مقالات دعبير
مفهوم النقد الأدبي
بقلم د/ عبير عبد الصادق محمد بدوي
أستاذ الأدب المشارك بقسم اللغة العربية
النقد هو تقويم العمل الأدبي من الناحية الفنية، وبيان قيمته الموضوعية، وقيمته التعبيرية والشعورية، وذلك بإظهار ما في العمل الأدبي من جمال، وما وراء العبارات من أسرار وإيحاء ومدى قدرتها على تصوير مشاعر الأديب وعلى نقل هذه الصورة إلى فكر القارئ وشعوره، وأخيراً وضع العمل الأدبي في المكانة الفنية التي يستحقها، والحكم عليه بالجودة أو الرداءة، بالجمال، أو القبح.
وهذا يقتضى ـ لكي يكون النقد موضوعياً الإلمام بالظروف المختلفة المنوعة، التي أسهمت في النص الأدبي المنقود، بالإضافة إلى شخص الأديب، بيئته، ثقافته، وسائر الملابسات التي تأثر بها.
والعمل الأدبي هو موضوع النقد الأدبي، فالحديث عنه هو المقدمة الطبيعية للحديث عن النقد.
والعمل الأدبي في عبارة موجزة : هو التعبير عن تجربة شعورية تعبيراً موحياً.
ومع أن التعريفات ـ وبخاصة في الأدب – لا تفي بالدلالة على جميع خصائص المعرف، ولا تصل إلى أن تكون ما يسمى " التعريف الجامع المانع " فإن كل كلمة من تعريف العمل الأدبي تشير إلى نوع من العلوم التي يرتبط بها هذا النقد.
فكلمة " تعبير " تصور لنا طبيعة العمل ونوعه، و" تجربة شعورية " تبين لنا مادته وموضوعه، و " تعبيراً موحياً " تحدد لنا شرطه وغايته.
" فالتجربة الشعورية " هر العنصر الذي يدفع إلى التعبير، ولكنها بذاتها ليست هي العمل الأدبي، لأنها ما دامت مضمرة في النفس لم تظهر في صورة لفظية معينة، فهي إحساس أو انفعال، لا يتحقق به وجود العمل الأدبي.
والتعبير في اللغة ـ يشمل كل صورة لفظية ذات دلالة أي "الصياغة " ولكنه لا يصبح عملاً أدبياً إلا حين يتناول " تجربة شعورية " معينة، وبعضهم يميل إلى اعتبار كل تعبير جميل ولو عن حقائق العلوم البحتة ـ داخلاً في باب الأدب.
ولكن ما تميل إليه النفس أن يكون العمل الأدبي تعبيراً عن " تجربة شعورية ".
بمعنى أن الموضوع لا يحدد طبيعة العمل، ولكن طريقة الانفعال بالموضوع هي التي تحدده، فمجرد وصف حقيقة طبيعته مثلاً وصفاً علمياً بحتاً، ليس عملاً أدبياً مهما تكن صيغة التعبير فصيحة مستكملة لشروط التعبير، أما التعبير عن الانفعال الوجداني بهذه الحقيقة فهو عمل أدبي، لأنه تصوير لتجربة شعورية.
ولكن التعبير عن التجربة الشعورية لا يقصد به مجرد التعبير، بل رسم صورة لفظية موحية مثيرة للانفعال الوجداني في نفوس الآخرين، وهذا شرط العمل الأدبي وغايته، وبه يتم وجوده ويستحق صفته.
كما أن الصياغة تربط النقد بسائر فنون اللغة من نحو وصرف واشتقاق ولغة وغيرها، من كل ما يتصل بالكلمة المفردة، وبالجملة والتركيب، وما وراء ذلك من دلالات وأوضاع تؤثر في طبيعة المعنى والغرض، كما تؤثر في الحكم العام على النص.
على أن أشد الفنون التحاماً بالنقد هو البلاغة، إذ تلتقي به عند الغاية، عند البحث عن أسرار الجمال في النص الأدبي.
