لسيميولوجيا والعلا
السيميولوجيا والعلامة
المفهوم والمصطلح
ملاّس مختار
لا أحد يستطيع أن ينكر الإنجاز الكبير الّذي حقّقته السيميولوجيا (la sémiologie) في حقل الدراسات اللغوية والأدبية، بما امتلكته من إجراءات وآليات حداثية، قادرة على استيعاب الإفضاءات الجمالية للنص الأدبي. لقد تمكنت هذه المدرسة من لمس مناطق الإثارة الحساسة للإبداع الإنساني، وهذا في محاولة منها لتأسيس منهج علمي قادر على فضح الاستغواءات والميكانيزمات الجمالية للعملية الإبداعية، رغبة منها في تحقيق الوجود الكينوني للنص الأدبي.
1 - المفهوم: تعود السيميولوجيا في أصلها اللغوي الغربي إلى اللغة اليونانية، فهي مركبة- مثلها مثل باقي العلوم الأخرى- من عنصرين أساسيين هما: (Sémeion) والّذي يعني العلامة، و(Logos) والّذي يعني خطاب أو علم. أما في الاصطلاح النقدي الحديث فقد أجمعت مختلف المعجم اللغوية والسيميائية على أنّ السيميائيات هي العلم الّذي يدرس العلامات، حيث جاء في «قاموس النقد الأدبي» أنّ السيميولوجيا بمعناها الضيق (في الطبّ) أو الواسع (في العلوم الإنسانية) ليست سوى دراسة للعلامات داخل نظام معيّن(1). أمّا جوزات راي-دبوف (Josette Rey-Debove) في معجم مصطلحاتها «السيميوطيقا» (Sémiotique) فإنّها تعود بنا إلى سوسير الّذي عرّف السيميولوجيا بأنّها العلم الّذي يدرس حياة العلامات داخل الحياة الاجتماعية(2).
2 - النشأة: يعود الفضل في نشأة السيميولوجيا إلى مدرستين عتيدتين، هما مدرسة شارلز سانرز بيرس (1838-1914)(Charles Sanders Pierce ) الّذي أطلق على هذا العلم اسم السيميوطيقا (Sémiotique) وهو أكثر ارتباط بالفلسفة، والتزم به الأمريكيون من بعده، ومدرسة فردينان دي سوسير الّذي اقترح عليه اسم السيميولوجيا (Sémiologie) والتزمه الأوروبيون من بعده(*).
أ- مدرسة بيرس: على الرغم من أنّ ظهور مصطلح السيميولوجيا والسيميوطيقا كان في الفترة نفسها، إلاّ إنّ بعض الدارسين - ومنهم لودال - يؤكّدون أسبقية بيرس على سوسير. حيث يقول لودال في هذا الشأن: «إنّ سبق سيميوتيكا بيرس على سيميلوجيا سوسير شيء لا يناقش»(3). فعندما كان سوسير يحاول صياغة تصوره الجديد للسانيات، ويداعبه حلم في تأسيس علم جديد، كان الفيلسوف والسيميائي الأمريكي شارلز سانرز بيرس ينحت - انطلاقاً من أسس إبستمولوجية مغايرة - تصوراً آخر لهذا العلم، أطلق عليه اسم «Sémiotique». وقد أكّد ريادته لهذا العلم، حيث قال: «أنا، على ما أعلم، الرائد، أو بالأحرى فاتح الباب، في توضيح وكشف ما أسمّيه بعلم السيمياء، أعني مذهب الطبيعة الجوهرية والتنوعات الأساسية للدلالة الممكنة»(4). وقد اعتبر بيرس أنّ المنطق بمفهومه العام ما هو إلاّ اسم آخر للسيميوطيقا(5). ويعتبر اكتشاف بيرس لهذا العلم هو ثمرة جهد طويل في التفكير والبحث الفلسفي، حيث أثبتت الدراسات أنّ تاريخ السيميوطيقية يعود إلى ألفي سنة مضت مع علماء المنطق ومنهم خاصة أرسطو وأفلاطون والرواقيون «Stoiciens». وقد أصبح هذا العلم على يد مناطقة العرب وفلاسفة القرون الوسطى من مقدّمات المنطق الّتي لا غنى عنها(6). وقد استمدّ بيرس مصطلح السميوطيقا «من المصطلح الّذي أطلقه جون لوك على العلم الخاص بالعلامات والدلالات والمعاني المتفرّع من المنطق، والّذي اعتبره لوك علم اللغة»(7).
