مأساة المعتمد
مأساة المعتمد
بدأت مأساة المعتمد عندما هاجم ألفونسو السادس ملك قشتالة مدينة إشبيلية، وكاد يستولي عليها، فاستنجد المعتمد بيوسف بن تاشفين أمير المرابطين في المغرب، فاجتاز البحر على رأس جيش جرار، ودحر ألفونسو في معركة "الزلاقة" التي انتصر فيها انتصاراً ساحقاً عام 479ه 1086م، ثم عاد ابن تاشفين بجيشه إلى المغرب، تاركاً المعتمد في إشبيلية يوالي حياة الترف والبذخ واللهو والمجون.
لكن ابن تاشفين عاد بعد سنتين إلى الأندلس واستولى عليها كلها، وأنهى دولة بني عباد لإزالة دول الطوائف بعد أن استشرى فسادها وتهاونها، وأخذ المعتمد أسيراً مع أسرته وأرسله مكبلاً بالقيود إلى طنجة، ثم إلى مراكش، فسجن "أغمات" عند سفوح جبال الأطلس، حيث راح هناك يسترجع صور قصوره الإشبيلية، وما كان يزينها من شجر الزيتون، مترجماً بشعره كل لحظة من حياته السالفة، ونادباً حظه حتى وافاه أجله عام 488ه، في دور اتخذت له من الطين تحت أغصان النخيل، بعد أن حكم عشرين عاماً.
ولم يكتف ابن تاشفين بأسره وإذلاله، بل قتل جميع أبنائه الذكور، وأذل زوجته وبناته، فصرن يغزلن للناس من أجل لقمة العيش. يقول وقد جاءه العيد وهو في ذل الأسر :
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا
وكان عيدك باللذات معمورا
وكنت تحسب أن العيد مسعدةٌ
فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعةً
في لبسهنّ رأيت الفقر مسطورا
معاشهنّ بعيد العزّ ممتهنٌ
يغزلن للناس لا يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعةً
عيونهنّ فعاد القلب موتورا
قد أُغمضت بعد أن كانت مفتّرةً
أبصارهنّ حسيراتٍ مكاسيرا
يطأن في الطين والأقدام حافيةً
تشكو فراق حذاءٍ كان موفورا
قد لوّثت بيد الأقذاء واتسخت
كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا
لا خدّ إلا ويشكو الجدب ظاهره
وقبل كان بماء الورد مغمورا
لكنه بسيول الحزن مُخترقٌ
وليس إلا مع الأنفاس ممطورا
أفطرت في العيد لا عادت إساءتُه
ولست يا عيدُ مني اليوم معذورا
وكنت تحسب أن الفطر مُبتَهَجٌ
فعاد فطرك للأكباد تفطيرا
قد كان دهرك إن تأمره ممتثلاً
لما أمرت وكان الفعلُ مبرورا
وكم حكمت على الأقوامِ في صلفٍ
فردّك الدهر منهياً ومأمورا
من بات بعدك في ملكٍ يسرّ به
أو بات يهنأ باللذات مسرورا
ولم تعظه عوادي الدهر إذ وقعت
فإنما بات في الأحلام مغرورا
كما صار يشتهي الموت في أواخر أيامه، ويفضله على حياة الذل والأسر والقهر، فكيف يرغب في العيش من يرى بناته عاريات حافيات الأقدام، بعد أن كن يرفلن بالحرير والدمقس؟
دعا لي بالبقاء وكيف يهوى ... أسير أن يطول به البقاء؟
أليس الموت أروح من حياة ... يطول على الأسير بها الشقاء؟
أأرغب أن أعيش أرى بناتي... عواريَ، قد أضر بها الحفاء؟
تعد القصائد التي قالها المعتمد بن عباد في منفاه، وهو في "أغمات"، وصوّر فيها مرارات السجن وآلام النفي والتي يذكرنا فيها بروميات أبي فراس الحمداني، من روائع الشعر العالمي، فلنسمعه يخاطب قيده :
قيدي، أما تعلمني مسلماً ... أبيتَ أن تشفق أو ترحما؟
دمي شراب لك واللحم قِد... أكلته، لا تهشم الأعظما
يبصرني فيك أبو هاشم ... فينثني القلب وقد هشما
ارحم طفيلاً طائشاً لبه ... لم يخش أن يأتيك مسترحما
وارحم أخيات له مثله ... جرعتهن السمّ والعلقما
منهن من يفهم شيئاً فقد ... خفنا عليه للبكاء العمى
والغير لا يفهم شيئاً فما ... يفتح إلا للرضاع فما
وقوله يخاطب سرب قطا رآه، كما خاطب أبو فراس قبله الحمامة التي وقفت في أعلى نافذة بالسجن، وهي لا تشعر بحاله :
بكيت إلى سرب القطا إذ مررن بي... سوارح لا سجن يعوق ولا كبل
ولم يك – والله المعيذ – حسادة ... ولكن حنيناً، إن شكلي لها شكل
فأسرح لا شملي صريع ولا الحشا ... وجيع ولا عيناي يبكيهما ثكل
هنيئاً لها أن لم يفرق جميعها ... ولا ذاق منها البعد عن أهلها أهل
