محاولة نيرون الفاش
محاولة نيرون الفاشلة.
يجب أن ينتحر من لا يستطيع أن يكون يونانياً.
هذه هي عقيدة نيرون الذي كرس لها حياته. وهذه هي العقيدة التي جرت عليه سوء السمعة. كان العصر قد تغير كثيراً ومحدثو النعمة احتلوا مراكز مرموقة صارت تمسك بزمام الإدارة وتوجيه المجتمع. صاروا كل شيء تقريباً. ظهور نيرون بينهم كان أشبه بظهور سنونو في الشتاء.
على هذه السمعة بنى كثير من الشعراء أعمالاً حققت لهم سمعة بعكس سمعة نيرون وعادت عليهم بشهرة عريضة. وقد طبقت سمعة نيرون السيئة آفاق العالم وكتب عنه الكثير في العالم العربي، وصار مضرب المثل للطغيان والظلم والاستهتار. ومن أعظم ما كتب عنه قصيدة خليل مطران التي أطراها كثيراًوتحمس لها طه حسين. إنها قصيدة طويلة جداً ومشهورة جداً. وفيها نجد كل التهم التي وجهت إلى نيرون. إن خليل مطران حشد في قصيدته من التهم مالا نجده في كتب التاريخ أحياناً. لقد صار نيرون عنده أكمل نموذج للطاغية المتجبر. وقد حبب إلينا القصيدة تضافر الجدل فيها، فالمسؤولية لا تقع على نيرون وحده بل إن الشعب نفسه يتحمل النصيب الأوفر من هذه المسؤولية.
كان بالسبة من نيرون أحرى |
ذلك الشعب الذي أولاه نصرا |
بعد ذلك بقليل يفطن الشاعر إلى أن نيرون الذي يكتب عنه هو نيرون النموذج لكل طاغية. فلابد أن يكون مثل أي طاغية يبدأ أول الأمر بالتودد من الشعب فيظهر العطف والحدب والرقة واللين. وبعد أن يستكين له الشعب وينخدع بما أبداه من مظاهر يكشف عن وجهه الكالح كوجه الوحش.
مستهلا عهده بالخير دثرا |
ساس نيرون برفق قومه |
|
فجفا ثم عتا ثم اسبطرا |
لان حتى وجد اللين بهم |
|
آنس الحلم بهم منه تعرى |
لبس الحلم لهم حتى إذا |
|
هو من أهله في الادنين اصرا |
بادئاً تجربة البأس بمن |
|
رابه سما واحراقا ونحرا |
مستبيحاً بعدهم كل امرئ |
أما الصورة الجسدية التي يقدمها فهي من وحي النمط الأولي أيضاً ولا تنطبق على نيرون. إنه نمط الطاغية:
عبدوه؟ كان فظ الطبع غرا |
أي شيء كان نيرون الذي |
|
إن يواقف لحظة باللحظ فرا |
خائب الهمة خوار الحشى |
|
وجثوا بين يديه فاشمخرا |
قزمة هم نصبوه عالياً |
|
فترامى يملأ الآفاق فجرا |
ضخموه واطالوا فيئه |
|
صار طاغوتاً عليهم أو أضرا |
منحوه من قواهم مابه |
لقد تحول نيرون إلى نمط أولي يمثل الطاغية الذي تنطبق عليه كل الصفات التي يتمتع بها النمط الأولي القديم من غلظة وقسوة وطغيان وقطع أي علاقة إنسانية مع البشر. إن خليل مطران حول نيرون إلى وحش من الوحوش القابعة في العالم السفلي، وهي وحوش فاتكة إذا انطلقت من عقالها، لا تعرف أماً ولا أباً ولا أخاً ولا أختاً. وقبل مطران -وبعده أيضاً- تطرق الكثيرون إلى حياته ورؤوا فيها مثال الطاغية المتحجر القلب. وهناك مسرحية بعنوان /اوكتافيا/ تنسب لسنيكا معلم نيرون نفسه، وتتناول أمثال هذا الطاغية المطراني وتقدمه لنا وحشاً من كائنات العالم المظلم. وأوكتافيا هي زوجته المهجورة. تطل على المسرح وتتحدث عما رأته من دسائس. ومؤامرات في القصر الامبراطوري. وقد بلغت كراهيتها لنيرون إلى الدرجة التي فكرت فيها بقتله غيلة. ثم يدخل سنيكا ويتحدث عن نفيه إلى جزيرة كورسيكا. ثم يظهر نيرون ويصدر أوامر الإعدام على بعض الشخصيات الكبرى في القصر الامبراطوري، وبعضهم من أقربائه وأصدقائه فيحاول سنيكا ثنيه عبثاً.
