محمود سامي البارودي .. مصر بين الحنين والوجع (1)

محمود سامي البارودي .. مصر بين الحنين والوجع (1)




محمود سامي البارودي
مصر بين الحنين والوجع (1)
نفي الثَّائر إلى سَرَنْديب سبعة عشر عامًا وقتَ أُغلقَت أبواب الوطن في وجهه ظلمًا فصرخ: "لم أقترف ذنبًا". تساءل عما إذا كان الدِّفاع عن الوطن ذنبًا يُعاقَب المرء عليه وما أجيب إلا بالإبعاد وما اقتنع. فالقضية الّتي آمن بها وعمل مِن أجلها قضية دفاع عن وطن تدخل فيه الأجنبي بشكل سافر:
راجعْتُ فِهْرِسَ آثاري فما لَمَحَتْ
![]() |
ولما كانت القضية قضية ظلم، فإن شاعرنا يتألم غاية الألم، فتمضي الأيام والشّهور والسّنوات، وتتدهور صحته، ويكاد الشّوق والشّعور بالاضطهاد يقضي عليه.
تتالت عليه المصائب وكان أكبرها الضّعف النّاتج عن الشّيخوخة، فيخف نظره وسمعه وتوهن أعصابه، فيتوجع منه القلب والجسد معًا:
كيفَ لا أنْدُبُ الشّباب وقد أص
![]()
بحْتُ كهْلاً في مِحْنةٍ واغترابِ
![]()
أخلَقَ الشّيبُ جِدَّتي وكَسَاني
![]()
خِلْعَةً منه رَثَّةَ الجِلبابِ
![]()
ولَوى شَعْرَ حاجِبَيَّ على عيْ
![]()
نيَّ حتّى أطلَّ كالهُدَّابِ
![]()
لا أرى الشَّيءَ حينَ يسنَحُ إِلا
![]()
كخيالٍ كأَنَّني في ضبابِ
![]()
وإذا ما دُعيتُ حِرْتُ كأنِّي
![]()
أسمعُ الصَّوتَ مِن وراءِ حجابِ
![]()
كلَّما رُمْتُ نهضةً أقعدَتْني
![]() |
تلك الصّورة النّاطقة المتحركة لكهل يعاني مِن تراجع قوة الجسد عضوًا فعضوًا يدعمها بصورة أخرى يصور فيها نفسه يشبه فرخ طير صغير ضعيف لا حول له ولا قوة:
الفرخ الّذي كان نسرًا هدّته الأيام وطحنته المحنة وأوجعه الاغتراب، فما عاد يقدر على حمل قلمه هو الّذي طالما كتب بغزارة وحارب ببسالة أيام الشّباب:
ولا تكادُ يدي تُجري شبا قلَمي
![]() |
أما وقد اجتاحته الشّيخوخة وحُكم عليه بالنّفي، فهو يصف حاله بعيدًا مُضَّطَهدًا مظلومًا ومتشوقًا:
لكلِّ دمعٍ مِنْ مُقلة سببُ
![]()
وكيف يملِكُ دمعَ العينِ مُكتئِبُ
![]()
لولا مكابدةُ الأشواقِ ما دَمِعَتْ
![]() |
لكنه - رغم الأسباب القوية - يحاول أن يتمالك نفسه فلا تُرى دموعُه جارية وهو الّذي كان له تاريخ مِن الشَّجاعة والبأس والقوة:
أستنجدُ الزَّفَرات وهي لوافحٌ
![]() |
يحاول أن يتمالك:
أَكُفُّ غَرْبَ دموعي وهي جاريةُ
![]() |
وعندما يحل الظَّلام وتغفو عين الرقيب، يخلد إلى البكاء المصحوب بالوجع:
أبِيتُ أَرْعى الدُّجى بعينٍ
![]() |
وهو في سَرَنْديب حزين ساهر أرق:
أَبيتُ حَزينًا في "سَرَنْديب" ساهرًا
![]()
طوالَ اللَّيالي والخَلِيّون هُجَّدُ
![]()
أحاولُ ما لا أستطيعُ طِلابَهُ
![]() |
