معالم النقد في الج
معالم النقد في الجاهلية دعوة الحق155 العدد
نشــأة النقــد :
النقد الأدبي قديم قدم الأدب نفسه لأنه ملازم له لاحق به، وقد عرفه العرب كما عرفته الأمم الأخرى في أول مرحلة من مراحل نشأته فنا بسيطا ولمحات قصيرة، وتعود نشأته عند العرب إلى العصر الجاهلي لأن أقدم ما لدينا من الأدب يعود إلى ذلك العصر، ووجود النقد ضروري حين يوجد الأدب، ورد في كتاب (التوجيه الأدبي) :
« ومنذ سمع الناس الأدب الإنشائي فيما أنشد الشعراء من القصائد وما ألقى الخطباء من الخطب، حرص بعضهم على أن يظهر رأيه فيما سمع فإنني على القصيدة أو عابها، وذم الخطبة أو قرظها، ووجد من الناس من يشاركه في ذلك أو يأبه عليه، فصدرت أحكام على الشعر والنثر، وكان هذا هو أول الأدب الوصفي وهو الذي نسميه نقدا» (1).
وإذا كان النقد الأدبي، الذي هو المقصود بهذا البحث الكوجز، هو فن تمييز جيد الكلام من رديئه، وصحيحه من فاسده، وبالتالي الحكم عليه، فكيف كان النقد الأدبي منذ العرب قديما ؟، وما هي معالمه ؟
معالم النقد العربي في الجاهلية :
الملاحظة أن هذا المصطلح لم يكن معروفا متداولا في العصر الجاهلي والعصر الإسلامي، ولم يوجد حتى في المعاجم اللغوية التي ألفت بعد مجيء الإسلام، بل كانت هناك اصطلاحات أخرى مثل : البصر بالشعر، أو المعرفة الشعرية، أو العلم بالشعر، أو الفراسة في الشعر، وحتى كتب النقد أيضا لم تكن تستعمل كلمة نقد في الميدان الأدبي إلا نادرا، وكان قدامه بن جعفر (ت 337 هـ) من أوائل من استعملها في كتابه : ( نقد الشعر)، في القرن الرابع الهجري.
لقد كان النقد في العصر الجاهلي مقدمات أولى في صناعة الشعر الجاهلي، وخطرات سريعة ذاتية تعتمد على الذوق وتنظر إلى البيت مستقلا أو البيتين لا إلى كل القصيدة كوحدة، وبذلك جاءت نظراتهم النقدية جزئية، ورغم ذلك فهي لا تخلو من بعض الصحة والسلامة تدل على بصر بالشعر وعلم به، ولكن تلك الأحكام لم تكن في الغالب ثابتة، فكثيرا ما نجد الناقد بفضل شاعرا لإعجابه يبيت من شعره فيقول أنه أشعر الشعراء، ثم يسمع شعرا لغيره يعجب به فيفضله على غيره، وما ذلك إلا لأن تلك الأحكام لم تكن وليدة لتحليل والتمحيص، بل هي الأحكام عامة وذاتية، وإذا عرفنا إن الشعر العربي من بمراحل من التهذيب قبل أن يصل إلى الصورة التي وصل إلينا عليها، فلابد من وجود أحكام نقدية في نفس تلك الفترة المفقودة هذبت ذلك الشعر الذي وصل إلينا ناضجا، وإذا كانت طفولة هذا الشعر قد غابت عنا، فإن النقد الذي كان يواكبها –ولا شك إنه كان في طفولته أيضا- لم يصلنا كذلك، وإنما وصلت أحكام بسيطة على الشعر الموجود المتمثل في المعقات وغيرها من أشعار الجاهليين.
وغير جاف ما للاحتكاك بين العرب في الأسواق التيكانوا يلتقون فيها لقضاء حاجاتهم المختلفة من أثر على تطور تلك النظريات النقدية وبالتالي نضج شعرهم واكتماله تبعا لتوجيه النقد له، وأشهر تلك الأسواق : سوق عكاظ، حيث كانت تضرب للنابغة الدبياني قبة من أدم ليحكم بين الشعراء ويعطي رأيه في القصائد التي يستمع إليها.
وإذا تتبعنا الأمثلة على الأحكام النقدية في العصر الجاهلي استطعنا أن نعرف كيف كان الناقد يلقي أحكامه، ومن تلك الأمثلة القديمة : حكم زوجة امرئ القيس أم جندب بين زوجها والشاعر علقمة ابن عبدة الفحل بعد أن اختلفا في أيهما أشعر، فقالت : لينظم كل منكما قصيدة يصف فيها فرسه، على أن تلتزما وزنا واحدا وقافية واحدة، فصنع كل منهم قصيدة على وزن الطويل وأنشدها القصيدتين، فقالت لزوجها : «علقمة أشعر منك، قال : كيف ؟ قالت : لأنك قلت :
فالسوط الهـوب وللسـاق درة
وللزجـر منـه وقـع أخرج مهذب
فجهدت فرسك بسوطك في زجرك، ومريته فأتبعته بساقك. وقال علقمة :
فأدركهـن ثانيـا من عنــانه
يمـر كمـر الرائــح المتحلــب
فأدرك فرسه ثانيا من عنانه، لم يضربه بسوط ولم يتعبه».