والتجربة الشعورية هي أساس العمل الأدبي، ومكانها منه معلوم واضح، ومضمونها الحياة بأحداثها وثقافاتها فكل ما في الحياة من صور ومشاهد صالح لأن يكون تجربة شعورية تمد الناقد بزاد وثروة.
وهذه تجربة الشعورية، حين تلبس حلتها من الشعر، تسمى تجربة شعورية، وتمتاز إذ ذاك عن بقية التجارب في الفنون الأخرى، بما يصحبها من انفعال حاد، يتحول في الصياغة إلى صور حية متحركة، تثير المشاعر وتهز الوجدان، وتلك طبيعة الشعر، كل ما فيه يتسم بالحرارة والإثارة، لشدة لصوقه بالعاطفة والوجدان .
فمادة الشعر إذن ـ على حد تعبير لاسل كرومبى ـ هي " التجربة الصادقة التي مر بها الشاعر، وليست في الحياة كلها أمر يمكن أن نعتبره تجربة لها قيمتها الذاتية، التي تعلو بها على سواها، بل كل ما تقع عليه الحواس، وكل ما يمس العاطفة، وكل ما ينفعل به الأديب هو مادة فنه".
أما الشعور فهو يربط النقد بعلوم النفس والاجتماع، ومن خلالها يسهل تفسير النص الأدبي نفسياً وشعورياً، كما أنه يربط الأديب بمجتمعه وأحداثه وظروف عصره، فالأديب صوره لمجتمعه.
والإيحاء يربط النقد بالموسيقى والجمال والأصوات، بما لها من تأثير مباشر وغير مباشر على الشعور والوجدان. إذ المراد بوحي العبارة في النص وما تعكسه في وجدان القارئ المتذوق من تأثير مقرون بالمتعة والنشوة والإعجاب.
وهكذا نرى أن الألفاظ التي حددت مفهوم العمل الأدبي قد حددت الأصول الهامة التي يقوم عليها النقد، ثم العلوم والفنون التي تعين هذا النقد على أداء وظيفته في تقويم وتحليل العمل الأدبي.
التجربة الإبداعية وأثرها في العمل الأدبي
بقلم د/ عبير عبد الصادق محمد بدوي
أستاذ الأدب المشارك بقسم اللغة العربية
لقد شغل مفهوم الإبداع العديد من الباحثين على مر العصور, وصار استخدام كلمة إبداع شائعاً كثيراً من قبل كافة المختصين وغير المختصين، مع أن أكثرهم لا يملك تفسيراً واضحاً لمعنى الإبداع.
تعريف
الإبداع (لغة):
الإبداع في اللغة :هو الاختراع والابتكار على غير مثال سابق. وبصورة أوضح هو إنتاج
شيء جديدٍ لم يكن موجوداً من قبل على هذه الصورة. وقد عرفت الموسوعة البريطانية
الإبداع على أنه القدرة على إيجاد حلول لمشكلة أو أداة جديدة أو أثر فني أو أسلوب
جديد.
كما
أنه لا يمكننا إلا أن نبرز التعريفات المشهورة للإبداع وذلك حسب تعريف العالم
(جوان) gowan:
الإبداع مزيج من القدرات والاستعدادات والخصائص الشخصية التي إذا وجدت بيئة مناسبة
يمكن أن ترقى بالعمليات العقلية لتؤدي إلى نتائج أصلية ومفيدة للفرد أو الشركة أو
المجتمع أو العامل.
كما أن العالم تورانسtorance قد عرف الإبداع فقال
الإبداع هو عملية وعي بمواطن الضعف وعدم الانسجام والنقص بالمعلومات والتنبوء
بالمشكلات والبحث عن حلول، وإضافة فرضيات واختبارها، وصياغتها وتعديلها باستخدام
المعطيات الجديدة للوصول إلى نتائج جيدة لتقدم للآخرين.
كما
أن هنالك العديد من التعريفات نذكر منها:
* الإبداع عملية تثمر ناتجاً جديداً وغير عادي يتقبله المجتمع لفائدته.
* الإبداع هو التميز في العمل أو الإنجاز بصورة تشكل إضافة إلى الموجود بطريقة
تعطي قيمة أو فائدة إضافية.