ب- مدرسة سوسير: يعدّ كتاب سوسير «دروس في الألسنية العامة» الصرخة المدويّة للسيميولوجيا في عالم البحث اللغوي. وقد أكّد بدوره، من خلال هذا الكتاب، ريادته لهذا العلم، حيث قال: «يمكننا إذن تصوّر علم يدرس حياة العلامات في صدر الحياة الاجتماعية، وهو يشكّل جانباً من علم النّفس الاجتماعي، وبالتّالي من علم النّفس العامّ. وإنّنا ندعوه بـ«الأعراضية»(**) (Sémiologie) تلك الّتي تدلّنا على كنه وماهية العلامات والقوانين الّتي تنظّمها. هذا ولكون خلقها لم يتمّ بعدُ، فإنّه ليعزّ علينا أنّ نعرف ما ستؤول إليه، ومع ذلك فإنّ لها حقّا في الوجود، وأنّ مكانتها محدّدة قبليّا»(8).
3 - مصطلح العلامة: لقد أفضى البحث اللساني في علاقة الكلمات بالأشياء إلى تحقيق أحد أهمّ المفاهيم النقدية الّتي أشاعتها النظرية السيميائية المعاصرة؛ إنّه مفهوم العلامة (Signe) أو ما يسمّيه البعض بالدليل أو الرمز. ويعدّ هذا المصطلح – على حدّ قول بارت - من المصطلحات الغامضة جدّاً بسبب استخدامه في معاجم مختلفة (من اللاهوت حتّى الطبّ)، ثمّ بسبب تاريخه الغنيّ (من الإنجيل حتّى السيبرنطيقا)»(9). وهذا ما أكّد، جاك دريدا حينما حاول أن يخضع «العلامة» إلى سؤال الجوهر، سؤال الـ «ما أنت؟»، فإذا به يصل إلى أنّها «هي ذلك الشيء غير المسمّى بوضوح، والوحيد الّذي يفلت من السؤال المؤسّس للفلسفة: «ما هو...؟»» (10). وقد اختلف مفهوم العلامة في السيميائيات المعاصرة انطلاقاً من اختلاف المدرستين السوسيرية البيرسية.
وقد توصّل سوسير من خلال هذا الإنجاز الكبير الّذي حقّقه في مسار النظرية السيميائية إلى الإقرارباعتباطية (Arbitraire) العلامة اللغوية، انطلاقا من أنّ العلاقة بين الدال والمدلول ليست توقيفية بقدر ما هي علاقة اعتباطية وجزافية. إنّ مبدأ اعتباطية العلامة- كما يقول- «لا يردّ ولا يدحض، ولكن غالباً ما يكون اكتشاف حقيقة ما أكثر سهولة من أن نوليه المكانة اللائقة به»(13). ولم ينصبّ اهتمام البحث السيميولوجي على الدال أو المدلول وإنّما على تلك المسافة الفاصلة بينهما، هذه المسافة الّتي تظلّ باهتة لا تكشف عن معنى معين، حيث يغدو الاحتمال هو الطابع المميّز لها.