وإذا صحت هذه الحكاية عن أم جندب التي كانت ولاشك شاعرة، فإن النقد عندها يدل على جزئية نظرتهم بحيث يحكمون على الشاعرة ببيت واحد، ولكن رأي هذه المرأة هنا صريح فلم تتعصب لزوجها.
وقد كان الشاعر أيضا ينزل عند رغبة النقاد بدون شك، ويرضي الذوف العام، فيسير على نهج تقليدي معروف، وقد تنبه لذلك زهير بن أبي سلمي فقال :
مـا أرانـا نقول إلا معـارا
أو معاد من لفظنـا مكرورا
وكثيرا ما كان الشاعر ينظر إلى شعره بنفسه، فينقحه ويهذبه ويدخل عليه بعض التحسينات كما عرف عن زهير بن أبي سلمى واستاذه أوس بن حجر ومدرستهما في التنقيح.
وفي أخبار الأعشى نجد أنه كان ينشد شعره على الصنج، وغير خاف ما لهذه الطريقة من أثر على الأذن من الناحية الموسيقية تجعل الشاعر يحرص على إرضائها. وإذا هو لم يرض الإذن العربية لم يسلم من المآخذ كما حدث لنابغة الذبياني الذي يقال أنه كان يقوي في شعره حتى قدم إلى المدينة يوما فطلب أهل المدينة إلى مغنية أن تغني قوله :
أمن آل مية رائح أو مقتدي
عجلان ذا زائد، وغير مزود
زعم البوارح أن رحلتنا غدا
وبذاك خبرنا الغراب الأسود
فلما سمعها شعر بما البيتين من نشاز، فغير حركة الروي المضموم فقال:
«وبذلك تتعاب الغراب الأسود»
ومن الأمثلة أيضا على الأحكام النقدية ونماذجها في العصر الجاهلي ما يحكى عن طرفة وهو صغير أنه سمع الشاعر المسيب بن على ينشد إحدى قصائده ويصف بعبره في هذا البيت منها :
وقد أتناسى الهم عند أذكاره
بناج عليه الصيعرية مكدم
فقال طرفة هازئا : « استثوق الجمل»، لأن الصيعرية سمة خاصة بالنوق لا بالجمال تكون في أعناقها.
ونأتي إلى النوع من النضج في النقد الذي يتمثل في سوق عكاظ أشهر أسواق العرب، فيروى أن النابغة كانت تضرب له قبة من أدم ويأتي الشعراء فينشدونه أشعارهم فيكون له الرأي الأول والأخير، فيشتهر الشاعر الذي استحسن شعره وأنه به، ويذكر أن من بين الشعراء الذين نوه بهم : الأغشى والخنساء وحسان بن ثابت ، وتقول الرواية أنه لما أنشده حسان قصيدة منها :
وغير جاف ما للاحتكاك بين العرب في الأسواق التيكانوا يلتقون فيها لقضاء حاجاتهم المختلفة من أثر على تطور تلك النظريات النقدية وبالتالي نضج شعرهم واكتماله تبعا لتوجيه النقد له، وأشهر تلك الأسواق : سوق عكاظ، حيث كانت تضرب للنابغة الدبياني قبة من أدم ليحكم بين الشعراء ويعطي رأيه في القصائد التي يستمع إليها.
وإذا تتبعنا الأمثلة على الأحكام النقدية في العصر الجاهلي استطعنا أن نعرف كيف كان الناقد يلقي أحكامه، ومن تلك الأمثلة القديمة : حكم زوجة امرئ القيس أم جندب بين زوجها والشاعر علقمة ابن عبدة الفحل بعد أن اختلفا في أيهما أشعر، فقالت : لينظم كل منكما قصيدة يصف فيها فرسه، على أن تلتزما وزنا واحدا وقافية واحدة، فصنع كل منهم قصيدة على وزن الطويل وأنشدها القصيدتين، فقالت لزوجها : «علقمة أشعر منك، قال : كيف ؟ قالت : لأنك قلت :
فالسوط الهـوب وللسـاق درة
وللزجـر منـه وقـع أخرج مهذب
فجهدت فرسك بسوطك في زجرك، ومريته فأتبعته بساقك. وقال علقمة :
فأدركهـن ثانيـا من عنــانه
يمـر كمـر الرائــح المتحلــب
فأدرك فرسه ثانيا من عنانه، لم يضربه بسوط ولم يتعبه».
وإذا صحت هذه الحكاية عن أم جندب التي كانت ولاشك شاعرة، فإن النقد عندها يدل على جزئية نظرتهم بحيث يحكمون على الشاعرة ببيت واحد، ولكن رأي هذه المرأة هنا صريح فلم تتعصب لزوجها.