ثم يظهر شبح أمه اغربينا فتتحدث بالتفصيل عن جريمة قتلها، وترمي نبوءتها عن نهاية نيرون نهاية شنيعة ومشينة وأليمة جزاء ما اقترفت يداه بحق أمه.
في هذه المسرحية نجد كل التهم الموجهة لنيرون يكررها الكتاب واحداً بعد الآخر وترد في شعر الشعراء وإن زاد بعضهم في التقبيح كثيراً كشاعرنا خليل مطران. قد يكون راسين من بين الذين سعوا إلى إلقاء ضوء جديد على أعمال نيرون في مسرحيته التي عالج بها قصة اغتصابه العرش عن طريق والدته وقد سمى المسرحية /بريتانيكوس/ وهو أخ غير شقيق لنيرون. لكن بشكل عام نلاحظ أن التهم ذاتها تتكرر عند الكتاب والشعراء وسنترك منها ما عزي إلى الجنون والنزوات النفسية فهذه تختلف من كاتب إلى آخر، ونقتصر علىأهم التهم وهي: قتل أمه،وطلبه من معلمه سنيكا أن ينتحر، ثم التهمة الكبرى وهي حريق روما. وسوف نبين أن هذه التهم الموجهة تدل على الظروف التي كانت سائدة في روما وهي ظروف محدثي النعمة. كانوا وقتها قد حققوا انتصاراً كبيراً في تسيير دفة الأمور، وصارت لهم أحياء خاصة مقلدين بذلك الارستقراطية. وسوف نثبت أنهم هم وحدهم وراء إخفاق التجربة النيرونية الفذة التي جاءت في غيرأوانها وفي عصر المعاداة للقيم النبيلة.
لنبدأ بقتل الأم: لو أن نيرون قتل أمه غب اعتلائه العرش لكان حقق شيئاً من تجربته ولو بسيطاً. لكنه كان مطيعاً لها يشعر بفضلها عليه لا كأم فقط، بل كسبب لاعتلائه العرش ولوضع التاج على رأسه. إن اغربينا تمثل محدثي النعمى بأجلى صفاتهم، فقد تزوجت امبراطوراً وأنجبت منه نيرون، ثم لما مات تزوجت من آخر وكان له ابن هو بريتانيكوس فاندفعت محمومة لتحول العرش إلى ابنها وقد أفلحت ايما فلاح، وقبل الامبراطور أن يعتلي العرش ابن زوجته.