ولعلّ من أهمّ الإفرارات الّتي تمخضّت عن فكرة اعتباطية العلامة اللغوية ما توصلت إليه المدرسة البنيوية السيكولوجية بقيادة الفيلسوف والمحلّل النفسي جاك لاكان (Jacques Lacan) (1901- 1981) الّذي دفع بالنقد الأدبي في فرنسا نحو اتجاه جديد يقوم على مبدأ «أنّ البنية الشاملة للغة هي بنية لا شعورية»(14). وهكذا تمكّن الدال، من خلال هذه النظرية الجديدة، من التحرّر من سلطة المدلول الأحادي الّذي سيطر عليه، وقلّل من حيويته وتأثيره. ممّا شكّل «لدينا عندئذ مدلولاً ينزلق (Sliding) ودالاً يعوم (Floating)(15). إنّ اعتباطية العلامة اللغوية قد ساعدت النصّ على تكثيف دلالته وتضخيم علاميته، منفلتا بذلك من سجن المدلول وعبودية الخارج. ولذلك كانت دعوة الغذامي إلى «تعليق المدلول في تعاملنا مع النصوص من أجل تحرير الدّال، وفتح النصّ لإفراز الأثر على أنّه غاية إبداعية لا يكون للنصّ قيمة من دونها»(16).
ب- العلامة عند بيرس: نظراً لأن سيميوطيقية بيرس هي نتاج سياق فلسفي ارتبط بالرياضيات والمنطق، فإنّ موضوع العلامة عنده كان متشعّباً ومتفرّعاً إلى الحدّ الّذي قد تعسر فيه الإحاطة بكلّ جزئياته. وقد اعتبر عادل فاخوري أنّ سيميوطيقية بيرس «تستند على فلسفة شاملة للكون، تبدو - بسبب طبعها المغالي في التجريد والتعميم - موضع شكّ، لأن تكون صالحة لتأسيس نظرية المعرفة عامة والسيمياء خاصّة»(17). ولعلّ ذلك ما تجلّى في مفهومه العلامة أو الدليل الّذي هو- حسب رأيه- «عبارة عن شيء ما يعوّض شيئاً معيّناً بالنسبة لشخص معيّن وفق علاقة معيّنة أو صفة معيّنة, إنّ الدليل موجّه إلى شخص معيّن؛ أي أنّه يخلق في ذهن هذا الشخص دليلاً معادلاً أو دليلاً أكثر يسمّيه بورس مؤوّلا (Interprétant) للدليل الأوّل. ويعوّض هذا الدليل شيئاً معيّناً هو ما يسمّيه بورس بموضوع (Objet) الدليل»(18).
وتتمظهر حيوية الأيقونة وقيمتها في قدرتها على أن تكون وسيلة اتصال وتفاهم بين الأمم والشعوب المختلفة، وهو أمر شائع في مجالات كثيرة منها تصاميم المدن والخرائط الجغرافية وغيرها. غير أنّ هذا لا يعني أنّ العلامات الأيقونية لا تحتاج إلى تفسير بل على غرار سائر العلامات يمكن توضيحها وشرحها بعلامات أخرى(24).
ولعلّ القيمة الّتي تختص بها الأيقونة دون سائر العلامات قد جعلت منها الفضاء الأرحب للسيميائيات عامة، وللسيميائيات البصرية الّتي عبّرت عنها الثقافات القديمة على وجه الخصوص. فقد أخذت صبغة دينية حينما أصبحت تشير إلى طلاء ديني خالص للكنيسة الأرثذكسية في الشرق. كما اهتمّ بها علماء الأنثروبولوجيا الثقافية والفيلولوجيون وعلماء الآثار. أمّا في هذا العصر فقد وجد فيها الإنسان ضالته، حيث أصبحت هي اللغة الحيّة الّتي بإمكانها أن تتجاوز معوّقات اللسان في سبيل تحقيق تواصل أوسع بين البشر(25). وقد عدّها لوتمان والعلماء السوفيات عموماً «أحد طرفي ثنائية هامّة في تكوين الثقافات، فالنظام السيميوطيقي، على حدّ قول جماعة تارتو وموسكو يقوم على نوعين من العلامات: العلامات العرفية (الكلمة)، والعلامات الأيقونية (الصورة)، ولا يمكن، بحال من الأحوال، إلغاء أحد النوعين، فهناك ثقافات تعلي من شأن الكلمة، بينما هناك ثقافات أخرى تضع الصورة في مكان الصدارة(26).
