محاضرة النقد القدي
استمرت المحاولات النقدية في عهد الخلفاء الراشدين وسار النقد في اتجاهين :
أولا: الاتجاه اللغوي
ثانيا: الاتجاه الأدبي
وكلا الاتجاهين علي النهج الذي ارتضاه الرسول ووضع أصوله
يعد بحق الناقد الأول في هذه الفترة ، فقد كان عمر بن الخطاب يحفظ الشعر ويرويه قال عنه ابن رشيق : ((كان من أنقد أهل زمانه للشعر وأنفذهم فيه معرفة ))، ولعل ثقافته الأدبية هي التي أهلته لأن يتبوأ مكانة عالية في توجيه النقد وتطويره ، فقد كان رضي الله عنه أعلم الناس بالشعر ذا بصر فيه ، يحب الاستماع إليه والاسترواح به
قال عنه ابن سلام: ((كان عمر بن الخطاب tلا يكاد يعرض له أمر إلا أنشد فيه بيت شعر ))
كان عمر يكثر من ترديد بيت زهير :
فإن الحق مقطعـــــــــة ثلاث يمين أو نفـــــــــار أو جلاء
قال عمر متعجباً من علمه بالحقوق ، وتفصيله بينها ، واستيفائه أقسامها ويقول : "لو أدركت زهيرا ً لوليته القضاء لمعرفته " يعني باليمين القسم أو منافرة إلي حاكم يقطع بالبينات ، أو جلاء وهو برهان وبيان يجلو به الحق ، وقد قال بعض الرواة " لو أن زهيراً نظر إلي رسالة عمر بن الخطاب إلي أبي موسي الأشعري في القضاء ما زاد شيئا علي ما قال " 0
كما كان t يعجب من جودة قسم الشاعر عبدة بن الطبيب ،ويردد النصف الأخير من أبياته :
والمرء ساع لأمر ليس يدركــــــــه والعيش شح وإشفاق وتأميـــــل
وإعجابه أيضا راجع إلي صدقه وإيجازه ، وقوة دلالته ، ويبدو أن عمر t كان شديد الإعجاب بزهير ، إذ نراه يتحدث إلي بعض ولد هرم بن سنان قائلاً0
أنشدني ما قال فيكم زهير ،فأنشده ، فقال : " لقد كان يقول فيكم فيحسن ، قال يا أمير المؤمنين : كذلك كنا نعطيه فنجزل ، قال عمر : ذهب ما أعطيتموه ، وبقي رما أعطاكم ))
وروي أنه قال لابنة زهير حين سألها ، ما فعلت حلل هرم بن سنام التي كساها أباك ؟ قالت أبلاها الدهر، قال : لكن ما كساه أبوك لم يبله الدهر مما يدل علي أن عمر كان يدرك وظيفة الشعر آنذاك وأهميته في المجتمع الإسلامي
وكان عمر يفاضل بين الشعراء في ضوء إسلامي وضعه للمفاضلة يضاف إلي ذلك ما فطر عليه عمر من إحساس مرهف فطر عليه وذوق سليم ، فقد حدث أن وفد عليه جماعة من غطفان ، فابتدرهم بقوله :
خبروني من القائل :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مـــذهب
لئن كنت قد بلغت عني خيانة لمبلغك الواشي أغش وأكــــذب
ولست بمستبق أخا لا تلمــــه علي شعث أي الرجال المهذب
فقالوا : نابغة بني ذبيان فسألهم ، ومن القائل :
أتيتك عاريا خلقا ثيـــابي علي خوف تظن بي الظنـــون
فألفيت الأمانة لم تخنها كذلك كان نوح لا يخــــــــون
فقالوا: إنه النابغة كذلك ، فسألهم ومن القائل :
ولا أري فاعلا في الناس يشبهه ولا أحاشى من الأقوام من أحد
إلا سليمان إذ قال الألاه لــــــــه قم في البرية فاحددها عن الفند
وخبر الجن إني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمـــد
فأجابوا هو النابغة ، قال عمر : هو أشعر شعرائكم وفي رواية ، فهو أشعر العرب
ويلاحظ هنا أن عمر قد حكم لكل من زهير والنابغة بحكم واحد وهو أن كلاً منهما أشعر العرب ، مما يوحي بتساويهما في الجودة 0
ومن أخبار عمر مع بعض الشعراء في عصره في مجال الهجاء والمدح والغزل ما يعزز ذلك ويؤكد ه
من ذلك أن بني العجلان كانوا يفخرون بهذا الاسم إذ كان عبد الله بن كعب جدهم إنما سمي العجلان لتعجاله القري للضيفان ، وذلك أن حيا من طئ نزلوا به فبعث إليهم بقراهم عبداً له وقال : أعجل عليهم ، ففعل ا لعبد ، فأعتقه لعجلته ، فقال القوم : ما ينبغي أن يسمي إلا العجلان ، فسمي بذلك فكان شرفاً لهم ، لكن النجاشي الحارثي هجاهم بذلك قائلاً ضمن هجائه :
أولئك أحوال العين وأسرة الـ ـهجين ورهط الواهن المتــذلل
وما سمي العجلان إلا لقيلــهم خذ القعب واحلب أيها العبد و أعجل
فاستعدوا علي النجاشي عمر بن الخطاب وقالوا : يا أمير المؤمنين هجانا ، فقالوا : وما قال ؟ فأنشدوه :
إذا الله عادي أهل لؤم ورقــــة فعادي بن العجلان رهط بن مقبـــل
الشاعر النجاشي
الناقد : عمر بن الخطاب
العبارة النقدية : (( إنما دعا عليكم ولعله لا يجاب ))
وفي رواية زهر الآداب أنه قال : (( إن الله لا يعادي مسلماً))
فقالوا : إنه قال :
قبيلة لا يغدرون بذمـــــــــــة ولا يظلمون الناس حبة خردل
الشاعر النجاشي
الناقد : عمر بن الخطاب
العبارة النقدية )) ليتني من هؤلاء ، أو قال ليت آل الخطاب كذلك))
قالوا : فإنه قال :
ولا يردون الماء إلا عشية إذا صدر الوراد عن كل منهل
الشاعر النجاشي
الناقد : عمر بن الخطاب
العبارة النقدية )(ذلك أقل للسكاك ، يعني الزحام ، وأصفي للماء ،))
قالوا فإنه قال :
تعاف الكلاب الضاريات لحومهم وتأكل من كعب وعوف ونهشل
الشاعر النجاشي
الناقد : عمر بن الخطاب
العبارة النقدية )( كفي ضياعا من تأكل الكلاب لحمه ))
قالوا فإنه قال :
وما سمي العجلان إلا لقيلــهم خذ القعب واحلب أيها العبد و أعجل
فقال عمر :
العبارة النقدية كلنا عبيد وخير القوم خادمهم
فقالوا ياأمير المؤمنين هجانا فقال : ما أسمع ذلك فقالوا : فاسال حسان بن ثابت فسأله فقال : ما هجاهم ولكن سلح عليهم ( أي بال عليهم )
وكان عمر أبصر الناس بما قال النجاشي ولكن أراد أن يدرأ الحدود بالشبهات فلما قال حسان ما قال سجن النجاشي وقيل إنه حده )) وقيل هدده إن عاد بأن يقطع لسانه وقيل إنه حبسه(1)
وكذلك صنع عمر بن الخطاب في هجاء الزبرقان بن بدر ، سأل حسان ثم قضي علي الحطيئة بالسجن في حفرة من الأرض 0
وكان الحطيئة قد جاور الزبرقان فلم يحمد جواره فتحول عنه إلي بغيض بن عامر بن شماس ، فأكرم جواره، فمدحه الحطيئة وهجا الزبرقان ، وكان من هجائه له قوله :
ما كان ذنب بغيض أن رأي رجلا ذا حاجة عاش في مستوعر شاش
جاراً لقوم أطالوا هون منزلــــــــــه وغادروه مقيما بين أرمــــــــــاس
