قصيدة لاتصالح
-3-
أما الوصية الثالثة فقد وقعت في تسعة وعشرين سطرًا رجع الشاعر
خلالها
مرتين إلى استدعاء صور وذكريات
للطفولة عله يستطيع التأثير بهذه الطريقة على
الآخر وذلك في قوله:
وتذكرْ .. .. .. .. ..
(إذا لان قلبك للنسوة اللابسات
السواد ولأطفالهن
الذين تخاصمهم الابتسامة)
أن بنت أخيك "اليمامة"
زهرة
تتسربل - في سنوات الصبا -
بثياب الحداد
كنت، إن عدتُ:
تعدو على درج
القصر،
تمسك ساقيَّ عند نزولي .. ..
فأرفعها - وهي ضاحكة - ..
فوق ظهر
الجواد
ها هي الآن صامتة
حرمتها يد الغدر:
من كلمات أبيها،
ارتداء
الثياب الجديدة
من أن يكون لها - ذات يوم - أخ
من أب يتبسَّم في عرسها
وتعود إليه إذا الزوج أغضبها
وإذا زارها .. يتسابق أحفاده نحو أحضانه،
لينالوا الهدايا .. ..
ويلهوا بلحيته (وهو مستسلم)
ويشدُّوا العمامة
إلا أننا نقول: إن الشاعر استخدم أسلوب النصح في مطلع هذه الوصية في قوله:
لا تصالح .. .. ..
ولو حرمتك الرقاد
صرخات الندامة
ولأول مرة
يستخدم الشاعر فعل الأمر (تذكر)
صراحة في القصيدة والمعطوف على الفعل لا تصالح..
وهنا نلاحظ أن الشاعر يستخدم (إذا) التي تفيد عدم التأكد من وقوع هذا الأمر،
وأنه ما زال في شك من أمر الآخر.
يلاحظ في هذا المقطع أن الشاعر يعتمد
في
موسيقاه على نوعين من القافية مثلما لاحظنا في المقطع السابق،
النوع الأول رويه
الدال الساكنة في قوله:
(الرقاد - السواد - الحداد - الجواد - الرماد)،
أما
النوع الثاني الميم المفتوحة فالهاء الساكنة في قوله:
(الندامة - ابتسامة -
اليمامة - العمامة - اليمامة "مرة أخرى").
ويلاحظ أن عدد كل من القافيتين جاء
متساويًا في هذه الوصية.
-4-
وفي الوصية الرابعة يعود الشاعر مرة
أخرى لاستخدام صيغة السؤال ثلاث مرات،
في هذا المقطع الذي وقع في سبعة عشر
سطرًا، حيث يقول الشاعر:
كيف تخطو على جثة ابن أبيك ؟
وكيف تصير المليك ..
.. ..
على أوجه البهجة المستعارة ؟
كيف تنظر في يد من صافحوك .. ..
فلا
تبصر الدم .. .. ..
في كل كف .. .. ؟
إن هذه الأسئلة تفيد الاستنكار وتؤكد
على استحالة أن يحدث مثل هذا،
وبمثل هذه الكيفية، التي جاء ذكرها في الأسئلة؛
لذا نرى
الشاعر يبدأ أسئلته الثلاثة بـ "كيف".
في هذه الوصية يلاحظ كثرة
استخدام القافية، وكثرة تنوعها:
1- (الأمارة - المستعارة - شارة - الأمارة "مرة
أخرى").
2- (أبيك - المليك - صافحوك).
3- (كل كف - من الخلف - ألف خلف).
4- (سيف - زيف).
5- (الشرف - الترف).
وكما لوحظ فإن النوع الأول من
القافية كان أكثر انتشارًا
وأكثر توزيعًا بين سطور هذه الوصية، حيث انتشرت هذه
القافية في أواخر السطور (الثاني - الخامس - الحادي عشر - الثالث عشر).
-5-
في الوصية الخامسة - كما سبق أن أوضحنا -
يستخدم الشاعر
"لا تصالح" ثلاث مرات في السطر الأول
- السطر السابع - السطر السادس عشر،
في
حين أن هذه الوصية تكونت من واحد وعشرين سطرًا.
وهو يستخدم الصيغة (ولو قال -
ولو قيل) مرتين في هذا المقطع في قوله:
لا تصالح
ولو قال من مال عند الصدام
".. ما بنا طاقة لامتشاق الحسام .."
لا تصالح
ولو قيل ما قيل من كلمات
السلام
إن الغائب يصبح حاضرًا في هذا الجزء من الوصية؛
لأننا سنعرف - أو
أننا نعرف بالفعل -
من هو الذي يمكن أن يقول ما بنا طاقة لامتشاق الحسام،
ومن
الذي يداعبنا بكلمات عن السلام أو بكلمات من السلام.
