيت المقدس في ضوء هذه الرؤية موطنا لحدود شخصيتنا الدينية ولمحتواها الثقافي والأخلاقي ، وخسارته تعني تحطيم هذه الحصون المهمة لحرمة الوجود الإسلامي .
ويقف شاعرنا أمام المسجد الأقصى بعد حريقه الآثم – في 21أغسطس سنة 196م - وقفة جديدة ، وقفة المؤمن الواثق بالعودة ، وقفة الرافض للتنازل عن الحقوق ، وقفة المزدري للتهافت علي فتات الحلول الجزئية ،وقفة إعداد النفس للجهاد والإقبال علي الموت بحب ورضي وقفة البذل والسخاء وإهانة المال من أجل تطهير الأوطان من الغاصبين المعتدين .
وهذه كلها وقفات نور علي طريق الحق لاسترجاع الأرض ، فهو يدرك إدراك واع للحقيقة بأنه إذا ضاعت القدس فلن يبقي للفلسطينيين شئ ، وأنه إذا ضاعت القدس فلن يبقي للمسلمين من فلسطين شئ 0
وقصة القصيدة تحمل دلالتين :
الدلالة الأولي : دلالة نفسية فالصلاة في القصيدة لا تحمل دلالة العبادة فقط 00ولكنها تحمل أشعة محمومة من الغضب والثأر والإصرار لاستنهاض الهمم ، وإثارة النخوة الإسلامية من أجل تحرير الأرض ، وأن تكون انتفاضة معلنة وثورة عارمة يبذل في سبيلها الجهاد وتفرغ من أجلها الطاقات 0
فالموقف يحتم علي الشرق عامة ، والأمة الإسلامية والعربية أن تتحرك في عزم الرجال ، وعزيمة الأبطال ، وفطنة العلماء ، وحكمة المؤمنين ، وأن يكونوا علي قدر المسئولية في هذه القضية لأنهم أصحاب حق ، ولا يضيع حق وراءه مطالب .
الدلالة الثانية : دلالة سياسية قانونية ، تتمثل في إدانة العدو الصهيوني بالظلم ، والتعسف والإجرام ، فالظفر بالصلاة لم يتحقق للشاعر إلا بعد معاناة قاسية انتصر فيها الشاعر بإيمانه وإصراره ، فدهس السدود ، وداس القيود ، وجاز الحدود علي حد قوله :
دهست السدود
ودست القيود
وجزت الحدود
وجئت أصلي ..
وتفرد شاعرنا في عرض قصة القصيدة المعروفة للعالم أجمع بمظاهر ثلاثة :
الأول :أن الشاعر لم يعد " ذاتاً فردية "ولكنه تحول إلي " ذات جمعية " فحلت ال"نحن الجمعية "محل ال"أنا الفردية " ، وتحولت " أتيت أصلي "إلي "أتينا نصلي"
الثاني : ارتفاع نبرة الإصرار حتى لو ارتكب الأعداء ما هو أبشع وأمر ، واعتي مما ارتكب ، "فهدمت كل القباب " " وباتت مآذنها أذرعا لطغاة الخراب " " وانتشر الموت الزؤام في كل مكان " .
الثالث : الخلوص من الروح التعبدي إلي العمل الجهادي وهو الوجه الأخر لنسيج شخصية المسلم التي لا تتكامل إلا بالجمع بين " العبادي " و" العملي " بين "الروح "و "السلوكي " وذلك حتى يسترد الوا قع المشوه المسحوق وجهه البهي الجليل ، ولتحقيق هذا الهدف علينا أن نؤدي :
الصلاة الغضب.. الصلاة الزحف .. الصلاة الثأر ..
وإلا كانت الطاقة الروحية التي تشبعت بها النفس وامتلأ بها القلب هواء وهباء.
فهذه هي فلسطين التي اغتصبتها الصهيونية ،وطردت أهلها العرب و المسلمين والمسيحيين .
وهذه هي القدس مسري الرسول محمد – صلي الله عليه وسلم –و معراجه إلي حيث كرمه الله فأراه من آياته الكبرى
وهذه هي مأساة المسجد الأقصي ، ومسجد القبة المشرفة إنها قضية كل مسلم علي وجه الأرض ، وليست قضية العرب وحدهم ، وإن كان عليهم عبؤها.
وبقي أن نقول ما قاله الشاعر من أن تحرير فلسطين رهن بوحدة العالم الإسلامي، وأن وحدة العالم الإسلامي إنما تحدث عند تحرير فلسطين فالأمل في ضم الصف ولم الشمل وتحقيق الوحدة .