ملوا قراه وهرته كلابـــــــــــــــهم وجرحوه بأنياب وأضـــــــــراس
دع المكارم لا ترحل لبغيتــــــــها واقعد فإنك أنت الطــاعم الكاسي
فاستعدي عليه الزبرقان عمر بن الخطاب وأنشده الأبيات فقال له عمر :
ما أعلمه هجاك ، أما ترضي تكون طاعماً كاسياً ؟ قال : إنه لا يكون في الهجاء أشد من هذا ، ثم أرسل إلي حسان بن ثابت فسأله عن ذلك فقال لم يهجه ولكن سلح عليه ، فحبسه عمر ، وقال : يا خبيث لأشغلنك عن أعراض المسلمين ، فقال وهو محبوس
ماذا أردت لأفراخ بذي مـرخ حمر الحوا صل لا ماء ولا شـــجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة فاغفر عليك سلام الله يا عمـــــــر
فرق له عمر وخلي سبيله ، وأخذ عليه ألا يهجو أحدا ً من المسلمين (2)
1) الشعر والشعراء 1/ 338 وما بعدها
2) المرجع السابق1/ 327، 328
وعمر في ذلك يطبق قول الرسول r : (( من قال في الإسلام هجاء مقذعاً فلسانه هدر))
والذي يظهر من استعانة عمر وغيره للفصل بين الشعراء أن عمر يجهل الحكم في ذلك ، وأنه لم يستطع أن يدرك غاية الهجاء وأثره علي نفس المهجو بدليل أنه فوض الحكم في ذلك إلي غيره ممن يظن أنه أقدر علي فه الشعر ومعرفة أبعاده منه
والواقع أن الأمر بخلاف ذلك ،
· ويروي ابن سلام أن الخليفة عمر بن الخطاب كان يثيب الشعراء علي شعرهم الذي يعجب به وأنه حين أنشده الشاعر سحيم بني الحسحاس شعره الذي يقول فيه :
· عميرة ودع إن تجهزت غازياً كفي الشيب والإسلام للمرء ناهياً
الشاعر : سحيم عبد بني الحسحاس
الناقد : عمر بن الخطاب
العبارة النقدية : لو قلت شعرك كله مثل هذا لا عطيتك عليه وفي رواية أنه قال له : (( لو قدمت الإسلام علي الشيب لاجزتك))
فلما قال :
وبتنا وسادانا إلـــــــي علجانة وحقف تهاداه الرياح تهاديــــــا
وهبت شمال آخـــــر الليل قرة ولا ثوب إلا درعها وردائيــــا
فما زال بردي طيبا من ثيابها إلي الحول حتى أنهج البرد باليا
قال له عمر: ويلك إنك مقتول
من إعجاب عمر بن الخطاب رضى الله عنه بشعر زهير بن أبى سلمى وتعليله لهذا الإعجاب بما يدل على إدراكه لمقومات الإجادة والشاعرية. أورد صاحب الأغاني عن ابن عباس قال:
" خرجت مع عمر في أول غزوة غزاها فـقـال لي ذات ليلة: يا ابن عباس أنشدني لشاعر الشعراء قلت من هو يا أمــير المؤمنين ؟ قال: ابن أبى سلمى. قلت : وبما صار كذلك ؟ قال: لأنه لا يتبع حوشي الكلام ولا يعاظل من المنطق ولا يقول إلا ما يعرف ولا يمدح الرجل إلا بما يكون فيه. أليس الذي يقول:
إذا ابتدرت قيس بن عيلان غاية من المجد من يسبق إليها يسود
ســبقت إليــــها كل طــلق مــــبرز سبوق إلى الغايات غير مــزنـد
كفعل جواد يسبق الخيل عفــــوه السراع وان يجهد ويجهدن يبعد
إلي قوله في هرم :
ولو كان حمد يخلد الناس لم تمت
ولكن حمد الناس ليس بمخـــلـد
أنشدني لــــه فأنشدتـــه حتى برق الفجر فقال حسبك الآن اقرأ القرآن ، قلت وما أقرأ ؟ قال اقرأ الواقعة فقرأتها ونزل فأذن وصلي " (1).
