ملامح العلاقة بين
ملامح العلاقة بين الشعر والسرد
محمد فائز جيجو
ظهرت الحاجة في عصرنا الحاضر نتيجة للسعي وراء مضامين جديدة في الشعرالعربي ، الى الاتكاء على اسلوب القص وترسيخ ظاهرة السرد الشعري او القصيدة الديالوجية المبنية على تقنيات درامية يسودها الحوار بانواعه والمتعددة صوتيا، هذه القصيدة التي لا تكتفي بسرد المتكلم، وإنما تجمع صوته بأصوات أخرى، وبمظاهر سردية متنوعة ما بين رؤية من الخلف أو رؤية مشاركة، أو خارجية تلجأ إلى توظيف تقنيات محايثة كالاسترجاع والتناص والمفارقة والتلاعب بالضمائر :
رسم الطفل بيتاً،
وأنشأ للبيت مدخنةً
وتأمَّلها..
(كان ينقصها حزمةٌ من دخانٍ)
فأطلق منه دخاناً،
دخاناً كثيفاً..
(إذن ها هو البيت..)
( لا .. !)
فتوقف ثانية وتأمل..
(لم يكمل البيت..
لابد للبيت من شجرٍ حولهُ ،
وسياج ،
ولابّد..)
قالت له طفلة :
واسعٌ وجميل هو البيت
لولا السياج.
سامي مهدي / الأسئلة ـ 165
فنحن اليوم في زمن اصبح فيه تداخل الاجناس الادبية بعضها مع البعض الاخر شيئا مألوفا ، لا يثير الاستغراب ، ولا يحط من شأن اي جنس ادبي يستعير تقنيات اجناس ادبية او فنية اخرى مغايرة له ، فحّتى وقت قريب كان من غير المرغوب فيه أن تقترب لغة القصّة من لغة الشعر ،أو العكس ، ولهذا فان الحدود المنظورة ،وغير المنظورة ، والتي أقامها النقد بين الأجناس الأدبّية المختلفة ، حالت – حتى وقت قريب من دونَ تناولها بشكل شامل ، فلكل جنس – من وجهة النظر هذه – خصائصه الجمالية ، ولغتهُ ومنهجهُ الخاصان ، اللذان لا يشاركه فيهما جنس آخر ، وإلى ذلك أشار (رينيه ويليك) بقوله: ” إنَّ التمييز بين الأنواع الأدبيّة لم يعد ذا أهمية في كتابات معظم كتّاب عصرنا، فالحدود بينهما تُعْبر باستمرار ، والأنواع تُخلط أو تُمزج ، والقديم فيها يُترك أو يحوّر وتُخلق أنواع جديدة أخرى إلى حدّ صار معها المفهوم نفسه موضع شكّ”مفاهيم نقدية : 376.
وأصبحت مجالات الدرس النقدي توظف جملة من المعطيات الفنية التي لم تكن- في يوم من الأيام- من معايير النقد للنص الشعري، كالسردية الشعرية، والبنية الحوارية، والبنية الدرامية، والتناص، والرؤية والتشكيل، والمؤلف، والراوي وتعدد الضمائر والأصوات، وما سوى ذلك من تقنيات ومصطلحات استعارتها القراءة النقدية الحديثة للشعر من حقول عديدة، كالموسيقا، والرسم، والبناء، والهندسة، إضافة إلى الرواية، والمسرحية، والحكاية، والسينما، وما سوى ذلك من فنون كانت- وفق الرؤية الكلاسيكية- منفصلة عن بعضها البعض، ضمن نظرية فصل الأنواع عند أرسطو وتلامذته؛ فجاءت الدراسات الحديثة لتمزج الأنواع مزجا مريبا مربكا- أحيانا- ومجددا معمقا في أحيان أخرى، وتطلق على المنتج المتناول عبارة “نص” من دون تفريق بين شعر ونثر؛ فتداخلت مع هذا المسمى الجديد تسميات اقتضتها العمليات الإجرائية للنقد، كالبناء والحوارية والتناص .
إن استخدام الرمز والأسطورة والاستعارة، وتحطيم الحبكة التقليدية في الرواية (الجديدة) أدى إلى اقتراب السرد من الشعر والشعر من السرد إلى حد كبير ، فالحداثة في الشعر استطاعت أن تلغي المسافة بين الذاتي والموضوعي ، من خلال المزاوجة بين الغنائية والدرامية في النسق التعبيري للبناء الشعري ، متجاوزة النمط التقليدي القائم على الانفعالية والتقريرية والمباشرة .