عاملها نيرون بود واحترام وطاعة لا مثيل لها. لكنه صار يشعر بثقل ظلها فقد كانت تلازمه ولا تفارقه أبداً، بل إنها كانت تقبع عند باب غرفة نومه، وكثيراً ما تقتحم عليه الغرفة لأمر تظنه ضرورياً، فيطق عقله من تصرفها ولكنه يصبر كثيراً لشعوره بدورها في تنصيبه. وكانت عشيقته التي ينوي الزواج منها بعد تطليق زوجته، تعيره بأمه وبأنها تكتم أنفاسه ولا يستطيع منها حراكاً، وتفاقم الأمر عندما صارت تستقبل القناصل وتجلس معهم وتصدر التعليمات والأوامر لهم وهم يفغرون أشداقهم دهشة وعجباً ناظرين إلى الامبراطور حتى ينقذهم من ورطة أوامر أمه، فيصدر أوامره هو ليعملوا بها. كانت اغربينا مثالاً لحداثة النعمة وجنون الثروة فلا يهمها من الحياة سوى شيئين كل شيء من أجلهما يهون: الثروة والسلطة. وهما مبتغى كل محدث نعمة. الأدب والفن و المسرح والموسيقى.. أنواع من العلكة تمضغ للتسلية ولا قيمة لها... هذا هو الوضع في العصر الروماني. كل شيء يوناني تحول إلى تسلية محدثي النعمة... فالمسارح مثلاً صارت للمجالدة. و....
دس لها السم مرات ومرات، ولكنها مثل هدهد سليمان تعرف المخبأ وتفحم الأطباء. مرة أراد أن يدبر حريقاً تذهب ضحيته فما أفلح. ومرات رماها في البحر فتخرج كما تخرج القطة. كان يريدها أن تموت بعيداً عن الشبهة، وكانت تأبى أن تحقق له إرادته. بنى لها سفينة ورتب الأمور حتى تتمزق في عرض البحر.... ,مع ذلك عادت أمه كما تعود القطة إلى دار من رماها بعيداً ليتخلص منها بالتضليل. كانت تعرف ذلك ولكنها كانت تتجاهل لأنها لو قتلت ابنها كعادتها في كل الذين يتآمرون عليها، لفقدت كل شيء: فلا عرش ولا ثروة. كان يظن أن هذه المحاولة إن لم تنجح فستكون درساً لها، فما رأى فائدةً ولا تعلّمت درساً. صارت تتدخل في الأمور التافهة بل في خصوصياته بحجة أنه لا يعرف كيف يحافظ على التاج إلا الذي عرف كيف يحصل عليه. وعندما أعيته الحيلة أمر بقتلها.
أما معلمه ومربيه سنيكا فقد كان من زعماء الرواقيين الكبار الذين تقوم فلسفتهم على الفردية والذاتية وليس التجمع البشري. كانوا يقولون إن أفعال الإنسان يجب أن تتطابق مع الطبيعة. والمقصود أن يكون الإنسان حراً في الاختيار شريطة ألا يسير ضد الطبيعة. وهذا ما سوف تنادى به المدرسة الفيزيوقراطية في الاقتصاد أيام تدفق الذهب إلى أوروبا، أي بعد خمسة عشر قرناً. كانوا ماديين حتى إن ماركس يغدو مثالياً بالمقارنة بهم. ويؤمنون أن أفعال الإنسان يجب أن تكون حسب قدرته فتتلاءم مع طبيعته هو، فلا يعمل ما لا طاقة له عليه فيخالف طبيعته ويشقى. لذلك مال بعض المملقين إلى الانتحار فشاع كطريقة لإثبات الإرادة الإنسانية والخلاص من شرور هذا العالم. وهم يرون أن قوام الحياة: الثروة والصحة والاطمئنان. ولهذا السبب توهم من خلت الثروة من يده أنه لا يصلح للحياة فيقدم على الانتحار، وهم يعتقدون أن الفرد يمكن أن يستغني عن العالم بالقناعة أو الانتحار، فحتى السجين يمكن أن يشعر بالحرية إذا عرف كيف يعتمد على إرادته، فالإرادة وحدها تحرر الفرد.
ومع ذلك كان سنيكا صاحب ثروة كبيرة، لعب بعقل أخت الامبراطور الأسبق فزنى بها مما جعله يذوق النفي. لكن أم نيرون استدعته وجعلته مربياً ومعلماً لابنها قبل أن تلعب لعبتها مع الامبراطور الجديد فتجعله يبعد ابنه عن العرش لتدفع نيرون إليه.