فهذه الرواية تفيد أن عمر رضي الله عنه صدر في حكمه على شعر زهير عن ظواهر موضوعية معروفة في ذلك الشعر ؛ وهى ظواهر فنية تتعلق بالشعر من جوانبه المختلفة فزهير في رأى عمر أشعر الشعراء:
لأن ألفاظه قريبـة سهلة يفهمها عامة العرب لأنه كان يتوخَّى في شعره اللغة الشائعة ويتجـنب وحشي الكلام وغريب الألفاظ.
ولأن أسلوبه واضح وعباراته ناصعة لا التواء فيهـا ولا جفاء فهو لا يعاظل في المنطق أي لا تتداخل عباراته أو تتراكب بصورة تـــؤدى
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الأغاني 10/ 290.
إلى خفاء معانيها وغموض محتوياتها.
ولأن معانيه صادقة فهو لا يمدح الرجــــل إلا بما يكون فيه لا يتزلف ولا يتملق بل يؤمن بما يقول وينفعل به ومن هنا تأتى مدائحه مؤثرة لصدورها عن اقتناع وإعجاب بشخوص ممد وحية لما يمتازون به من صفات ويضطلعون به من جلائل الأعمال التي تقربهم من القلوب وتنتزع لهم الإعجاب والثناء.
وتلك الدعامات الثلاثة التي علل بها عمر لجودة شعر زهير من أهم مقاييس النقد الأدبي بمفهومه الصحيح.
وهكذا نرى أن عصر صدر الإسلام لم يخل من أفكار نقدية لها قيمتها في تاريخ النقد العربي فمع الاهتمام بالجوانب المعنوية المرتبطة بالدين والأخلاق لم يغفل الناس في هذه المرحلة الجوانب الفنية التي تقرب النتاج الشعري من الذوق العربي الذي يؤثر السهولة والوضوح والصدق في التعبير والتصوير.
وعلى أية حال فقد كان عصر صدر الإسلام مشحونا بالأحداث الفكرية المهمة التي لم يتح معها لعشاق الشعر أن يخلوا إلى النظر فيه والمفاضلة بين نصوصه إلا في فترات وجيزة كانوا يشعرون فيها بالهدوء والاستقرار. ولعلنا نلاحظ ونحن نستقرىء الأطوار التى مر بـها الـنقــد عند العـــــرب أن فـــن الـنقـد لم يزدهر حقا إلا في عصور الاستقرار السياسي والاجتماعي ومصداق ذلك أننا لا نكاد نجد أثرا للنظر في الشعر في زمن الفتنة الكبرى التي اندلعت في خلافة عثمان رضي الله عنه وأعقبتها وامتدت بصورة رهيبة مخلفة بين جماعة المسلمين مشاعر مؤلمة شغلتهم عن كل شيء واستمرت الأمور على هذه الحال إلى خلافة معاوية حيث هدأت بصفة عامة. ومن هنا كان على المتتبع لأطوار النقد العربي أن ينتظر حتى تهدأ الأمور ويستعيد الناس صوابهم ويفيقوا من غمرة تلك الأحداث الرهيبة التي رأوها أمام أعينهم تعصف بكل القيم وتنتهك كافة الحرمات سعيا وراء مآرب سياسية وانسياقا في تيار العصبية البغيض.