وقد كان الشاعر أيضا ينزل عند رغبة النقاد بدون شك، ويرضي الذوف العام، فيسير على نهج تقليدي معروف، وقد تنبه لذلك زهير بن أبي سلمي فقال :
مـا أرانـا نقول إلا معـارا
أو معاد من لفظنـا مكرورا
وكثيرا ما كان الشاعر ينظر إلى شعره بنفسه، فينقحه ويهذبه ويدخل عليه بعض التحسينات كما عرف عن زهير بن أبي سلمى واستاذه أوس بن حجر ومدرستهما في التنقيح.
وفي أخبار الأعشى نجد أنه كان ينشد شعره على الصنج، وغير خاف ما لهذه الطريقة من أثر على الأذن من الناحية الموسيقية تجعل الشاعر يحرص على إرضائها. وإذا هو لم يرض الإذن العربية لم يسلم من المآخذ كما حدث لنابغة الذبياني الذي يقال أنه كان يقوي في شعره حتى قدم إلى المدينة يوما فطلب أهل المدينة إلى مغنية أن تغني قوله :
أمن آل مية رائح أو مقتدي
عجلان ذا زائد، وغير مزود
زعم البوارح أن رحلتنا غدا
وبذاك خبرنا الغراب الأسود
فلما سمعها شعر بما البيتين من نشاز، فغير حركة الروي المضموم فقال:
«وبذلك تتعاب الغراب الأسود»
ومن الأمثلة أيضا على الأحكام النقدية ونماذجها في العصر الجاهلي ما يحكى عن طرفة وهو صغير أنه سمع الشاعر المسيب بن على ينشد إحدى قصائده ويصف بعبره في هذا البيت منها :
وقد أتناسى الهم عند أذكاره
بناج عليه الصيعرية مكدم
فقال طرفة هازئا : « استثوق الجمل»، لأن الصيعرية سمة خاصة بالنوق لا بالجمال تكون في أعناقها.
ونأتي إلى النوع من النضج في النقد الذي يتمثل في سوق عكاظ أشهر أسواق العرب، فيروى أن النابغة كانت تضرب له قبة من أدم ويأتي الشعراء فينشدونه أشعارهم فيكون له الرأي الأول والأخير، فيشتهر الشاعر الذي استحسن شعره وأنه به، ويذكر أن من بين الشعراء الذين نوه بهم : الأغشى والخنساء وحسان بن ثابت ، وتقول الرواية أنه لما أنشده حسان قصيدة منها :
لنا الجفنات يلمعن بالضحى
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ولدنا بني العنقاء وابني محرق
فأكرم بنا خالا وأكرم بنا اينما
فقال له النابغة : « أنت شاعر ، ولكنك أقللت جفانك وأسيافك وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك».
وتلاحظ أن النابغة الناقد هنا ينقد حسانا نقدا سديدا من الناحية الفظية التي تتجلى في عدم جمع الشاعر جفتانه وأسيافه جمع كثرة، ومن الناحية المعنوية التي تظهر في فخره بأولاده، مع أن العرب يفخرون بالآباء والأجداد. وإذا كان يظهر في هذا الحكم نوع من النضج فإننا نلاحظ أن مثل هذه الأحكام التي تتناول القضية اللفظية والمعنوية نادرة في النقد الجاهلي الذي كان يهتم بالصياغة أكثر في صورة مبسطة تناسب العصر.
ورغم ذلك فهذه الأمثلة المختلفة التي رأيناها والتي لم نذكر منها إلا القليل، تدل دلالة قوية على وجود النقد في الجاهلية وتعطينا الصورة التي كان عليها بحيث تظهر معالمه وسماته، وهو كما رأينا نقد بدائي له سمات أولية يهتم بالبيت أو البنين، وكانت الأحكام خطرات دهن فطري متوقد تهمل التعليل والتحليل والتفصيل، وإذا أتى شيء من ذلك فهو جزئي بسيط ، يعتمد على الدوق الشخصي ويقصد المجال الفني الذاتي غالبا، ولكنه مجال ضيق على كل حال، ليست فيه دقة وتحليل، بل هو إلى العموميات أقرب، إلا أن هذا ليس عيبا فيه، لأنه لا يزال في طوره الأول ولأن الدراسات التي تنظمه لم تكن قد ظهرت بعد، فكان بطبيعة الحال مسايرا لروح العصر، فالشعر الجاهلي إحساس وانفعال، وكذلك كان النقد، ومع ذلك فهو لا يخلو من قيمة، فقد كان له كثير من الفضل في توجيه الئعراء الذين كانوا يحرصون على الإبداع حتى ينال شعرهم رضى الناس ويسلموا من المآخذ.
1 ) التوجيه الأدبي للدكتور طه حسين وآخرين، ص: 5 طبعة دار الكتاب العربي بمصر 1953.