نشأت الرواقية في اليونان ولكنها لم تعش هناك ولم تعرف الازدهار إلا في روما. العقلية اليونانية لا تتقبل النزعات الفردية مهما كانت في عصرها الذهبي. كان همهم الأكبر هو خلق صيغة تعايش للمجموع وليس للفرد.
وبظهور محدثي النعمة وجدت الرواقية شيئاً من الرواج، لكن رواجها الأكبر كان في الامبراطورية الرومانية، حيث تمكن محدثو النعمة من تأمين سيطرة في المجالين الرسمي والاجتماعي.
لم يكن نيرون على وفاق مع معلمه. كان يعيّره بأنه ثري أرعن وبأنه شوه عقائد أساتذته الإغريق.ولما تآمر عليه طلب إليه أن ينتحر فانتحر.
أما حريق روما فقد حدث حقاً ولكن نيرون لم يكن في روما أبداً ولا أمر بالحريق، كما أنه لم يسمع به إلا بعد أن عاد من سفرته اليونانية إلى روما. وبعد أن أجرى التحريات عرف أن الأغنياء، أي محدثي النعمة أرادوا توسيع الشوارع، والأسواق فتآمروا وأحرقوا الأحياء الفقيرة بغية إنشاء أسواق جديدة تتسع لبضائعهم الكثيرة المتكاثرة.
عرف نيرون حقيقة الحريق وعلى الفور أمر جنوده بإحراق حي محدثي النعمة انتقاماً لما فعلوه بالفقراء. وبالطبع سرت الإشاعات أن نيرون هو الذي أمر بإحراق روما ليعزف لحناً يونانياً جديداً يستلهمه من الحريق الذي كان ضخماً في أحياء الأغنياء كما كان ضخماً في أحياء الفقراء. وقد راجت بعض الشائعات أن الذي أمر بالحريق الثاني هو الذي أمر بالحريق الأول.
هذه هي التهم الكبرى الموجهة لنيرون، وكلها تدل على أنه كان في صراع مع محدثي النعمة في هذه التهم كما في غيرها من التهم. كل من كان يحيط به كان من محدثي النعمة المتكالبين على السلطة والثروة. وكلهم كانوا يلجأون إلى التآمر. فمن الطبيعي ألا ينجح في حكمه وأن تكال له التهم، مع أنه الامبراطور الوحيد الذي حظي بأكبر شعبية في تاريخ روما بعد يوليوس قيصر.
إذا كان الكتاب والشعراء قد جعلوا منه نمطاً أولياً للشر والعدوان والاستهتار والطغيان، فإنه لم يكن أبداً كما صوروه. لقد كان إنساناً مرهفاً وابناً مطيعاً، لأمه أول الأمر، كما كان زوجاً مثالياً قبل اكتشاف مؤامرات القصر. كان يحفظ الأدب اليوناني، من أوله إلى آخره، وكان يجيد العزف فيجلس في خلواته إلى قيثارته ويعزف كل الألحان اليونانية التي يعرفها. وكانت هذه الألحان هي الألحان القديمة. إنها ألحان معابد وابتهالات وأناشيد ربانية. كان ينفر من الموسيقى الحديثة التي صارت سريعة مزعجة. كان يقول بأن قومه الرومان لا يجيدون إلا أناشيد القتل والضرب. كل الأناشيد الندية والمتبتلة أهملها الرومان. لقد صار المسرح يضج بالموسيقى الصاخبة. كان يكره هذه الموسيقى ويؤكد أنها لا تريح النفس ولا تربي الأخلاق الحسنة. إنها موسيقى غرائز. وكان يدرب الفرق الموسيقية على الألحان اليونانية.