2 - القرينة: إنّ القرينة (Indice)- أو ما يترجمها البعض بالشاهد أو المؤشّر- هي، كما جاء تعريفها عند بيرس: «علامة تشير إلى الموضوع الذي تعبّر عنه عبر تأثّرها الحقيقي بذلك الموضوع. فهي لا يمكن أن تكون، إذن(****)، العلامة النوعية؛ لأن النوعية ماهية مستقلّة عن أي شيء آخر. وبما أنّ المؤشّر يتأثّر بالموضوعة فلا بدّ أن يشارك الموضوعة في نوعية ما، والمؤشّر يقوم بالدلالة بصفته متأثّراً بالموضوع. فالمؤشّر يتضمّن، إذن، نوعاً من الأيقون مع أنّه أيقون من نوع خاص. فليست أوجه الشبه فقط- حتّى بصفتها مولّدة للعلامة- هي الّتي تجعل من المؤشّر علامة، وإنّما التعليل الفعلي الصادر عن الموضوع هو الّذي يجعل المؤشّر علامة»(27).
فالشاهد أو القرينة بهذا المعنى هو علامة ترتبط بموضوعها ارتباطاً سببياً، وكثيراً ما يكون الارتباط فيزيقياً أومن خلال التجاور(28) من مثل دلالة الحمّى على المرض، والغيوم على المطر، والدخان على النار، ودلالة آثار الأقدام على أنّ هناك من مرّ من هنا، ودلالات النصب الّتي تعطي إشارات على الطريق إلى غير ذلك. ويكمن الفرق بين الأيقونة والقرينة في أنّه إذا كانت الأيقونة لا تفقد خصوصيتها حينما ينعدم موضوعها، فإنّ القرينة هي «علامة تفقد حالاً الميزة الّتي تجعلها علامة إذا انعدم موضوعها، لكنّها لا تفقد هذه الميزة إذا لم يوجد تعبير»(29).
وقد تدلّ القرينة على موضوعها بصورة غير مباشرة، حيث قد تفصل بينهما قرينة أخرى أو مجموعة قرائن، كأن يكون الدخان قرينة لوجود النار، والنار قرينة لوجود الإنسان، والإنسان قرينة لوجود الطعام وهكذا دواليك. ومن هذا المنطلق يميّز بيرس بين نوعين من القرائن؛ قرائن أصلية؛ وهي تلك الّتي تشير إلى موضوعها مباشرة، وقرائن منحدرة؛ وهي الّتي تشير إلى موضوعها بواسطة سلسلة من القرائن المتّصلة(30).
3 - الرمز: يعدّ الرمز (Symbol) أفضل العلامات على الإطلاق، وأكثرها تجريداً، وذلك لأنّهعلامة إنسانية محضة، تدلّ على موضوعها بالوضع عكس ما عليه كلّ من الأيقونة والقرينة، ومن أمثلته شكل الصليب في الدلالة على المسيحية، وشكل الهلال في دلالته على الإسلام، وشكل الميزان في دلالته على العدالة. وقد عرّف بيرس الرمز بأنّه «علامة تشير إلى الموضوع الذي تعبّر عنه عبر عرف، غالباً، ما يقترن بالأفكار العامة الّتي تدفع إلى ربط الرمز بموضوعته. فالرمز، إذن، نمط عام أو عرف؛ أي أنّه العلامة العرفية، ولهذا فهو يتصرّف عبر نسخة مطابقة. وهو ليس عاماً في ذاته فحسب، وإنّما الموضوع الذي يشير إليه يتميّز بطبيعة عامّ أيضاً»(31). ويقصد بيرس بالعام، هنا، الحالات الّتي يشير إليها الرمز؛ وهي حالات يحدّدها- حسب قوله- «الوجود الذهني الممكن»(32). وبإمكان هذه الحالات أن تؤثر في الرمز، بشكل غير مباشر، من خلال تلك الترابطات أو من خلال عرف آخر. ومن هنا فإنّ الرمز- حسب بيرس- يأخذ شكل القرينة، غير أنّه قرينة من نوع خاص. ومن الخطأ الاعتقاد بأنّ «التغيّرات الطفيفة الّتي ستقوم بها حالات التحقّق هذه على الرمز، ستكون مؤثّرة على طبيعة الرمز الأساسية»(33).