إن القافية في هذا الجزء
تتراوح بين الميم الساكنة المسبوقة بألف المد والسين الساكنة، وذلك في قوله (الصدام
- الحسام - السلام - الغرام - ينام - الطعام - الفطام) و
(تتنفس - بخرس - المدنس
- منكس - المقدس).
كما يلاحظ أن الشاعر يعود إلى استخدام صيغة التساؤل
في
هذه الوصية بالإضافة إلى صيغة الأمر،
فعلى حين تجد أن الشاعر يستخدم التساؤل
خمس مرات في قوله:
1- كيف تستنشق الرئتان النسيم المدنس ؟
2- كيف تنظر في
عيني امرأة أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها ؟
3- كيف تصبح فارسها في الغرام ؟
4- كيف ترجو غدًا .. لوليد ينام ؟
5- كيف تحلم أو تتغنى بمستقبل لغلام وهو
يكبر بين يديك - بقلب منكس ؟
نجد أنه يستخدم النهي في: لا تقتسم، والأمر في:
ارو (تكررت ثلاث مرات)
خلافًا للنهي في: لا تصالح الذي تكرر ثلاث مرات أيضًا، أي
أن الشاعر استخدم صيغة الأمر سبع مرات في هذه الوصية.
وربما يكون هذا الجزء هو
أكثر الأجزاء استخدامًا لصيغة التساؤل وفعل الأمر معًا،
إن التساؤلات السابقة
التي تفيد الاستنكار
والتعجب تفيد أيضًا معرفة الشاعر لخصوصية الشخصية التي
يخاطبها،
بل معرفة الخصائص النفسية، وهنا يلاحظ على هذه التساؤلات:
إن
الشاعر يستخدم الصيغة التي تبدأ بـ "كيف" التي ربما تفيد التعجب،
ولكن طرحها خمس
مرات على هذا النحو يدل
على أن الشاعر يريد الوصول إلى الكيفية التي يفكر
بها
هذا الآخر الذي يخاطبه أو يوجه إليه التساؤلات،
إنه يريد أن يتخطى
الطريقة التي يفكر بها الآخر نظريًّا إلى الطريقة العملية، عن طريق تكرار هذه
الصيغة التي بدأت بـ "كيف"،
وربما أنه يستنكر على هذا الآخر أن يفعل مثل هذه
الأفعال،
فإنه بطريقة غير مباشرة يقول لنا إنه عرف أو يعرف خصائص شخصيته،
بل إنه في التساؤل:
كيف تنظر في عين امرأة
أنت تعرف أنك لا تستطيع
حمايتها ؟
يضع الآخر في مواجهة مع النفس، وتكون المواجهة عنيفة جدًا أو أعنف ما
يكون؛
لأنه يطعنه في رجولته، ويطعنه فيما يتعارف عليه
الرجل الشرقي من
حمايته للضعيف،
خاصة إذا كان هذا التساؤل على هذا النحو،
إنه يأتي كصفعة
قوية لعلَّ الآخر يفيق من غفوته
ويعمل بنصيحة الشاعر في قوله "لا تصالح" التي هي
سر كتابة هذه الوصايا، أيضًا يأتي التساؤل الثاني:
كيف تصبح فارسها في الغرام
؟؟؟
مؤكدًا على هذا المعنى.
وإذا كان الشاعر قد لجأ إلى ما أسميناه بالصورة
الشعرية المستحيلة في قوله:
واغرس السيف في جبهة الصحراء
إلى أن يجيب العدم
وذلك في الوصية الثانية، فإنه يلجأ مرة أخرى إلى مثل
هذه الصورة الشعرية
المستحيلة في هذه الوصية الخامسة في قوله - في نهايتها:
واروِ قلبك بالدم .. ..
واروِ التراب المقدس .. ..
واروِ أسلافك الراقدين .. ..
إلى أن ترد
عليك العظام !
وتكمن الاستحالة في هذه الصورة في السطر الأخير "إلى أن ترد عليك
العظام"،
وكما قلنا إنه من المستحيل أن يجيب العدم في الوصية الثانية،
فإننا
نؤكد أيضًا على استحالة أن ترد العظام،
ومن هنا يظل الآخر عاكفًا على إرواء قلبه
بالدم وعاكفًا على إرواء التراب المقدس من هذا الدم،
وعاكفًا على إرواء
الأسلاف الراقدين إلى أن ترد عليه العظام،
أي إلى أن تحدث معجزة وترد العظام أو
إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
يتبع