محاضرة النقد1
المحاضرة الأولي
تمهــيـد:
معني كلمة نقد :
لكلمة النقد معان شتي في معاجم اللغة وشواهدها فهي
تعني في مفهومها اللغوي: التمييز بين الشيئين. يقال: نقدت الدراهم وانتقدتها أي: ميزت جيدها من رديئها،وصحيحها من زائفها ومن ذلك ما أنشده سيبويه يصف ناقته بسرعة السير :
تنفي يداها الحصى في كل هاجرة .... نفي الدنانير تنقاد الصياريف
وهو ما جاء في تعريف الزمخشري في أساس البلاغة كالنقد والانتقاد والتنقاد.
نقد: نقده الثمن، ونقده له فانتقده، ونقد النقاد الدراهم: ميز جيدها، من رديئها.
ومنها نقد الجوز بالأصبع لاختباره وتعرف حاله، ومنها ضرب الطائر بمنقاده أو منقاره؛ في الفخ ليكشف عمَّا وراءه من أمن أو خوف
قال الزمخشري: و الطائر ينقد الفخ: يقره.ونقد الصبي الجوزة بأصبعه، ونقدت رأسه بأصبعي
وفي مختار الصحاح لمحمد بن أبي بكر الرازي.
نقد: نقده الدراهم و(نقد) له الدراهم أي أعطاه إياها (فانتقدها) أي قبضها. و(نقد) الدراهم و(انتقدها)، أخرج منها الزيف.
وفي اللسان لابن منظور :
" ونقد الرجل الشيء بنظره ينقده نقدا، ونقد إليه:اختلس النظر نحوه، وما زال فلان ينقد بصره إلى الشيء إذا لم يزل ينظر إليه...و في حديث أبي الدر داء أنه قال:"إن نقدت الناس نقدوك، وإن تركتهم تركوك" معنى نقدتهم أي عبتهم و اغتبتهم قابلوك بمثله... ونقدته الحية لدغته.].
وجاء في القاموس المحيط في مادة " نقد"
يقول الفيروز آبادي: النقد: هو التمييز بين الأشياء نقول: نقدت الدراهم أي ميزت الجيد منها من الزائف والنقد هو المناقشة، نقول: ناقده في المسألة أي ناقشه. ويطلق النقد على الوازن من الأشياء أي: الراجح منها، ويطلق كذلك على لدغ الأفعى وعلى النظر إلى الأشياء خلسة .
وبالإمعان في هذه المعاني اللغوية تتضح لنا المعاني الآتية:
1) النقد هو التمييز بين الأشياء ، ومنه تمييز الدراهم بأن يعرف جيدها من زائفها
2) النقد هو اختيار الشئ وفحصه للإحاطة به، ومنه النقر بالإصبع في الجوز لمعرفة مدي جودتها
3) والنقد اختلاس النظر إلي الأشياء لتبينها ومعرفة كنهها
4) والنقد معناه إظهار العيب والإيذاء ، ومنه لدغ الحية
فالمعاني اللغوية لكلمة النقد تدور حول : النظر والفحص والتمييز ، وما يمكن أن يتصل به من العيب الذي هو نتيجة النظر والفحص ، ومن الانتقاء والاختيار والحكم وهي متصلة بعد ذلك بالاستعمال المجازي للنقد في الأمور
وهذه المعاني كلها ليست بعيدة عـن المفهوم الاصطلاحي للنقد الأدبي ؛ إذ هو يعني في جانب من دلالته كشف العيوب والتنبيه عليها، كما يعني بيان الجيد والرديء، ومهمة تكوين الرأي هذه تتطلب من الناقد النظر الهادئ والتأمل الدقيق للأثر الذي ينقده. وهذا المفهوم الاصطلاحي للنقد الأدبي لم يكن معروفا عند العرب في عصورهم الأولى، فلم يشتهر المصطلح عندهم إلا في العصر العباسي بعد أن دُوِّنت العلوم وجمع التراث الشعري، فقد ورد في كلام للمفضل الضبي يعـلق فيه على تـَزَيُّـد حماد الراوية وإفساده للشعر يقــــول: " قد سلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبدا. فقيل له وكيف ذلك أيخطئ في روايته أم يلحن ؟ قال: ليته كان كذلك فإن أهل العلـــم يردون من أخطأ إلى الصواب، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه مذهب رجل ويدخله في شهره، ويحمل ذلك عنه في الآفاق، فتختلط أشعار القدماء، ولا يميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد وأين ذاك " !!.