أما القصائد التي ينظمها فمن وحي الشعراء القدامى، بل من كبار الشعراء وكان معجباً ببندار شاعر الارستقراطية، بينما كان معلمه سنيكا يستخف بهذا الشاعر ولا يرى فيه إلا كلاماً أجوف وضجيجاً صاخباً ويصر إن موضوعات بندار مثال الغرور.والغرور هو أعدى أعداء الرواقية. أن تاريخ الرواقية لم يسجل إجماعاً على شيء مثل إجماعهم على ازدراء الغرور. لكن هذا الرأي لسنيكا في بندار كان يقوله خارج القصر أما أمام نيرون فكان يكذب ويبدي إعجاباً زائفاً. وكان نيرون يحض سنيكا على نظم الشعر غير الدرامي. لم يبق شيء من شعره إن كان نظم شعراً. إلا أن النمط اليوناني هو ماكان يطالب نيرون معلمه أن يقتدي به.
والمعروف أن المسرح الروماني سار على هدى المسرح اليوناني، إلا أن نيرون كان دائماً يسأل: لماذا لا تكتبون مثل اليونان وأنتم تعالجون الموضوع ذاته؟ وبالطبع لم يكن لديهم جواب سوى أنهم يسعون جادين للحاق باليونان.
أنفق نيرون أموالاً طائلة على المسرح والموسيقى والأدب. كان الإنفاق الثقافي يحتل المقام الأول عنده. لم ينفق على الآلة الحربية شيئاً طيلة حكمه. وقد سعى لتحويل الشعب الروماني إلى شعب يلعب كاليونان، لكنه وجد أنهم شعب جاد مقاتل، ينتظر الأوامر حتى يقوم بواجبه. ولم يعرف التاريخ جندياً ملتزماً بالأوامر العسكريةمثل الجندي الروماني. وشعب كهذا لا يكون في العادة شعباًمبدعاً. لابد أن يجيد اللعب والفرح حتى يبدع، لأن الإبداع أصلاً ليس أكثر من لعبة جديدة تجرب حظها من النجاح. الرومان شعب مطيع. ولولا سيطرة محدثي النعمة على أموره لظل يحمي الامبراطورية حتى اليوم دون كلل أو ملل. لكن جنون الثروة أطلق الأهواء والنزوات الفردية، مما جعل كل قائد عسكري يشعر أنه مستقل بذاته.
نظر نيرون إلى المسرح الروماني نظرة استخفاف. كان يريد من الرومان أن يتقنوا هذه اللعبة جيداً لا أن يحولوا المسارح إلى مدارس لتربية روح الجندية وتعليم القتل. وتشجيعاً للمسرح كان يترك قصره ويشترك في التمثيل فتعلق به محبو الفنون تعلقاً شديداً حتى إنهم كانوا يسألون قبل دخول المسرح إذا كان -الأخ نيرون- سيمثل أم لا . وكان عدد الحاضرين يتناقص عندما لا يشترك الامبراطور في التمثيل.
إلا أن نيرون لم يكن يشارك إلا في تمثيل التراجيديا. كان يرى الكوميديا الرومانية تركيباً آلياً للأحداث. وحتى التراجيديا التي كان يمثلها كانت عتيقة ذات موسيقى فخمة. كان يحب اسخيلوس ويتمنى أن يتقن الرومان تقليده. كان يراه /فخماً وجليلاً/.
كان محدثو النعمة يتهكمون بأن نيرون يجيد التمثيل أكثر مما يجيد الحكم. وكانوا في الخفاء وعن طريق نشر الشائعات يشوهون سمعته. أما نيرون فكان يزعم أنه لولا التمثيل لكان ظالماً وما عرف أصول الحكم. ويعجب كيف كان يحكم من لا يعرف الموسيقى والمسرح والشعر. وعندما تداول مجلس الشيوخ في خليفة نيرون، ولم يكن له ولد، قال نيرون متهكماً: أخشى ألا يكون من صلبي من يحمل اهتمامي، وعندها تحكمون أنتم باهتماماتكم الحربية وبناء المركبات والسفن الضخمة فسوف تستولون على بقية العالم. كان يعرفهم معرفة جيدة ولم يكن يحترم أحداً منهم على الإطلاق. كان يحزن لأن الامبراطور صارت تصنعه النساء، وما أكثر الاغربينات في روما. لقد غدت الامبراطورية بلا قواعد ولا أنظمة.