” كُلَّما أصغيتُ للحجرِ استمعتُ إلى
هديلِ يَمامةٍ بيضاءَ
تشهَق بي:
أخي! أنا أُخْتُكَ الصُّغْرى،
فأَذرف باسمها دَمْعَ الكلامِ
وكُلَّما أَبْصَرْتُ جذْعَ الزّنْزَلخْتِ
على الطريق إلى الغمامِ،
سمعتُ قلبِ الأُمِّ
يخفقُ بي:
أنا امرأة مُطلَّقةٌ،
فألعن باسمها زيزَ الظلامِ
وكُلَّما شاهدتُ مرآةً على قمرٍ
رأيتُ الحبّ شيطاناً
يُحَمْلِقُ بي:
أنا ما زلْتُ موجوداً
ولكن لن تعود كما تركتُك
لن تعود، ولن أعودَ
فيكملُ الإيقاعُ دَوْرَتَهُ
ويشرَقُ بي… “
محمود درويش الاعمال الكاملة
سنجد ايضا أن خلف كل عمل أدبي ، أو فني مهما كان .. قصة ما ، وليس وراء كل قصيدة فحسب ، بينما الذي يعنينا هنا ، هو حضور القصة وتقنياتها ووسائلها التعبيرية في القصيدة ، وحسن توظيف الشاعر كل هذه الأنسام التي تهب على حقله من حقول مجاورة في تصنيع عطره الخاص ، وبعبارة أخرى تعنينا تلك الاستعانات التي تتخذ مظاهر سردية في الشعر بعد أن تنصهر في بنيتهِ (-حاتم الصكر ، مالاتجده الصفة ، المقتربات اللسانية والأسلوبية والشعرية ، دار كتابات ، بيروت 199 ،
ويحيلنا نصّ (سعدي يوسف) الذي يحمل عنوان (تحت جدارية فائق حسن) إلى نوع من التمازج في الصورة المكانية المستمدة من لوحة تشكيلية منتزعة من الواقع لتجسيد فضاء مكاني مفتوح ذي معالم محددة ، ومدركة: ـ
ـ تطير الحمامات في ساحة الطيران . البنادق تتبعها ،
وتطير الحمامات . تسقط دافئة فوق أذرع من جلسوا
في الرصيف يبيعون أذرعهم..
……………………
وإذ يقف الناس في ساحة الطيران جلوساً ،يبيعون
.أذرعهم : سيدي قد بنيت العمارات .. أعرف
.كلّ مداخلها ، وصبغت الملاهي .. أعرف ما يجذب الراقصين
إليها ، ورقمت مستشفيات المدينة … أعرف
حتى مشارحها ، سيدي … لِمَ لا تشتري ؟ إنَّ كفّي
غريبة.
(تحت جدارية فائق حسن – 149.)
اذ بدأ الشعر يتخلّص من قيود الوزن والقافية ، ويسبح في فضاء حرّ فاقترب من تخوم السرد ، ونحى السرد إلى التحرّر من جدّيّته ومنطقيّته الزائدة ، ومال إلى النهايات المفتوحة وتعدّد مستويات المعنى ، فاقترب من سموات الشعر ، التَبس النصّان يبعضهما ، حتّى غدا عسيرا على البعيد عن المشهد الأدبيّ التفريق بينهما . أن نجاح قصيدة (الأرض اليباب) لـ (ت . س. اليوت) كان قد ارتبط بخروجها على الجمهور وهي مرتدية شكلاً جديداً عبر اضفاء عناصر الدراما على بنيتها الشعرية ،فكل قصيدة هي دراما صغيرة ، كما يقول الناقد كلينث بروكس ، لأنها تقومُ على صوتٍ يحاور نفسه ، أو(أنا) تحاور العالم في حوارها مع نفسها .ويتضّمن الشعرُ من عناصر السرد ما يصلهُ بفن القص ،على مستوى تجسيد الشخصّية ، أو التصوير الخاطف للحوادث والمشاهد – د. جابر عصفور ، مجلة فصول ، المجلد الخامس عشر ، العدد الثالث ، خريف 1996، القاهرة ، ص5 هناك شعراء لهم القدرة على الحكي إلى جانب القدرة على نظم الشعر، وهؤلاء إذا ما مالوا إلى كتابة الرواية استطاعوا إضفاء مسحة شعرية على المحكي الروائي يمتاز بتوظيف تقنيات الشعر واستعمال العواطف الجياشة للتعبير عن العمل الفني ، والشعرُ كما يؤكّدُ قراؤهُ ودارسوه على صلةٍ وثيقةٍ بالكثير من الفنون ، فالصور البيانّيةُ تمدُّ قناةً دافقةً بينهُ والتصوير أو الرسم ،والإيقاعُ – وهو سمةُ جوهرّية في الشعر- يشدُّ أواصرهُ إلى الموسيقى بشكلٍ عام ، وبنيتهُ- مهما تنّوعت وقامت على جمالياتِ الوحدةِ أو التجاور- تربطهُ بالهندسةِ المعماريّة بشكلٍ أو بآخر ، ويصلهُ توُتره بالدراما على أساس مافيه من تصارع داخلي بينَ العناصر والمكوّنات ( ينظر الدكتورثائر زين الدين / الشعر الحديث يستعير تقنيات السرد / منتدى القصة 2006 ) :
-الليل ، والسوق القديم
خفتت به الأصوات إلا غمغمات العابرين
وخطى الغريب وما ثبث الريح من نغم حزين
في ذلك الليل البهيم
الليل، والسوق القديم ، وغمغمات العابرين؛
والنور تعصره المصابيح الحزانى في شحوب،
ـ مثل الضباب على الطريق ـ
من كل حانوت عتيق
بين الوجوه الشاحنات ، كأنه نغم يذوب
في ذلك السوق القديم .