انتقال الكلمة إلى مجال النقد الأدبي:
أولا:من أوائل النصوص النقدية التي تتضمن كلمة ( نقد، ناقد)نص لابن سلام الجمحي في كتابه طبقات فحول الشعراء يقول فيه:"...وللشعر صناعة، وثقافة يعرفه أهل العلم بها كسائر أصناف العلم و الصناعات منها ما تثقفه العين، ومنها ما تثقفه الأذن ومنها ما تثقفه اليد، و منها ما يثقفه اللسان، ومن ذلك اللؤلؤ والياقوت لا يعرف بصفة ولا وزن دون المعاينة بالبصر: ومن ذلك الجهبذة بالدينار والدرهم لا تعرف جودتهما بلون ولا بلمس و لا طراز و لا رسم ولا صفة، ويعرفه الناقد عند المعاينة فيعرف بهرجها وزائفها...وكذلك بصر، فتوصف الجارية فيقال:ناصعة اللون جيدة الشطب، معتدلة القامة، نقية الثغر، حسنة العين والأنف، جيدة النهود، ظريفة اللسان، واردة الشعر، فتكون في هذه الصفة بمائة دينار، ومائتي دينار، وتكون أخرى بألف دينار أو أكثر ولا يجد واصفها مزيدا على هذه الصفة... فكذلك الشعر يعرفه أهل العلم به".
نلاحظ
أن ابن سلام في هذا النص يستعمل كلمة الناقد، بمعناها اللغوي الذي يدل على تمييز
الجيد من الرديء من الدراهم و الدنانير.
ولم
تكتسب الكلمة معناها الاصطلاحي و الفني إلا في أواخر القرن الثالث وبداية القرن الرابع خصوصا عند قدامه
بن جعفر الذي يعتبر كتابه ( نقد الشعر ) أول مصدر يحمل كلمة نقد.
ثانيا: يقول قدامة في نقد الشعر:
" العلم بالشعر ينقسم أقساما، قسم ينسب إلى علم عروضه ووزنه وقسم ينسب إلى قوافيه ومقاطعه، وقسم ينسب إلى علم غريبه ولغته، وقسم ينسب إلى علم معانيه والمقصد منه، وقسم ينسب إلى علم جيده ورديئه، وقد عني الناس بوضع الكتب في القسم الأول وما يليه إلى الرابع عناية تامة... ولم أجد أحدا وضع في نقد الشعر وتخليص جيده من رديئه كتابا، وكان الكلام عندي في هذا القسم أولى بالشعر من سائر الأقسام المعهودة".
ويستخلص من النص أن قدامة قد حدد المفهوم الاصطلاحي لكلمة نقد، الذي هو"تمييز جيد الشعر من رديئه" و الذي سيبقى هو المفهوم الشائع عند النقاد القدامى.
غير أن الاستعمال الاصطلاحي لا يبعد بالكلمة عن معناها اللغوي الأصلي،يقول بدوي طبانة في كتابه" دراسات في نقد الأدب العربي:"إن مفهوم كلمة"النقد" في الأدب لا يبعد عن مفاهيمها اللغوية التي عرفها أصحاب اللغة الأصليون، بل إن أكثر المعاني الحقيقية يمكن أن تلحظ في هذا الاستعمال المجازي في نقد الشعر".
وجملة القول :
أن النقد بمفهومه الاصطلاحي :
هو دراسة الأعمال الأدبية وتفسيرها وتحليلها وموازنتها بغيرها ثم الحكم عليها لبيان قيمتها ودرجتها ومنها:
1- التاريخي الذي يشرح الصلة بين الأدب والتاريخ
2- الشخصي الذي يتخذ من حياة الأديب وسيرته وسيلة لفهم آثاره وفنونه
3- الفني وهو الذي يتناول النصوص الأدبية بالتحليل.
ثم أصبح المصطلح معروفا في أواخر القرن الثالث الهجري وأوائل القرن الرابع حتى جعله قدامة بن جعفر عنوانا لكتابه: " نقد الشعر " كما سنرى، ثم غــدا المصطلح متداولا بين المشتغلين بالتأليف في علوم الأدب وبلاغة الكلام.