فالرمز، بمعناه العام، يرتبط بالفعل الإنساني القادر على الولوج إلى أعماق الأشياء واستبصار مكنوناتها. ومن ثمّ فهو ليس إشارة بسيطة، كما هو الشأن بالنسبة للأيقونة والقرينة، بل هو عنصر مهمّ في تحريك البنية الكلّية للغة الشعرية. وفضلاً عن ذلك فالرمز يختلف عن تينك العلامتين في أنّه يقوم على طابع التحكم بين الدالّ والمدلول في حين تكون العلاقة فيهما غير تحكّمية، كما أنّ الرمز لا يشبه موضوعه فكلاهما منفعل وغير قابل للاتصال(34).
ج- العلامة والرمز: لقد مثَّل التداخل بين العلامة والرمز أحد أهمّ الإشكالات الّتي طرحتها النظرية السيميولوجية. ويعتبر سوسير أوّل من طرق هذه القضية، حيث شعر منذ البداية بالقرابة بين العلامة والرمز، غير أنّ إقراره باعتباطية العلامة الّلغوية جعله يحجم عن القبول بمصطلح الرمز الّذي استخدمه في بادئ الأمر، انطلاقاً من أنّ للرمز – حسب قوله- «صفة ليست اعتباطية أبداً، وهذا الرمز ليس بفارغ أيضاً، إذ إنّ هناك بعض ملامح الرابط الطبيعي بين الدال والمدلول، ولا يمكن تبديل الميزان - وهو رمز العدالة - بأيّ شيء آخر كالعربة مثلاً»(37). أمّا بيرس فإنّه- كما ألمحنا- يفضّ هذا الإشكال حينما يجعل من الرمز شكلاً من أشكال العلامة الّتي هي- حسب رأيه- ثلاثية الأبعاد؛ أيقونة وقرينة ورمز.
وقد حاولت جوليا كريستيفا (Julia Kristeva) بدورها فضّ هذا الإشكال الّذي يعاني منه الدارسون عند استخدامهم لمصطلح العلامة أو الرمز، من أجل رفع اللبس والغموض الّذي يحيط بماهية العلامة. ويكمن الفرق بين العلامة والرمز- حسب تصوّرها- في أنّ العلامة ما هي إلاّ المرحلة الميتافيزيقية للرمز، حيث إنّ «مرحلة القرن الثالث والخامس عشر قد عارضت الرمز، وأضعفت من قوّته دون أن تتمكّن من إقصائه تماماً، فكان أن تمّ استيعابه من طرف العلامة الّتي أخذت تفيض على المساحة الرمزية، وبدأ الرمز يتماهى داخل إمبراطورية العلامة، وفي إطارها العام. كما أنّ عمليّة استبدال صفاء الرّمز، بازدواجية ترابط الدليل تطمح إلى تشابه العناصر الّتي تجمع بينهما، بالرغم من إلحاحها على تنافرها الجذري في البداية»(38).