هو في سَرَنْديب غريبٌ، بائسٌ، ساهرٌ، أرِقٌ:
أظلُّ فيها غريبَ الدَّارِ مبتئسًا
![]() |
هو في سَرَنْديب يعاني كل ما يمكن للمرء أن يعاني:
شوقٌ ونأيٌ وتبريحٌ ومعتبةٌ
![]() |
وهو في سَرَنْديب يعاني مِن كل ما يجلب إلى الإنسان الوجع:
عناءٌ ويأسٌ واشتياقٌ وغربةٌ
![]() |
إن الغربة في سَرَنْديب غربتان: بُعد عن وطن وبُعد عن خل وصديق ورفيق يخفف وحدته ومعاناته:
لا في "سَرَنْديب" خِلٌّ أسْتعينُ به
![]() |
فالصَّديق حاجة ملحة، فهو وطنٌ حين لا يكون الوطن موجودًا، فماذا لو لم يكونا موجودين معًا؟
لا في "سَرَنْديبَ" لي خِلٌّ ألوذُ به
![]() |
يصرخ وهو يعرف أهمية ما يفتقد إليه مِن هذا اللَّوذ وهذا اللّجوء وهذه الاستعانة وهذا البوح الّذي يحتاج إلى أن يبوحه فلا يجد شيئًا مما يطلب، فيعتكف ويعود إلى ذاته منهزمًا وقد زادت مواجعه، فيتحدث إلى أوراقه ويبكي ليلاً: يبكي دمعًا وحبرًا:
لا في "سَرَنْديبَ" لي إلفٌ أُجاذِبُه
![]() |
إنه يعيش القحل والغربة في أبهى مشاهدهما ويعيش الوجع في أدق تفاصيله؛ فالإبعاد جرح والظُّلم جرح والغربة جرح والشّيخوخة جرح، والوطن هو: الجرح الأكبر.
إن الملاحظ في صورة الوطن عند شاعرنا أنها صورة مشرقة رغم كلِّ الآلام الّتي يعانيها، إذ لم تستطع كل هذه الجروح أن تلون الصُّورة بالدَّم القاني المتدفق من الجرح المفتوح، بل ظلت صورة مشمسة متفائلة، فالوطن عند شاعرنا هو وطن الذَّاكرة التي تفجرت بالبعد والغربة.
الوطن، عنده مرتبط بصورة الشّباب التي يتشوق فيها إليه وقت يرثي صديقيه الشيخ حسينًا المَرصفي وعبد الله باشا فكري:
أين أيامَ لذتي وشبابي؟
![]()
أتُراها تعودُ بعد الذَّهابِ؟
![]()
ذاكَ عهدٌ مضى وأبعدُ شيءٍ
![]() |
الوطن مرتبط بأيام القوة والفتوة أيضًا:
فالوطن هو أرض الطّفولة وأرض النّشأة الأولى الّتي لا تلبث أن تسلِّم المرء إلى النَّشأة الثّانية أو نشأة الشّباب وقتَ كان شباب شاعرنا مليئًا بالبطولات والحروب المشرِّفة:
ما إنْ خلعْتُ بها سُيُورَ تَمائمي
![]() |
ويعود ليحدد معنى الوطن، فهو يعني - إلى جانب المراحل الّتي نشأ فيها وشب - كل ما يرتبط به من شجاعة وفروسية وحياة أسرية وعلمية:
هو مَرْمَى نَبْلي ومَلْعَبُ خَيلي
![]() |
هو يعني الجيرة والقوم والآداب والأعراق:
مَرعى جِيادي ومَأوى جِيرتي وحِمى
![]() |
ويؤكد البارودي على كرم الأهل المتروكين جبرًا في الوطن إذ يؤكد على روابطه القوية بهم:
وكيفَ أنْسى دِيارًا قد تركْتُ بها
![]() |
لا ينسى:
تركْتُ بها أهلاً كرامًا وجيرةً
![]() |
إنه، يفتقد في الوطن: الإلفة الّتي يشكل مجموع ما ذكره منها طمأنينة لقلبه وسعادة، انظر إلى كلمات النَّعيم في حديثه عنه:
منازل ُكلَّما لاحَتْ مَخَايلُها
![]() |
فالوطن - رغم بعده القسري عنه - كلما ذكر، أثار الطّرب في نفسه وكان ذكره هو الدَّواء من الوجع:
وانظر إلى كلماته المشرقة عن الوطن - الذاكرة:
ديارٌ يعيشُ المرءُ فيها منعَّمًا
![]() |
الوطن يرتبط بالسَّعادة الّتي هي عكس حاله في غربته في سرنديبَ؛ لذا يستدعيه فنتخيله باسمًا وهو يكتب عنه مستنبطاً صفاته:
لبَّيْكَ يا داعيَ الأشواقِ مِنْ داعي
![]()
أسمعْتَ قلبي وإِنْ أخطأْتَ أَسْمَاعي
![]()
مُرْني بما شئتَ أَبلُغْ كلَّ ما وصلَتْ
![]()
يدي إليه فإني سامعٌ واعي
![]()
منازلُ كنْتُ منْها في بُلْهَنِيَةٍ
![]() |
وقد صار إلى ما لم يكن إليه فيه، فما مِن أتباع في هذه الغربة ولا مِن غلمان ولا مِن أهل ولا مِن جيرة ولا مِن هوى.
إنها الغربة الّتي يحاول شاعرنا بنفس إيجابية - رغم كل الضُّغوط - أن يجد له منها منفذًا ما يخترق فيه جدارها المرتفع عاليًا في وجهه مانعًا إياه مِن نسمات الهواء الآتية مِن مزيج مشاعره الطّيبة الّتي يحافظ عليها فيسوِّرها ويبقيها في الذَّاكرة وطناً.
[1] - الديوان، ص453.
[2] - الديوان، ص68، ونى في الأمر ونيًا: ضعف وفتر، والونية: اسم مرة منه.
[3] - أزيغب: صفة ل"فرخ الطير" تصغير الأزغب هو ماله زغب من الطير والزغب صغار الشّعر والريش وأول ما يبدو منها. والشكير: صغار الريش النابتة بين كباره.
[4] - الديوان، ص451.
[5] - الديوان، ص453* شباة القلم: إبرته وسنه* العسال: الرمح اللون المهتز.
[6] - الديوان، ص72* وجبَ القلب وجيبًا: اضطربَ.
[7] - الديوان، ص154.
[8] - الديوان، ص342.
[9] - الديوان، ص167.
[10] - الديوان، ص171.
[11] - الديوان، ص341.
[12] - الديوان، ص452.
[13] - الديوان، ص625.
[14] - الديوان، ص341.
[15] - الديوان، ص370.
[16] - الديوان، ص449.
[17] - الديوان، ص66.
[18] - التمائم: ج مخيمة وهي عوذة تغلق على الإنسان في طفولته لتدفع عنه العين. وحل التمائم كناية عن مجاوزة الإنسان طوار الطفولة.
[19] - الديوان، ص390.
[20] - الديوان، ص586.
[21] - الديوان، ص169* النبل: السهام العربية* الحِمى: المكان المحمي الّذي لا يقرب ولا يُجترأ عليه* البند: فارسية تعني: العلَم الكبير.
[22] - الديوان، ص371.
[23] - الديوان، ص372.
[24] - نفسه، 390.
[25] - الديوان: ص73.
[26] - يقصد روضة المقياس في مصر حيث نشأ وله فيها قصائد كثيرة.
[27] - الديوان، ص165.
[28] - الديوان، ص293
[29]- الديوان، ص 393 - 340.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/literature_language/0/72419/#ixzz3rrDB8Ljj