وقد أخذ مفهوم النقد الأدبي يتحدد ويتأكد في القرن الرابع الهجري في كتابات كثير من العلماء كأبي بكر الصولي (ت335) في كتابه " أخبار أبي تمام " ، وقدامه بن جعفر في كتابه " نقد الشعر " ، والآمدي (ت371) في كتابه الموازنة بين أبي تمام والبحتري ،والقاضي الجرجاني(ت392)في كتابه " الوساطة بين المتنبي وخصومه " فإذا ما وصلنا إلي القرن الخامس الهجري " ازداد مفهوم النقد وضوحا واستحوذ علي اهتمامات كثير من النقاد والأدباء العرب الأوائل أهل الذوق والفن من أمثال عبد القاهر الجرجاني (ت471)،وابن رشيق القيرواني (ت463) الذي ألف كتابه " العمدة في صناعة الشعر ونقده" وعقد بابا من أبوابه سماه " باب في التصريف ونقد الشعر
الذاتية والموضوعية:
في الأعمال الأدبية جانب ذاتي يعتمد على الذوق الشخصي الذي بسببه يتأثر المتذوق بالنتاج الأدبي، ويجد لديه ميلا له وتعاطفا معه. وهذا الجانب الذاتي أساس في عمل الناقد، فلابد لمن يعرض لنقد الأدب أن تكون لديه حاسة التذوق للأعمال الأدبية وتعاطف على نحو ما مع ما تبدعه قرائح الأدباء، ثم يحتاج الناقد بعد ذلك القدر الموهوب إلى ثقافة وتمرس ؛ ليستعين بهذه المهارات المكتسبة على تقويم النتاج الذي ينقده ووضعه في مرتبته التي يستحقها قياسا على نظائره وأشباهه مما تحصل لديه من إبداعات السابقين في الفن الذي يعرض لنقده وتقويمه.
ومع ذلك(( فإن الذوق وحده لا يكفي في إصدار الحكم دون أن يصحبه تعليل أو تفسير أو إشارة معبرة أو لمحة دالة علي ما ذهب إليه الناقد من استحسان أو استهجان ، وقد يكفي التذوق الفني صاحبه لكنه لا يكفيه وحده في إصدار أحكامه علي العمل الأدبي بل قد يكون سببا في انحرافه ع جادة الصواب ، لان الإنسان كثيرا ما يخضع في أحكامه لما تمليه عليه أهواؤه ، وقد يخضع لنزعاته أو نزواته حبا أو كرها ، رضا أو سخطا ، ومن هنا تتضارب أحكامه ويبدو فيها التناقض ، ولا تصلح أن تكون أساسا تقام عليه أحكاما نقدية
فالاعتماد علي التذوق وحده يسلمنا إلي أحكام متباينة ، لان الناس يختلفون في الحكم علي الشئ الواحد اختلافا كثيرا ، فنحن نري أن البعض يكره اللون الأحمر لأنه يذكره بدما القتلى وما يتخلف عن المعارك ، والبعض الآخر يحب هذا اللون لأنه يذكره بدما القتلى وما يتخلف عن المعارك ، والبعض الآخر يحب هذا اللون لأنه يري فيه لون الورود الزاهية ، كذلك نري العربي يبدي ضجره من الليل ويظهر سأمه منه ، ويشبهه بموج البحر أرخي سدوله بأنواع الهموم ، ويقرنه غيرهم بالهم المقيم فيتطاول حتى يقول ليس بمنقض ، بينما نجد في الناس من يرجو طول الليل ويخاف من انبلاج الصباح لأنه كما يري " أخفي للويل "
واللون الأحمر لا يزال هو اللون الأحمر منذ كانت هناك ألوان والليل لا يزال هو الليل منذ كان هناك ليل أو نهار ، وما تغير اللون ، وما تغير الليل ، ولكن تغير النظر إليهما والحكم عليهما ، لا لشئ في طبيعة كل منهما ن ولكن في طبيعة الناظرين إليهما ( 2)
وليس معني ذلك التهوين من شأ الذوق أو التقليل من قيمته أو استبعاده في النظر إلي العمل الأدبي أو غيره من الفنون ، بل هو المرجع الأصلي والأساس الأول في الحكم علي الآداب والفنون لأنه اقرب الموازين إلي طبيعتها ، وإنما الذي نرفضه الأحكام المتضاربة التي تبني علي الذوق الخاص والتي تخلو من الرؤية وإمعان النظر وتخضع للأهواء والأغراض أو التي تصدر عن ذوي الأذواق السقيمة دون أن يصحبها تعليل أو تحليل أو إشارة إلي سر الاستحسان أو الاستهجان سواء كان ذلك في العمل الأدبي أو في أي عمل كن الأعمال
أما الموضوعية فتعني أن ينحي الناقد ميوله الخاصة وأهواءه وعلاقاته الشخصية من ميدان عمله، أو بعبارة أخرى أن ينظر الناقد في العمل الذي هو بصدد إصدار حكم عليه بحسبانه موضوعا خارج ذاته ليكون حكمه عليه خاليا من شوائب التعصب للشيء الذي يقومه أو مجاملة قائله لصلة ما تربطه به، أو التسخط عليه والانتقاص منه لعداوة أو منافسة أو تحزب يمكن أن يكون مطية للتحامل في القدح أو صداقة تكون باعثا على الإطراء والتغاضي عن العيوب.