إن القدرة علي الإبداع الفني كامنة في كل شخص ، وقابلة للنمو 0 كل خبرة جمالية ، مهيأة لخبرة جديدة أي كل كشف جديد هو تمهيد لكشف آخر ، وهكذا في حركة تصاعدية ، ولكن بشرط أن تؤدي كل خبرة جمالية إلي محاولة التعبير عنها، أي بشرط أن نحاول صياغتها بما لدينا من وسائل التعبير .
وقد ظل للإبداع وخاصة ما يتخلله من إلهامات من المسائل الغامضة المستعصية علي البحث التجريبي ، وكان التفسير الشائع للإلهام يرجع إلي عمليات لاشعورية تستمد دوافعها من عالم الغرائز .
وإن كان الدكتور ((مصطفي سويف )) في كتابه ((الأسس النفسية للإبداع الأدبي ))أدرك نقص هذا التفسير ، وحاول أن يعلل الإبداع تعليلاً علمياً باستخدام الاستخبارات التي أرسلها إلي مجموعة من الشعراء في مصر والأقطار العربية طالبا منهم ًأن يجيبوا عن أسئلة معينة وأن يصفوا تجاربهم النفسية في أثناء إنشاء القصيدة .
فالتجربة الإبداعية لدى العلماء والفنانين والأدباء والتقنيين وإن حملت سمات متشابهة إلا أنها في كل مجال منها لها خصوصيتها التي تتمايز فيها عن غيرها. لكنها جميعاً تعود إلى نقطة واحدة أو مركز واحد في الإنسان حيث تتمثل الوحدة من خلال الكثرة والتعدد. فثمة ما يربط الكون والإنسان في نظام موحد عام تتخلق داخله نظم فرعية تتداخل فيما بينها وتعود في نهاية المطاف إلى مقرّها الممتد عبر العصور والمسافات.
التجربة الإبداعية تؤكد أن الحياة لا تطلق مخزونها دفعة واحدة، لأنه غني ثري أولاً وهو في طور الاكتمال ثانياً.. فليس من جواب نهائي لإمكانات الحياة التي تبرز لنا في كل آونة جديداً لا عهد لنا به.
ولا يقنع الإنسان –كما أنه لم يقنع من قبل- بلعب دور المتفرج المأخوذ بعظمة الكون وجلاله والذي هو لا ينقطع عن الدهشة أمام الجمال وأسرار الوجود التي تتكشف كل يوم عن واحد أو أكثر منها. والكشف الذي يحرزه المرء رهن سعيه ودأبه واجتهاده وامتلاكه أدوات التعبير والحفر على المعاني. والمبدع من تكشفت له آفاق قد يتيسر لغيره الاتصال بها لكنه يشعر بما لا يشعرون به وتكون لديه القدرة على الإفصاح بما يخامره في لحظات يكون فيها في حالة من الكشف والوجد والدهشة.
ومن فاته أن ينعم بمثل هذه الحالة لن تفته –إن أراد- حالة يقتنص فيها ما فاض على المبدع في تلك اللحظات لأنه على أي حال يمتلك القدرة على التلقي فتصله الرسالة ويتفاعل معها على قدر جهده.. ويغوص في بحر ما أعطاه ذلك المرسل أو بحر الرسالة التي يبعث بها إليه فيكتشف بدوره ما اكتشف الأول ولربما تحصل لـه ما لم يكن قد رآه المبدع فيما أبدع فتتراءى له من بحر الإبداع لآلئ ودرر قد يتفاجأ صاحب النص أن قد رآها غيره في نصه. وحالة النشوة التي يشعر بها المبدع بعد فيض ما كان مستغرقاً فيه تتصل بالمتلقي في عملية اتصالية لا حاجة فيها لاستخدام الأسلاك التي تربط بين المرسل والمستقبل ودون أن يتحدث هذان الأخيران بصوت عالٍ وجهاً لوجه أو بأية لغة مما تعرفه الأبجديات.