وأن لم تبت مثلي تطير قلوبها ... إذا اهتز باب السجن أو صلصل القفل
بنفسي إلى لقيا الحمِام تشوفٌ ... سواي يحب العيش في ساقه حِجلُ
لئن عصم الله القطا في فراخها ... فإن فراخي خانها المال والظل
وقوله وقد رأى قمرية أمامها وكر فيه طائران يرددان نغماً:
بكت أن رأت ألفين ضمهما وكر ... مساء، وقد أخنى على ألفها الدهر
وناحت وباحت فاستراحت بسرها ... وما نطقت حرفاً يبوح به سر
فما ليَ لا أبكي؟ أم القلب صخرة ... وكم صخرة في الأرض يجري بها نهر؟
بكت واحداً لم يشجها غير فقده ... وأبكي لآلاف عديدهم كثر
بُنَيٌّ صغير أو خليل موافق... يمزق ذا قفر ويغرق ذا بحر
ونجمان ريب للزمان احتواهما ... بقرطبة النكراء أو رندة القبر
غدرت إذن إن ضن جفني بقطرة ... وإن لومت نفسي فصاحبها الصبر
فقل للنجوم الزهر تبكيهما معي ... لمثلهما فلتحزن الأنجم الزهر
ومن كلامه الجزل قوله يوم كُبِّل فراح يخاطب الكبل قائلاً:
إليك، فلو كانت قيودك أشعرت ... تصرّم منها كل كف ومعصم
مهابة من كان الرجال بسيبه ... ومن سيفه في جنة أو جهنم
ويندب على نفسه، ويبكي حظه السيِئ، ويقارن بين ماضيه المتألق، وحاضره الموحش، وكيف كان رمحه كالثعبان في الحرب، فصار القيد يلتف على يديه ورجليه كالثعبان، ويتوب إلى الله، لعله يفرّج كربته، ويجلو عنه سحب الهموم:
غنتك أغماتية الألحان... ثقلت على الأرواح والأبدان
قد كان كالثعبان رمحك في الوغى... فغدا عليك القيد كالثعبان
قلبي إلى الرحمن يشكو بثه ... ما خاب من يشكو إلى الرحمن
يا سائلاً عن شأنه ومكانه ... ما كان أغنى شأنه عن شاني
شتان بين ماضيه الحافل بالمسرات والملذات، وحاضره الأسود القاتم، بين العز في ظلال الأعلام، وهي ترفرف في ساحات القتال، وبين الذل في القيود التي يجررها وقد ثقلت عليه:
تبدلت من عز ظل البنود ... بذل الحديد وثقل القيود
وكان حديدي سنانا ذليقاً ... وعضبا رقيقاً صقيل الحديد
لقد صار ذاك وذا أدهما ... يعض بساقي عض الأسود
ويأسى على حالة السجن والأسر التي آل إليها في أغمات، بعد الأبَّهة والسلطان، ويبكي الملك الزائل، والمجد الآفل اللذين كانا له في إشبيلية بلد الزيتون، حيث تغني القيان، وتغرد الأطيار فيقول:
غريب بأرض المغربين أسير ... سيبكي عليه منبر وسرير
وتندبه البيض الصوارم والقنا ... وينهلَ دمع بينهن غزير
إذا قيل في أغمات قد مات جوده ... فما يرتجى للجود بعد نشور
مضى زمن والملك مستأنس به ... وأصبح عنه اليوم وهو نفور
فيا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... أمامي وخلفي روضة وغدير
بمنبتة الزيتون مورثة العلى ... تغني قيان أو ترن طيور
بزاهرها السامي الذي جاده الحيا ... تشير الثريا نحونا ونشير
قضى الله في حمص الحِمام وبعثرت ... هنالك عنا للنشور قبور
واختم بهذه القصيده الذائعه الخالده لهذا الملك الذي خلد الدهر ذكراه و التي تعد من امهات عيون المراثي والتي كتبت علي قبره
قَبرَ الغَريب سَقاكَ الرائِحُ الغادي
حَقّاً ظَفَرتَ بِأَشلاء ابن عَبّادِ
بِالحِلمِ بالعِلمِ بِالنُعمى إِذِ اِتّصلَت
بِالخَصبِ إِن أَجدَبوا بالري لِلصادي
بالطاعِن الضارِب الرامي إِذا اِقتَتَلوا
بِالمَوتِ أَحمَرَ بالضرغمِ العادي
بالدَهر في نِقَم بِالبَحر في نِعَمٍ
بِالبَدرِ في ظُلمٍ بِالصَدرِ في النادي
نَعَم هُوَ الحَقُّ وَافاني بِهِ قَدَرٌ
مِنَ السَماءِ فَوافاني لِميعادِ
وَلَم أَكُن قَبلَ ذاكَ النَعشِ أَعلَمُهُ
أَنَّ الجِبال تَهادى فَوقَ أَعوادِ
كَفاكَ فارفُق بِما اِستودِعتَ مِن كَرَمٍ
رَوّاكَ كُلُّ قَطوب البَرق رَعّادِ
يَبكي أَخاهُ الَّذي غَيَّبتَ وابِلَهُ
تَحتَ الصَفيحِ بِدَمعٍ رائِح غادي
حَتّى يَجودَكَ دَمعُ الطَلّ مُنهَمِراً
مِن أَعيُن الزَهرِ لم تَبخَل بِإِسعادِ
وَلا تَزالُ صَلاةُ اللَهِ دائِمَةً
عَلى دَفينكَ لا تُحصى بِتعدادِ