السياب ، أزهار وأساطير ـ 21 وما بعدها ولعلنا لا نختلف مع أحد الدارسين حين يشير ، أن معظم ” القصائد التي فتنتنا .. ورسمت مشهدها الجميل وحضورها البهي على الملأ ، نهلت جميعها من القصة أروع ما يسند أرومتها ، وما ينسرب مغذياً أفنانها من نسغ معتبر دافئ “- موفق نادر ، مجلة الكويت ( سابق ) ، ص 65 .وأن الشعر بمختلف تصنيفاته وأقسامه ( غنائي ، ملحمي أو قصصي ، أو سواه ) سعى دائماً إلى الإفادة مما تمتلكه القصة ، من مشاهد حركية ، وقدرة على خلب لب القارئ ، أو السامع بالتشويق وبحضور الشخصيات ، والتفنن في رسمها ، ورسم المكان الذي تتحرك فيه ، وتخترقه بالأحداث التي تصنعها ، ولقد ذهب أحد هؤلاء الدارسين إلى أن ” وراء كل قصيدة قصة هي ( المثير ) أو الدافع لها ، ونلاحظ أن عناصر القصة في قصيدة ما هي المحرك الأساسي للشعر – وحتى القصائد المفرطة في الرواية والغنائية ، كقصائد عمر بن أبي ربيعة ، أو قيس بن الملوح ، أو خمريات أبي نواس ، أو زهديات أبي العتاهية – كلها تحكي قصصاً من نوع مختلف ، هي قصص العشق ، وقصص الاجتماع ، وقصص الدين ” (-د. حسين خمري ، الظاهرة الشعرية العربية ( سابق ) ، ص 65 .
وفي تجربة الشعر الدرامي المعاصر ثمة إمكانات هائلة استثمرها الشعراء ليصلوا بالسرد الشعري إلى مدى أوسع وآفاق أرحب، ومن يقرأ قصائدهم يجد قصائد كثيرة تؤكد هذا الحضور السردي الشعري :
لا عرش لي
لأفيءْ اليه واستظلُ .
عزّ القريب ..
ولم يعد في الاهل اهلُ .
انىّ اتجهتُ ..
ارى جهات الارض قاطبة
تضيق بمقلتيّ وتضمحلُ .
هدروا دمي طلبا لثأر سابق
طفل انا ….
ودمي على الاشجار كهلُ .
لي بين وديان الغيوم
مدينة عطشى ..
وفوق القمة العزلاء نزلُ .
لي نجمة ثكلى
تنام على الرصيف
وسفح واد
سلّموه دمي .. وسهلُ .
لي دمية ..
قصوا ظفائرها وعاثوا
في دموع الامهات وكم احّلوا …
طمس الدروب لكي تضيع دروبنا
غرباء في اوطاننا
ابدا نظلُ .
( ليث فائز الايوبي / جريدة الاتحاد العراقية 2011)
مفهوم السرد
يتسم الحكي باحتوائه على قصة ما ، تضم حوادثاً معينة ، اما السرد فهو الطريقة التي تحكى بها تلك القصة بصيغ متعددة ، ويفترض بالقصة المحكية وجود شخص يحكي يدعى راويا او ساردا ، وشخص يحكى له يدعى مرويا له او قارئا ، فالقصة في مفهوم السرد اذن لا تتحدد فقط بمضمونها ولكن أيضا بالشكل أو الطريقة التي يقدم بها هذا المضمون .