وهكذا بدأت تتشكّل ملامح العلامة الّتي ظلّت محتفظة بخصوصية الرمز، لكن إذا كان الرمز يتمتّع، في بعده العمودي، بوظيفة حصر لمختلف الكونيات والسّمات العامة، فإنّ العلامة تحيل إلى وحدات أقلّ شساعة وملموسية من الرمز، وهذه الوحدات عبارة عن كونيات مشيّأة، وقد أصبحت موضوعات بالمعنى القويّ للكلمة، وباعتبارها متعالقة في بنية الدليل، فإنّ الوحدات المستهدفة (الظاهرة) تصبح للتوّ خاضعة للتعالي، ومرفوعة إلى مستوى الوحدة اللاهوتية. بهذا الشكل تستوعب الممارسة السيميائية للدليل الخطوة المتافيزيقة للرمز وتعكسها على «المدرك المباشر». ونظراً للقيمة الّتي منحت له يتحوّل «المدرك المباشر» إلى موضوعية، ستصبح هي القانون المتحكّم في خطاب حضارة الدليل»(39).
أمّا في الوظيفة الأفقية فإنّ الاختلاف بينهما يكمن في أنّ الرمز حيّز للانفلات من المفارقة، إذ يمكننا القول إنّه مضاد للمفارقة، في حين تكون وحدات الممارسة السيميائية للدليل تتمفصل على شكل تسلسل كنائي للانزياحات؛ وهو تسلسل يدلّ على خلق تدريجيّ للمجازات. وبما أنّ الكلمات المتضادّة تصرّ دائما على إقصاء بعضها البعض، فإنّها ستصبح سجينة طاحونة من الانزياحات المختلفة والممكنة (المفاجآت في البنيات السردية) الّتي توهم ببنية مفتوحة ومستحيلة الإنهاء، وذات نهاية اعتباطية»(40).
4 - حدود السيميولوجيا: لقد طرحت السيميولوجيا منذ ظهورها إشكالية ابستمولوجية، وذلك بسبب غموضها وتداخلها مع باقي المناهج الأخرى. ويعتبر سوسير هو أوّل من ناقش هذه الإشكالية، في معرض تبشيره بهذا العلم، حيث أشار إلى أنّ السيميولوجيا هي الأب الحقيقي لكلّ الدراسات اللغوية، وما اللسانيات إلاّ جزء من هذا العلم العام الّذي من الممكن تطبيق قوانينه الّتي سيكتشفها على اللسانيات الّتي أصبحت ترتبط بمجال محدّد ضمن مجموعة الأحداث البشريّة(44).
وإذا كان دو سوسير قد جعل من اللسانيات جزءاً من علم السيميولوجيا، فإنّ رولان بارت قد خالف أستاذه في هذا الرأي، حين أكّد أنّ السيميولوجيا هي نفسها استمدّت مفاهيمها الإجرائية من اللسانيات الّتي ما لبث ينخرها التفكّك والتقوّض. هذا التقويض للسانيات هو ما دعاه بارت بالسيميولوجيا(45). وقد عبّر بارت صراحة عن رفضه لمقولة سوسير من خلال كتابه «مبادئ في علم الأدلّة» حيث قال: «ليست اللسنيات جزءاً، من علم الأدلّة العام، ولكنّ الجزء هو علم الأدلّة، باعتباره فرعاً من اللسانيات، وبالضبط ذلك القسم الّذي سيتحمّل على عاتقه كبريات الوحدات الخطابية الدالّة، وبهذه الكيفية تبرز وحدة البحوث الجارية اليوم في علوم الإناسة، والاجتماع، والتحليل النفسي، والأسلوبية، حول مفهوم الدلالة»(46). وعلى الرغم من إقرار جاك دريدا بالمجهودات الّتي بذلها رولان بارت في هذا المجال إلاّ أنّه فنّد المعادلة تماماً، حيث رأى أنّ النحوية أو «الغراماتولوجيا» كما يصطلح عليها البعض (الكتابة بوصفها أثراً) «هي سمة الإشارة الكبرى: ولا بدّ أن تكون الأصل الّذي عنه تتفرّع السيميوطيقا واللسانيات»(47). وعلى هذا الأساس يطلب جاك دريدا من السيميولوجيا أن تفسح مكاناً للغراماتولوجيا كي تثبت جدارتها في هذا المجال، لأنّها «علم لم يتحقّق بعد، ولن يستطيع أحد أن يقول ما هو، ولكن له حقّاً في الوجود... والألسنية ستكون العلم العام. وإنّ القوانين الّتي تكتشفها الغرماتولوجيا ستنسحب على الألسنية»(48).