حالة الخلق هذه بظواهرها المختلفة الوجوه المتعددة الأشكال كانت باستمرار محط تساؤل الناس على مختلف مستوياتهم المعرفية. إذ خلق الإنسان على الفضول وحب الاطلاع فاجتذبته هذه الظواهر منذ بدء النشاط البشري على ظهر المعمورة وتفاوتت النظرة بين إنسان وآخر نحو المبدعين.
فهناك من ميزهم عن غيرهم من المخلوقات فمنهم من ادعى أن هؤلاء مسكونين بالأشباح أو بالأرواح الطيبة أو الشريرة.. أو أنهم تحركهم الشياطين فتمنحهم قدرات مختلفة عن غير ما لدى أبناء جلدتهم من البشر العاديين.
وقديماً قيل إن الشاعر إنما تحركه شياطين الشعر فلكل شيطانه.. وقد عرف العرب مثل هذه التهيؤات حين قالوا بموطن لهؤلاء الشياطين من وادي عبقر.
وليس غريباً مثل هذه التصورات لأن المبدع عندما يأتي بالمبتكر والجديد يبدو كأنه حطم مألوفاً لأنه يتجاوز المألوف وإلا فهو غير مبدع. وعلى يديه تتكسر الجمل والخطوط والمفردات لتنهض بدلاً منها وفوقها صور وبنى ما لا قبل للإنسان بها من قبل ولا خطرت على ذهنه.
وكلما بدا أن الصورة شعرية كانت أم نثرية، حروفاً أم أشكالاً، خطوطاً أم أحجاماً، نغمات أم ألحاناً- قد جنحت نحو الرتابة أو السكون يأتي المبدع على جناح طائر سري خفي لا تراه عين ولا تسمع لخفقات جناحيه نأمة فيخترق السكون ويفتعل الضجيج وما أن تنقشع حالة المعاناة والقلق ويتبدد السراب والضباب حتى تتألق صور جديدة.. يضج السكون ويخرج عن كونه سكوناً فتكون القصيدة أو الرواية أو اللوحة التشكيلية منها .
ولا يتأتى إدراك الجمال لمتكاسل أو جاهل أو عابر طريق، بل أن ذلك يحتاج فيما يحتاجه الدربة والمران والممارسة.
ويرتبط إنتاج الفنون بصوره المتنوعة بجملة مؤثرات وعوامل تشكل الحياة الاجتماعية وتوجهها نحو الأفضل. وهو ما يفسر تطور القيم الجمالية وتنوعها. فقد تتغير النظرة إلى الأثر الفني بتغير المتلقي له وبتغير الأزمنة والأمكنة.. لكنه لا بد محتفظ بقيمة فنية جمالية على مرّ السنين.
فعملية الإبداع لا تجري بعيداً وفي اتجاه واحد، ومن أجل هدف محدد الإطار ثابت إنما هي تتحرك وتتخذ أشكالها المختلفة بتأثير من تفاعلات نوعيةّ، يشكل كل من التواصل والاتصال والتفاعل بعض أهم جوانبها. فالمبدع ليست بينه وبين المتلقي حواجز أو موانع. ولا يتصورن مبدعاً لا يضع في اعتباره أولئك الذين يتلقون نتاجه. فالمتلقي قابع في ذات المبدع في أشد لحظات إشراق الفكرة ومكابدة ولادتها لتصير وجوداً حاضراً بالفعل بعد أن كانت مجرد إمكانية.
ولا نملك إلا أن نذكر قول الله تعالي :
{إنَّ في خَلقِ السَّمواتِ والأَرضِ واختِلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ لآياتٍ لأُولي الألبابِ(190) الَّذين يَذكرونَ الله قِياماً وقُعُوداً وعلى جُنُوبِهم ويَتَفَكَّرُونَ في خَلقِ السَّمواتِ والأَرضِ ربَّنا ما خَلَقتَ هذا باطلاً سبحانكَ فَقِنَا عذابَ النَّارِ(191)}
ـ إن إبداع هذا الكون وتناسقه قد أوجدته يدٌ حكيمة، أحكمت صُنعه بحيث يجري وفق نظام مبرمج ودقيق للغاية، فشكَّلت من ذلك الإحكام لوحات رائعة تحمل في طياتها أجمل صور الإبداع وألوانه، ممَّا يهدي المتأمِّل فيها إلى قدرة الله، فتتفجَّر ينابيع التسبيح والإقرار بتلك العظمة والقدرة من قلبه على لسانه.