وإذا كان نيرون قد اشترك في التمثيل على مسارح روما فإنه لم يشارك في المباريات الرياضية الرومانية زاعماً أنها لا تدخل الفرح إلى القلب، بل تثير رائحة القتال، فكان يذهب في مواعيد الألعاب اليونانية ويشارك فيها بكل جدية. وطار عقل الإغريق بهذا الامبراطور الصديق. كانوا دائماً يجلونه ويجعلونه الفائز الأول وعلى الأخص في سباق العربات الذي كان يحبه لأنه يشعر وهو في العربة أنه يطير بعيداً عن قذارات روما. وقد أصر أن يعفي اليونان من أي ضريبة لروما، ولو امتد به العمر لكان فرض على روما جزية سنوية تؤديها لليونان. على أي حال ماكان يضن على الإغريق بشيء من ماله ووقته. وبعد اختتام المسابقات الرياضية كان يعود إلى روما وهو يحمل أغصان الزيتون والمداليات التي نالها بعد فوزه في شتى المباريات.
كان برنامجه التربوي يهدف إلى تحويل الرومان إلى شعب مبدع في الفنون مثل اليونان. كان واهماً جداً فلا الإغريق الذين قرأ عنهم في أيامهم هم الأغريق، ولا الرومان في أيامهم هم الرومان الذين كانوا يندفعون للتعلم من اليونان. هذه المحاولة هي التي قتلته، فقد تألب عليه كل محدثي النعمة ولم يبق حوله إلا الفقراء من يونان ورومان. مرة حرض الرومان أن يذهبوا معه للاشتراك في المباريات الرياضية فلم يذهب أحد. لقد كاد له محدثوا النعمة فأضرموا النار بأحياء الفقراء -وكان غائباً عن روما قبل عدة أيام- وزعموا أن الامبراطور أمر بذلك. وقد ساهم المسيحيون -وهم أبناء عم الرواقيين في العقيدة- في إشاعة هذه التهمة التي لصقت به على الرغم من أنه أمر بإحراق أحياء محدثي النعمة انتقاماً منهم على احراق أحياء الفقراء.
عندما استطاع محدثو النعمة أن يثيروا بعض قطعات العسكر ضده انتحر ومات يائساً من الرومان، فقد كان دائماً يقول لهم ثروتكم سوف تنقض عليكم وتدمركم. وبالفعل فقد قضت الثروة على الرومان، أو كانت السبب الأكبر في القضاء عليهم.
أقيم له ضريح غدا محجة الإغريق وفقراء الرومان. وفي كل عام يتوافد الألوف وفي يد كل واحد منهم وردة جميلة يرميها على الضريح. وكانوا يريدون تخليد اسمه بإقامة ألعاب خاصة بذكراه السنوية. والذي قضى على نيرون قضى على هذه المحاولة. ونعتقد أن شعبيته هي التي عجلت بظهور مسرحية اوكتافيا التي تشوه سمعته. فقد لاحظ محدثو النعمة هذه الشعبية فألفوا هذه المسرحية وعزوها لسنيكا للتمويه كأنهم أرادوا قطع الطريق أمام أنصاره حتى لا يقدسوه. فالمسرحية شهادة من معلمه ومربيه، فهل هناك من دليل على جنونه أكبر وأصدق من هذا؟
وبعد ذلك تهافت على زيارة ضريحه الألوف من محبيه واستمروا في ذلك سنوات وسنوات عديدة ولا نعرف متى توقفوا عن ممارسة هذا التقليد الجديد.
نيرون اليوم بات في الأدب نمطاً أولياً نحمله كل أنواع الطغيان والشرور ولا علاقة لنيرون الأمس به.