يميز توماتشفسكي بين نمطين من السرد :” سرد موضوعي وسرد ذاتي ، ففي نظام السرد الموضوعي يكون الكاتب مطلعا على كل شيء ، حتى الافكار السرية للابطال ، اما في نظام السرد الذاتي فاننا نتتبع الحكي من خلال عيني الراوي ( او طرف مستمع ) متوفرين على تفسير لكل خبر : متى وكيف عرفه الراوي او المستمع نفسه ” نظرية المنهج الشكلي ، ترجمة ابراهيم الخطيب مؤسسة الابحاث العربية 1982 ص 189 .
من الناحية التاريخية تشترك الرواية ايضا مع الملحمة بأن الاخيرة تكتب شعرا وتتناول الاشياء الخارقة للعادة حيث تكون شخصياتها عبارة عن ابطال وفي الرواية مجرد كائنات عادية ” لان كل الاعمال الدرامية بما فيها تلك التي لا نلمح أي سارد فيها توحي بصورة ضمنية بوجود مؤلف يتوارى في الكواليس ، اما انه مخرج ، واما انه عارض للعرائس واما انه يكون كما يقول جيمس جويس ( اله ) محايد ينظف اظافره بصمت ، وان هذا المؤلف الضمني يظل ابدا مختلفا عن الانسان الحقيقي ، ساعيا في كل رواية ناجحة الى انشاء صورة مثلى او متناهية السمو ، لهذا الانسان الحقيقي نفسه ، فكل رواية خارقة تجعلنا نعتقد بوجود مؤلف نؤوله على انه ضرب من الانا الثاني وكثيرا ما يقدم الينا هذا الانا الثاني صورة للانسان بالغة الصفاء والطهر والرقة والذكاء بل اشد احتراما من الحقيقة نفسها ” عبد الملك مرتاض / في نظرية الرواية ص 13
اما عناصر السرد فيمكن حصرها بالنقاط التالية :
1- الراوي ( الرؤية ) بمستوياته : راو خلفي ، راو مشارك وهو الشاعر ، / البطل ، الراوي ( الشخصيات )
2- اللعب بالضمائر ( من الغائب للمخاطب ، من المفرد الى جمع المتكلم … الخ )
3- الحدث / الحوادث : سواء اكانت صغيرة ام كبيرة ويرتبط بها اختفاء وظهور الافعال .
4- الزمن : باشكاله ( الملحمي – الاسطوري – الميقاتي – الموضوعي - الفني )
5- الوصف : مع تثبيت او تحريك عنصر الزمن .
6- تعدد الخطاب : وتحوله الى حوار داخلي او خارجي وتعدد الاصوات والحوار .
7- تحديد المكان .
8- تعريف الشخصيات بصفاتها وافعالها وباسمائها .
9- الخروج على الايقاع والمجاز والاستعارة .
10- التنظيم السردي .
11- الايقاع العروضي لما يحتويه من زمن ، وهذا ما يؤكده التنوع العروضي للبحر الواحد ما بين تام ومجزؤ ومشطور ومنهوك ان هو في النهاية الا استجابة لعنصر الزمن .
وهو ما أشار إليه رولان بارت(في رؤيته لأنواع السرد في العالم بأنها لا حصر لها، وأن كل مادة تصلح لكي تتضمن سردا، “فالسرد يمكن أن تحتمله اللغة المنطوقة شفوية – كانت أم مكتوبة – والصورة ثابتة كانت أم متحركة، والإيماء، مثلما يمكن أن يحتمله خليط منظم من هذه المواد، والسرد حاضر في الأسطورة وفي الحكاية الخرافية، وفي الحكاية علي لسان الحيوانات، وفي الخرافة وفي الأقصوصة والملحمة والتاريخ والمأساة والدراما والملهاة والبانتوميم، واللوحة المرسومة، وفي النقش علي الزجاج، وفي السينما الكومكس، والخبر الصحفي التافه ،وفي المحادثة، وفضلا عن ذلك فإن السرد بأشكاله اللانهائية تقريبا حاضر في كل الأزمنة وفي كل الأمكنة وفي كل المجتمعات فهو يبدأ مع تاريخ البشرية ذاته، ولا يوجد أي شعب بدون سرد (- رولان بارت : التحليل البنيوي للسرد _ ( ترجمة حسن بحراوي، بشير القمري، عبد الحميد مقلد_ سلساة ملفات 1992/1- منشورات اتحاد كتاب المغرب- طرائق تحليل السرد الأدبي- 1999- ص9 .وللسرد الشعري ثلاثة اشكال او ضمائر اوردها الدكتور عبد الملك مرتاض بشكل مفصل في كتابة القيم ( نظرية الرواية ) حبث يتم استعمالها :