والموضوعية أمر جوهري للنقد الذي يفرض على القراء احترامه، ويثري الحياة الأدبية، ويوجه مسيرة الأدب نحو النافع من التجارب والمؤثر من الإبداعات. وعندما تفتقد الموضوعية تختلط الأمور وتضطرب الحقائق وتسود الأهواء ولا يستطيع المتذوقون للأدب الاتفاق على معايير ثابتة أو أصول يحتكمون إليها.
وتتطلب الموضوعية التعليل المقنع للحكم أو الرأي الذي ينتهي إليه الناقد ؛ لأن إطلاق الحكم بالجودة أو الرداءة أو الاستحسان أو الاستهجان دون تعليل لا يقنع القارئ لذلك النقد ولا يفيده شيئا، ومن ثم يفتقد التواصل بين الناقد وقرائه، ومن الضروري أن يراعي الناقد أنه لا يكتب لنفسه بل إنه يكتب للجمهور الذي ينتظر منه أن يفسر له قيم الفـــــن وجمالياته ويدله عليها ويشرحها له، وبذلك تحدث الاستفادة
ويرتقي ذوق القراء ويتفهمون دلالات النتاج الأدبي ومراميه.
ومن هنا يتجلي لنا الأمر :
فالناقد الذي يجيل نظره في العمل الأدبي ثم يصدر حكمه عليه معتمدا علي ذوقه الخاص مغفلا التعليل لما تذوقه يسمي هذا بالنقد الذاتي أو التأثري
وقد أشار ابن الأثير في كتابه " المثل السائر " إلي معرفة العرب لهذا اللون من النقد وأنهم أطلقوا عليه " النقد الإقناعي "
أما النقد الذي يقوم علي التذوق الفني وإحساس بالجمال أو القبح في العمل الأدبي مصحوب بلون من ألوان التفسير أو التحليل أو التعليل أو غير ذلك من أنواع البيان الكاشفة فإن هذا النقد الذي يجعل العمل الأدبي رائده ثم يحكم عليه معللا لهذا الحكم ومدللا يسمي بالنقد الموضوعي
بين الناقد والأديب:
لا ريب أن هناك رحما ماسة وعلاقة وشيجة بين الأدب والنقد ،و بالتالي بين الأديب والناقد ، فإذا كان هدف الأديب هو التأثير في نفس السامع والقارئ عن طريق الإحساس بالمتعة الفنية والجمال ، معتمدا علي حس المتلقي وعاطفته ، فإن غاية النقد هو تفسير النص ، والكشف عن مناحي الجمال والقبح فيه معتمدا علي أسس من سلامة الطبع وتوافر الملكة الأدبية والحس اللغوي الجمالي المرهف والذوق السليم ؛ فالأديب لا تمكنه طبيعة التعبير الأدبي من التصريح بكل ما يريد، فهو في كثير من الأحيان يلمس المعنى دون أن يقرره أو يشرحه، وقد يشير إلى ما يقصده إشارات دالة، تقرأ بين السطور، وتستوحى من سياق الكلام، ويستدل عليها بأمارات يدركها النقاد والمتذوقون، ومن ثم فالتواصل بين الناقد والأديب قائم، ودور الأديب يسانده جهد الناقد.
والأديب بحكم طبيعته موهوب، وإبداعه يعتمد أساسا على تلك الموهبة الممنوحة له التي تولد معه، بيد أن نتاج ذلك الأديب يزداد قوة وروعة بالتزود من نتاج المبدعين في الفن الذي يعالجه، وكلما غذى الأديب قريحته بالنتاج الجيد انعكس ذلك على أدبه، وظهرت آثاره في نتاجه.