إنّ هذه الصعوبة في تحديد موقع السميولوجيا من بقيّة العلوم الأخرى هي ما ينبئ عن تعقيد هذا العلم وضبابيته. فعلى الرغم من الدراسات الكثيرة الّتي قام بها الباحثون في محاولة منهم للإبانة عن حدود هذه النظرية، إلاّ أنّ ذلك لم يفلح في رسم معالمها واستجلاء حدود ممارستها، حيث ظلّت غامضة شاحبة يساورها الشكّ والرّيب، فالباحث إذا نظر إليها بوصفها علما فإنّه يجدها تأخذ مكان الفلسفة من حيث ربطها بين العلوم المختلفة من لسانيات وغيرها. فإذا «كانت الفلسفة تطمح إلى العثور على مفتاح الوجود، فإن السيميائية لا تطمح إلى أكثر من رسم خارطة الوجود»(49). لكن الباحث إذا حاول أن يستعين بها من حيث هي منهج لغوي نقدي، فسيجدها «تنحسر على نفسها شيئاً فشيئاً، لتكون أخيرا واحدة من مناهج الأدب الّتي تستند عليها اللسانيات»(50).
ولا تكمن صعوبة هذا العلم في تحديد موقعه من بقية المناهج العلوم الأخرى، ولكن في تداخله وتشابكه معها. وتعتبر البنيوية إحدى هذه المناهج النقدية الّتي استلهمت السيميولوجيا بعض آلياتها وإجراءاتها. وفي هذا الشأنّ يكشف عبد الله الغذامي أنّ الدراسة السيميولوجية هي «ندّ نقدي يعضّد البنيوية، ويتضافر معها في سبيل استكشاف النصّ ودراسته على منطلقات الألسنية ومبادئها»(51). وقد ألمح كتاب «دليل الناقد الأدبي» إلى صعوبة «التمييز بين الحقلين تمييزاً مانعاً، بل إنّ المهتمّين بالبنيوية والسيميولوجيا راوحوا بين أولوية الواحدة على الأخرى، حتّى ولو حاولوا إيجاد ما يميّز الواحدة عن الأخرى (...). ومهما يكن من أمر التمييز بين البنيوية والسيميولوجيا، فإنّ هذا التمييز يبقى محلّياً مرحلياً. فالسيميولوجيا تتبع المنهجية البنيوية وإجراءاتها، لكنّها تقصر التركيز على دراسة الأنظمة العلامية الموجودة أصلاً في الثقافة، والّتي عرفت على أنّها أنظمة قارة قائمة في بيئة محدّدة. أمّا البنيوية فتدرس العلامة سواء كانت جزءا من نظام أقرّته الثقافة كنظام أم لم تقره. ولعلّ هذا الفارق (وإن لم يكن أساساً قويّاً للتمييز) هو الوحيد الّذي من شأنه أن يميّز الحقلين. ولئن اعتبرنا التمييز البنيوي بين اللغة النظام (Langue) واللغة الأداء(Parole) أساساً للتفريق بين البنيوية والسيميولوجيا، فإنّنا سنقول إنّ مجال عمل السيميولوجيا هو اللغة النظام دون اللغة الأداء»(52).
الإحــالات: