محاضرات النقد الأ
النقـــد
الأدبي الحديــث
قضايـاه ومذاهبـه
محاضرات د/
عبير عبد الصادق محمد بدوي
أستاذ الأدب
والنقد المشارك
بجامعة
المجمعة
المذاهب النقدية الحديثة فى أوروبا
ـ عصر النهضة :
فى النصف الثانى من القرن الخامس عشر تعرضت أوربا لأحداث هامة، كانت سبباً فى تغييرات فكرية طرأت على جميع مجالات الحياة فيها ، فسقوط القسطنطينية عام 1453 م ، واكتشاف الطباعة ، والوصول إلى أمريكا ، والحرب الإيطالية ، كل ذلك حمل معه إلى أوروبا أفكار جديدة ، قضت على النظام الفكرى الذى كان سائداً فى القرون الوسطى ، وهذا التحول الجديد هو ما يسمى بعصر النهضة ، وكانت إيطاليا من أسبق الدول الأوربية فى صياغة هذا الفكر الجديد ، ثم أخذ ينتشر فى الدول الأوربية بما يتوافق مع فكر كل دولة وتجدر الإشارة إلى أن هذه المذاهب تعد مذاهب أدبية بحسبانها تيارات التقت حول كل منها جماعة من أعلام الأدب ومبدعيه فى حقبة زمنية معينة تركت تأثيرها على الساحة الأدبية ، كما تعد فى الوقت نفسه مذاهب نقدية على أساس أن النقاد جددوا معالم كل مذهب منها وقواعده وشروحها وكشفوا عما تنطوى عليه من غايات وأهداف رأوها وقتها قيما فنية ينبغى التنبيه عليها والصدور عنها ولا يستطاع دراسة كل هذا الحشد من المذاهب التى جدت فى الأدب الغربى فى هذه الدراسة الموجزه ، وإنما المستطاع تقديم دراسة لأهمها بحيث تعطى النموذج لمن أراد التوسع .
ـ الكلاسيكية :
عرفت الكلاسيكية طريقها إلى الأدب الفرنسى فى الفترة التى حددها الأستاذ " لانسون " من عام 1594 حتى 1615 م ، ثم وضعت لها الأسس والقواعد حوالى عام 1630 م بظهور طائفة من زعماء هذه المدرسة مثل شابلان واسكودرى ، والناقد المشهور بوالو ( 1636 ـ 1711 ) والأخير هو الذى جمع دستور هذه المدرسة وحدد معالمها فى كتابه " فن الشعر " .
وقد سبق هاتين الفترتين محاولات جادة لاحياء اللغة وصقل ألفاظها وتطويرها ، لتساير مراحل الانتقال المنتظر ، وصحب هذه المحاولات جهود أخرى موضوعية متصلة بالأهداف والغايات ، والظاهرتان كما هو واضح تناولتا الشكل والموضوع على السواء .
ولا يفوتنا أن نذكر أن تجاهل مراحل الاعداد للمذهب يشوه الصورة التى ينبغى أن تكون عليها الطريقة الكلاسيكية حتى تصبح مذهبا يلتزمه شعراء فرنسا وكتابها ، وحتى نتحاشى ذلك النقص نلقى الضوء من خلال هذه السطور على الجهود التى سبقت هذه الحركة ، حتى استوت كمذهب أدبى صيغ فى قواعد محكمة .
فقد عرف الشعر الفرنسى على يد " يبيير رونار" نوعا من الشعر
الشعبى يتألف من مقاطع تدور كلها حول خاطرة واحدة بحيث لا تتعداها ، وهذا النوع
يسمى السونيت ، وأول من نظم به الشاعر الايطالى "بيترارك"
( 1304 ـ 1374 ) والإيطاليون يعتبرونه أرق شعر شعبى ، وقد سرى هذا النوع إلى
البلاد المجاورة فكثر به النظم وتحمس لـه كثير من شعراء القرن الخامس عشر والسادس
عشر .
وفى غضون القرن السادس عشر تألفت جماعة الثريا من شعراء فرنسا بزعامة الشاعر
"رونار" فعمدت هذه الجماعة إلى احياء اللغة ، ودأبت على تجديد أساليبها
وعباراتها واتجهت إلى محاكاة النماذج الأدبية التى أغرموا بها لدى الاغريق
والرومان ، وقد أصدر الشاعر " دى بللى " وهو عضو
من أعضائها .
كتابه " دفاع عن اللغة الفرنسية " عام 1549 م ، وندد فيه بأولئك الذين يكتبون إلى الشعب الفرنسى باللاتينية ويتجاهلون لغته التى تحدد قسماتها ، ونادى بأن تكون لغة الشعب هى لغة الأدب .
وما بين 1546 ـ 1550 تأثرت طائفة من شعراء الشباب بما يسر لهم عصر النهضة من معارف وثقافة ، ثم لم يلبث هذا التأثير أن تحول بينهم إلى حماسة شديدة تجاه فهم الجمال فى الشعر والنثر ، وكونوا بزعامة " رونار " جماعة الثريا وهى جماعة أدبية ، هدفها اطلاق الأدباء من قيود العصور الوسطى والكنيسة .
وكان الشاعران " رونار ، ودى بللى " من ألمع أعضاء هذه الجماعة ،
فرونار وضع قواعد مطولة لجماعة الثريا ، ضمنها ما كتبه عن
" الفن الشعرى " عام 1563 / وما أثبته فى مقدمته المشهورة عام 1572 ،
و"دى بللى" جمع آراءه فى كتابه " دفاع عن بلاغة اللغة الفرنسية
" ولكنه لم يتوسع فى وضع القواعد لجماعة الثريا مثلما توسع زميله
"رونار". ([1])
وفى النصف الأول من القرن السابع عشر ظهر فيلسوفان عظيمان رسما للأدب بفلسفتها اتجاهاته الفكرية التى تليق به كفن له فى الحياة رسالته السامية ، وآراء الفيلسوفين تعتبر التوجيه الحقيقى للأدب الفرنسى ، وللنماذج الخالدة من أدب اليونان والرومان .
"فديكارت" هو أول من أصدر كتاب فلسفى عرفته فرنسا وهو "
خطاب فى المنهج " وفيه تمكين لسلطان العقل الذى هو الموصل الوحيد إلى الخير
والمعرفة ، فديكارت يرى أن العقل والإرادة يتحكمان فى أهواء النفس ، فالعقل يرشدنا
إلى قيم ميولنا ، والإرادة تحقق الميل النافع وتكبح النزعة الضارة ، ولهذا تأثر
النتاج الأدبى بهذه الفكرة ، فأصبح يتميز
بأمرين جوهرين .
أولهمـــا : التحليل الدقيق للعواطف والميول الانسانية .
ثانيهما : تحكيم العقل باتباع ما يقضى به إزاء الميول والنزعات .
وهذان الأساسان من أهم قواعد المذهب الكلاسيكى ، والفضل فيهما راجع إلى ما تضمنه كتابا ديكارت .
وكتابه الثانى " مقالة فى الأهواء " يعلى من شأن العقل ويشرع للمذهب الكلاسيكى ، ويقنن للأدب .
ـ باسكال ( 1632 ـ 1662 ) :
له كتابان يضمان آراءه ويفصحان عن مكانته العالية فى البيان والقدرة على الابتكار ، ففى رسائله التى سماها " الريفيات " اعتمد على العقل ، فهو عنده نقطة البداية ، كما أنه هو نفسه نقطة النهاية ، كما حرص فى كتابته على القواعد الفنية التى تميز العمل الجميل عن غيره . وفى كتابه " الأفكار " جمع خطرات فكرية كانت تدور حول الإيمان بالدين والعقل وحين يتحدث فى كتابه عن " الخيال " يظهر فيه الاتجاه الكلاسيكى على أوضح وجه .
وقد توج " بوالو " ( 1636 – 1711 م ) المجهودات الأدبية التى
بذلها من قبله بما وضع من قواعد المذهب الكلاسيكى فى كتابه المشهور
" فن الشعر " وهو عبارة عن قصيدة أمضى فى اعدادها ما يقرب من خمس سنوات
، وعدد أبياتها " عشرومائة ألف بيت " وقد ضمنها آراءه فى نقد الشعر
ورسالته وعرض لقضايا هامة تتصل بغرض الشعر ولغته . ([2])
ـ أهم قواعد المذهب الكلاسيكى :
يشير اشتقاق كلمة " كلاسيزم " إلى الأهداف الجليلية التى نصبها المفكرون والداعون إلى المذهب نصب أعينهم ، فهى مشتقة من الأصل اللاتينى " كلاسيس classis " التى تطلق على مجموعة من السفن الحربية أو التجارية ، كما تطلق كذلك على مجموعة من الطلاب يتلقون العلم فى مكان واحد بقصد التعلم classe ومن هذا الأصل اللاتينى أخذ الفرنسيون فى القرن السابع عشر كلمة " كلاسيزم " بمعنى الأدب الذى يصلح أن يكون أساساً لتثقيف النشء وتهذيبه فقالوا مثلا " غناء كلاسيك " على معنى أن الغناء بلغ الجودة بحيث يصلح أداة لتهذيب النشء فى دور التكوين .
ومن أهم قواعد هذا المذهب :
1) محاكاة الأقدمين ، الذين اهتدوا بذوقهم الفنى إلى جلال الأدب القديم ، ذلك الجلال الذى ضمن له البقاء والخلود .
2) ايثار الصنعة فى الفنون واعتماد العبقرية على العناية الفنية فالفن العظيم نتاج صنعة عظيمة تمدها عبقرية والهام فالكلاسيكيون يصورون الحاضر ويمجدون الأدب القديم " الأغريقى واللاتينى " فهو مثلهم الأعلى ويستوحون منه معانيه ولهذا يقول ناقدهم الأكبر " لابرويير " :
" كل شئ قد قيل ، وقد أتينا بعد
فوات الأوان ... أما العادات فقد انتزع خيرها وأجملها . ولم يبقى لنا الا أن نلتقط
سقط الحصاد على أثر ما
جمعه الأقدمون "
3- الاعتراف بسيطرة العقل على النتاج الأدبى . ومن ثم نجد الخيال فى أساليب الشعراء أقل حدة وأخفض صوتا بسبب الاعتماد على المنطق وسيطرة صوت العقل . والأديب الفذ هو الذى يلتزم جانب العقل ولا يضرب فى آفاق الخيال .
4- التزم الحيدة فى محاكاة الطبيعة وانطاق أبطال المسرحيات بما يجرى فى خواطرهم ويجول فى عقولهم .
5- والكلاسيكية فى ترسمها القديم
ومحاكاتها لنماذجه اتجهت إلى الأدب الجماعى الذى كان سائداً عند الاغريق والرومان
، ولم تشغل شعراء فرنسا شواغلهم الذاتية فلم يحتفلوا بها فى الأدب ، فإذا أتيح
للشاعر أن يتحدث عن أحاسيسه الخاصة فليكن ذلك بقدر ضئيل ، وفى
نطاق ضيق .
والكلاسيكيون يتشددون فى تطبيق قانون " الوحدات الثلاث " وقد نظمها شاعرهم بوالو فى بيتين :
" يجب أن يمثل فى المسرح من أول التمثيل حتى نهايته عمل واحد ، بحيث يجرى فى يوم واحد ، وفى مكان واحد "
6- الاتجاه إلى تجويد الاسلوب وفخامته ،
والتشدد فى انتقاء اللفظ ، والحرص الشديد على تقديم صور فنية تكون جارية على قواعد
اللغة وقوانينها .
7- أشادوا بالغاية الخلقية للأدب تبعا للفلاسفة الاغريق فالهدف عندهم هو التهذيب والتربية المستقيمة ، ولم يسمحوا بأن ينحرف أديب إلى تصوير الرذائل إلا إذا كان من هدفه التنفير عنها . ([3])
وبقى أن نقول إن المذهب الكلاسيكى سيطر على أوربا سيطرة كاملة أكثر من
قرنين ، ولكن فرنسا كانت تمده بالقوة والنماء بفضل أدبائها
ونقادها ومفكريها .
وحتى تكتمل صورة الكلاسيكية فى الأذهان نشير إلى الشريحة الاجتماعية التى كان أدب الكلاسيكيين يوجه لامتاعها فقد كانت الطبقة الارستقراطية ، تأثرا باليونان والرومان والنزعة الكلاسيكية تبدو واضحة فى الأدب المسرحى ونقده ، فهى عند ( كورنى ) الأب الحقيقى للتراجيديا الفرنسية تتجه إلى تصوير النفس البشرية على مثال فهمه للمثل العليا التى وجدها عند الاغريق والرومان .