ـ لقد كرَّم الله تعالى الإنسان بالعقل، وهيّأ له السُّبل كي يبحث في هذا الكون بالنظر والتأمُّل والتفكُّر.
ـ فكلُّ ما في هذا الكون يجذب النفوس للإيمان، حتَّى إذا جاءها نداء الأنبياء، محرِّكـاً كوامن عقولها وقلوبها، استجابت لما يُحييها ويُسعِدها،قال تعالى: {يا أيُّها الَّذين آمنوا استَجيبُوا لله وللرَّسول إذا دعاكم لما يُحْيِيكُمْ..} (8 الأنفال آية 24).
فسبحان بديع السماوات والأرض ..لا مبدع إلا الله..
وأخيراً
إن الإبداع هو أن تضع
لبنة جديدة إلى جانب أو فوق جدار أو صرح الحضارة الإنسانية الذي وضع لبناته الأولى
أقوام سبقونا فمنهم من وضع لبنة ترابية ومنهم من وضع طوبة صنعت من خليط ترابي وتبن
ومنهم من وضع لبنة أسمنتية ومنهم من أضاف صخرة ظاهرها صلابة وباطنها ذهب والعكس
صحيح.
مكانة البحث العلمي في الدول العربية
بقلم د/ عبير عبد الصادق محمد بدوي
أستاذ الأدب المشارك بقسم اللغة العربية
إن البحث العلمي هو أحد الأدوار الملقاة على عاتق التعليم العالي للقيام بدوره في التمنية الاجتماعية ،إذ لا يمكن تحقق تنمية في ظل تخلف علمي، فلم يعد البحث العلمي ترفاً تمارسه بعض الدول والشعوب ، بل أصبح ضرورة تفرضها الحياة من أجل التقدم والرقي ومواكبة ما وصل إليه الإنسان في مجال الاكتشافات العلمية، لقد أصبح تقدم الأمم ورقيها الحضاري يقاس بمدى ما وصلت إليه من نتائج علمية، فالدول التي يصطلح عليها باسم الدول المتقدمة، حازت هذا الاسم بتفوقها العلمي والتقني وليصبح سمة من سمات تفوقها السياسي والعسكري والاقتصادي
وإذا كانت الدول المتقدمة قد تحقق لها القدر الأكبر من التقدم من خلال اهتمامها بالبحث العلمي فإن الدول النامية مازالت في أول الطريق وتزداد حاجتها للبحث العلمي يوماً بعد يوم، فمشكلاتها الاجتماعية و الصناعية والصحية والزراعية لا تُحل إلا من خلال البحث العلمي الذي ينشأ في مجتمعات هذه الدول محاولاً التعامل مع الواقع الذي يعيشه دراسةً وتحليلاً وبحثاً لتحقيق النتائج المرجوة منه، إذ أثبتت التجارب أن أصالة البحث العلمي أمر أساسي في نجاح كثير من المشاريع العلمية التي لا يمكن اقتباسها أو نقلها فقط، فلكل مجتمع ضرورته وبيئته واحتياجاته وما لم تعتن الدول العربية و الإسلامية بالبحث العلمي فإن الفارق بينها وبين الدول المتقدمة ستزداد هوة واتساعاً، إذ لا يكفي أن تتوقف هذه الدول عند قدر معين من الجهد العلمي، لأن الدول الأخرى تسبقها يوماً بعد يوم، بل لا بد من بذل المزيد من الجهد والمال من أجل اللحاق بما وصلت إليه الدول المتقدمة 0 .