1- استعمال ضمير الغائب ال (هو) : يعد ضمير الغائب في الاستعمال السردي الشعري والروائي على حد سواء ، اداة للسرد المألوف واكثر الضمائر المعنية بالسرد تداولا في المتن الحكائي ، وايسرها استقبالا لدى المتلقين ويكاد يكون سيد الضمائر السردية الثلاثة ، واكثرها شيوعا سواءا المكتوب او الشفوي ، يتوارى خلف هذا الضمير سارد عليم ، فيمرر ما يشاء من اراء وطروحات وافكار وتوجيهات بطريقة لا تبدو مباشرة او صارخة ، ويغدو على هذا النحو بعيدا مترفعا عن العمل السردي وكأنه مجرد ناقل للحكي وراو له ، بفضل هذا ال (هو) العجيب ، اذ يتيح له عدم الوقوع في فخ “الانا” الذي ربما يقود الى سؤ فهم عندما لا يتم فصل أنا الكاتب عن أنا السردي ، وفصل زمن الحكاية عن زمن الحكي ، ويبدو ان استعمال ضمير الغائب يتيح ( للشاعر ) او الروائي اتخاذ موقع الراوي العليم المطلع والملم بتفاصيلها والمسيطر على الحوادث التي يسردها ، يحكي اولا ويحاكي لاحقا ويتسم بالحياد . ويكمن السبب في استعمال ضمير الغائب الى كون هذا الاسلوب في السرد هو اتاحة اكبر قدر من الحرية امام السارد من ابداء وجهة نظره اتجاه بؤرة الحوادث ، وتبني هذه الفكرة او تلك او رفضها دون أي اقحام لشخصية السارد ، هذا السارد الذي تكمن مهمته في دفع الحكي الى الامام انطلاقا من الماضي .
2- ضمير المتكلم ( الأنا ) : يسعى هذا الضمير لتحقيق رغبة السارد في كشف عما في طيات نفسه وتعريتها ، وحالة من حالات ذوبان السارد في المسرود ، عازيا السرد الى نفسه منطلقا من الحاضر الى الوراء ، ويحيل الى الذات فهو يمتلك قدرة عجيبة في ازالة الفروق الزمنية والسردية بين مسار الشخصية والزمن ويمتلك قدرة استنباط وتحكم لايوصف في مجاهل النفس البشرية واعماق الروح ولاسيما في حالة (المناجاة ) . بينما يؤكد رولان بارت ان ضمير المتكلم اقل سردية من ضمير الغائب ، بحيث يجعل القاريء ينسى (الشاعر ) المؤلف حينما يذوب في نسيج العملية السردية ويذوب مع الشخصيات الاخرى ، ولا يعرف من تفاصيل ما سيحدث مستقبلا الا ما تعرفه الشخصيات الاخرى ، مؤديا الى الغاء وجوده لعدم قدرته على التفرد عكس الراوي العليم او ضمير الغائب .
3- ضمير المخاطب ( انت ) : هو الضمير الذي يتوجه الى ……. مخاطبا القاريء الضمني او البطل او الحيز ، وقد عرف في الشعر بمخاطبته البطل ممدوحا كان ام مهجوا . ( انظر د . عبد الملك مرتاض ” نظرية الرواية ” عالم المعرفة / الكويت 1998 ص 153- 163
لكن ثمة سؤال يتوارد كثيرا بين الباحثين والمتابعين للشأن الشعربي المعاصر ، مفاده ،، هل هل هناك علاقة طردية بين توظيف التقنيات القصصية في الشعر وضعف الشاعرية ؟ بحيث يتم الاستعاضة من قبل الشاعر غير المتمكن من أدواته الشعرية ببعض العناصر السردية رفعا لقيمة نصه ، وهل القصة تستجلب إلى الشعر من أجل تمتين الوحدة العضوية وإضفاء شيء من التماسك على النص الشعري؟ مما قد يدفع بعض الشعراء للجوء إلى السرد، رغبة في تقوية وتماسك نصوصهم الشعرية، وانــتشالها من التفكك والعادية. غير مدركين أن ذلك ليس بالأمر الهين، إذ قد لا تعدو المحصلة أن تكون قصا منظوما ، أما ذوو الشاعرية القوية، فهم ليسوا بحاجة إلى إسناد نصوصهم من التهاوي، اذ نجدهم ينزعون أحيانا إلى توظيف بعض تقنيات السرد، سعيا وراء التنويع الأدائي، وارتياد آفاق جديدة للقول الشعري، وإضفاء حركية وتجاذبية داخل نصوصهم.