أما الناقد فعماد عمله يرتكز على الثقافة الأدبية وسعة المعرفة وتنوعها، ويفترض فيه قبل ذلك كله أن تكون لديه حاسة التذوق للأدب والتعاطف مع فنونه وألوانه وبدون ذلك الاستعداد الأوليِّ لا يصح له أن يدعي القدرة على ممارسة مهمة النقد. فالمعرفة والدربة وسعة الاطلاع على الأعمال الأدبية وعلى الدراسات اللغوية والتاريخية والنفسية ذات الصلة بالأدب تفيد الناقد وتثري عمله وتساعده على أن يكون نقده أكثر عمقا وأبعد أثرا وأجدى فائدة. وسعة الثقافة بصفة عامة سواء ما كان منها من قبيل الثقافات اللغوية والبلاغية أم ما كان من قبيـل الثقافة العامة تثري عمل النـــاقد، وتعينه على التحليــل والتفسير والشرح، كما تمكنه من التعليل المقنع، تأسيسا على الموازنة الصحيحة بين الأعمال الأدبية، واستعراض النماذج الجيدة والتدليل على مقومات الجودة وأسباب التقصير...، وذلك كله لا يتأتى للناقد إلا من خلال الثقافة المتنوعة والاطلاع الواسع.
وهناك مرحلة أخرى تتجلى في نطاقها الصلة القوية بين مهنتي الناقد والأديب ؛ فالناقد الأريب ذو الفكر الثاقب والرؤية المتبصرة يفيد نتاجه الحركة الأدبية إذ يوجه مسيرتها الوجهة الصحيحة، ويقدم للشداة النصح ويضع لهم المعالم التي ينبغي عليهم الاهتداء بها، كما يرسم لهم الأهداف التي يجب عليهم توخيها، والغايات التي يجدر بهم أن يتغيوها، بحيث يأتي أدبهم مؤكدا على قيم إنسانية عليا، ومثريا لفكر ووجدان الأمة التي يتوجهون بنتاجهم إليها، معبرا عن آمالهم وآلامهم، يتحسس مواجعهم، ويتغنى بأمجادهم، ويرسم صورة محببة لما يطمحون إليه من غايات، ويحدو مسيرة كفاحهم، ويرتقي بأذواقهم، ويهذب نفوسهم...، وفي هذه المرحلة أو الدورة من التواصل بين المُهمَّـتـين يفيد الأدباء الأصلاء من جهود النقاد، ويحرصون على الانتفاع بها، والاستضاءة بهديها.
ويقابل تلك المرحلة مرحلة أخرى إذ نرى أديبا متميزا ينبغ في حقبة بعينها، وقد يكون ذلك الأديب شاعرا أو كاتبا أو روائيا، فيبتكر بحسه وفكره وموهبته نموذجا رفيعا في الفن الذي يحذقه، فيغدو ابتكاره ذاك غاية في بابه، ونقطة تحول في موضوعه، يعجب به الــذواقون والنقاد، ويعدونه إضافة غير مسبوقة، ومثالا يجب أن يحتذي، وتكون مهمة الناقد في تلك الحالة هي استخلاص القيم والخواص الفنية التي برع بسببها ذلك الأديب، ومن ثم الإشادة بها والدعوة إلى احتذائها
وهكذا يبقى الترابط قائما بين جهد الناقد وابتكار الأديب: يسبق الناقد بفكره مرة فيوجه الأديب ويقوم مسيرة الأدب، ويسبق الأديب بفنه وموهبته مرة أخرى فينبه الناقد ليستخلص القيم ويستنبط المعايير؛لان النماذج الأدبي تتجدد ، والإبداع الأدبي لا يقف عند حد ، والناقد المثقف عليه أن يكون يقظا لكل ما تنتجه العقول ، مما قد يفوق القواعد النقدية ويتخطاها .
فالأدب إذن هو وعاء النقد ومجاله ، والنقد ظل الأدب ، والتذوق الأدبي يصل كلا منهما بالآخر
وعلي هذا فإن وظيفة النقد تأتي متأخرة عن الأدب ، بعد أن توضع أمام الناقد المادة التي يراد نقدها ، والنصوص التي يراد المفاضلة بينها والحكم لها أو عليها ، وبعد معرفة الظروف التي أملتها ، ودراسة المشاعر والعواطف التي سجلتها ، وحينئذ يبتدئ عمل الناقد الذي يأخذ في البحث عن الأصول التي يجب أن يتخذها أساسا لدراسته ، ويجتهد في استخلاص العناصر الجمالية التي لابد من توافرها في النص الأدبي حتي يكون جديرا بالبقاء (3)