إن المتتبع لواقع البحث العلمي في الدول الإسلامية ـ و العربية ـ من بينها يجد أن الجهود المبذولة في هذا لمجال ما تزال قاصرة عن تحقيق دورها المطلوب، إذ على الرغم من التفوق العلمي للحضارة العربية الإسلامية في عهودها السابقة وسبقها في ميدان العلوم، إلا أن هذه الجهود توقفت مع توقف النبض العلمي في الحضارة العربية الإسلامية، وكأن صعود الحضارات وسقوطها مرتبط بتقدمها العلمي أو إخفاقها .
يقول (جوستاف لوبون) في كتابه (حضارة العرب) : "إن فلاسفة العرب والمسلمين هم أول من علم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين"إلا أن ذكر الماضي والإشادة به لا يمكن أن يحقق تقدماً وحضارة جديدة، بل لا بد من الأخذ بأسباب ذلك، وأولها هو البحث العلمي، فأي بحث نريد؟ ولأي مجتمع ؟
ومع اتساع مجالات البحث العلمي وتعدد ميادينه، أصبح التفكير بالبحث العلمي الفردي تفكيراً محدوداً، أو تداخلت المعارف والاختصاص بحيث تحتاج معظم البحوث العلمية إلى جهد جماعي متكامل خاصة مع التوسع في استخدام الأجهزة التقنية الحديثة، بل لم يعد الجهد الفردي ممكنا ، سواء كان على مستوى مؤسسات التعليم العالي أم الدول.
وحيث إن البحث العلمي أصبح وليد مؤسسات فإن محضنه الأول هو مؤسسات التعليم العالي كالجامعات والكليات والمعاهد العليا ومراكز البحث التابعة لها، لأن هذه المؤسسات تضم نخبة متميزة من الباحثين والاختصاصيين، كما أنها تتوفر لديها –في الغالب – الأجهزة الإدارية التي يمكن أن تقوم بدور التخطيط والتنسيق ورسم السياسات العلمية ومتابعة تنفيذها، كما تتوفر لديها الأجهزة والأدوات اللازمة لتنفيذ البحث العلمي من مختبرات وأجهزة وورش ومواد أولية وغيرها من احتياجات البحوث، إلا أن مؤسسات التعليم العالي لا يمكن أن توجد بحثاً علمياً من فراغ، إذ أنها تعتمد في ذلك على العناصر البشرية التي تلتحق بها من التعليم –دون الجامعي- وهذا يشير إلى أهمية إعداد الفرد منذ مراحله التعليمية الأولى إعداداً علمياً وبحثياً جيداً، بحيث تتكون لديه العقلية البحثية التي يستطيع أن ينميها ويطورها من أجل الدخول إلى ميدان البحث العلمي – في مراحل التعليم العليا- وقد تهيأ عقلياً وتربوياً
إن مؤسسات التعليم العالي في الدول الإسلامية و العربية ، مازالت مثقلة بكثير من المعوقات تقف في مقدمتها العقلية الإدارية السائدة ليس في المؤسسات وحدها بل في المجتمع، إذ مازال ينظر إلى البحث العلمي كنوع من "الترف" العلمي المكمل لدور المؤسسة التعليمية ، ولذا يأتي في ذيل الاهتمامات التي توليها مؤسسات التعليم العالي رعايتها وينعكس ذلك على ميزانيات البحث العلمي ونسبتها لا من الناتج القومي، بل من ميزانيات المؤسسات التعليمية، إذ لا يحظى البحث العلمي إلا بالقليل من الأموال أما إذا نظرنا إلى جامعات الغرب فإننا نجد أنها قد تجاوزت نسبنا العربية
إننا أمام صورة قاتمة ومؤلمة لحال البحث العلمي في الدول العربية والإسلامية التي تواجه كثيراً من المشكلات التي تنتظر حلولها العلمية، فالتصحر وتقلص الرقعة الزراعية المحدودة في منطقتنا، وندرة الموارد المائية، واقتصاديات ما بعد النفط، وعلاقاتنا الدولية في محيط متغير، وتلوث البيئة وغيرها من المشكلات العلمية، التي تشكل تحدي لمؤسساتنا العلمية التي تعي – بلا شك- حجم هذه المشكلات، وبدأت الخطوات الأولى – أو بعضها – للسير في مجال البحث العلمي، إلا أنه سير بطئ تسبقه خطوات الآخرين، ومسيرة الأحداث .
إن الواقع يشير إلى أن العرب والمسلمين مازالوا متأخرين في ميدان البحث العلمي وليس لهم إلا النزر اليسير منه ، فقد استطاعت الدول المتقدمة أن تقطع شوطاً كبيراً في ميدان البحث العلمي، إذ أننا نلاحظ أن ما يقرب من 90% من التقدم العلمي تحظى به كل من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية، وروسيا، واليابان، وهذا يفسر لنا سر تفوق هذه الدول
أما في عالمنا العربي فنظرة سريعة تبين لنا الموقف من البحث العلمي، إذ تشير الإحصائيات المتوفرة إلى وجود 375 مركز بحثي متخصص في الوطن العربي، 20% منها مستقلة وذات كيان قائم بذاتيه، 12% منها تابعة للجامعات، 51% تابعة للوزارات، 17% ارتباطها بين جهتين أو أكثر0
أما بالنسبة إلى لغة النشر فإن 5% من البحوث تنشر باللغة العربية وبالباقي بالإنجليزية أو الفرنسية من جملة البحوث ، وهذا ما يثير إشكالية الاستفادة منها ، لأن استمرار النشر باللغات الأجنبية يكرس الانفصام بين حاجات المجتمع ونتائج البحوث العلمية
ويُتخذ النشر العلمي في المجلات المحكمة معياراً على الإنتاج العلمي وبخاصة في المقارنات الدولية. ووفقاً لـ دليل النشر العلمي يتدنى نصيب البلدان العربية من النشر العلمي إلى أقل من سدس نصيبهم من سكان العالم (0.7%) هذا على حين يرتفع نصيب إسرائيل من النشر العلمي إلى عشرة أضعاف نصيبها من سكان العالم، وهنا يتعدى التفوق النسبي لإسرائيل على العرب، مقارنة بعدد السكان0
أما عن نسبة العاملين في ميدان البحث العلمي فتشير الإحصائيات إلى وجود 2.7 لكل عشرة آلاف عامل من اليد العاملة العربية، وهي نسبة ضئيلة إذا ما قوبلت بمثيلاتها في الولايات المتحدة 66 ، واليابان 58 ، وبريطانيا 036 .
ويعتبر الإنفاق على البحث العلمي إحدى المعضلات أمام تطور هذا البحث حيث أنه يحتاج أموالاً باهظة، لإعداد العناصر البشرية والتجهيزات كالمختبرات والحواسيب (كمبيوتر) وشبكة معلومات، وأجهزة ومعدات البحث ، ومكتبات ، ونشر ، وأجور عاملين وشراء المواد المستخدمة في الأبحاث، وغيرها من أوجه الإنفاق ، التي تبدو كبيرة أحياناً مما يتطلب تخصيص مبالغ تُنفق على البحث العلمي. وعلى الرغم من ذلك فإن العائد العلمي والمادي من هذه الأبحاث يكون –في الغالب- كبيراً أيضاً
وقد تطور الإنفاق على البحث العلمي في الدول الصناعية تطوراً سريعاً انعكس على أداء مؤسسات البحث العلمي في الدول الغربية واليابان
فإذا كان الحال كذلك فماذا عن الإنفاق على البحث العلمي في الدول العربية؟
إن ما تنفقه الدول العربية على البحث العلمي يتراجع كثيراً عما تنفقه الدول الصناعية بل بعض الدول النامية في صورة يرسمها (أنطوان زحلان) حين يذكر أن أفضل التقديرات لما ينفق على البحوث العلمية وتطويرها في كافة البلاد العربية قد يصل إلى مائتي مليون دولار تقريباً (أي خُمس بليون دولار) ، أو بمعنى آخر بنسبة 1 : 12 مما أنفقته أمريكا في هذا الميدان !!فهل تكفي هذه الأرقام لإيجاد بحث علمي يسهم في حل كثير من المشكلات التي تعيشها البلاد العربية ؟