من آل نعم - عمر بن
من آل نعم - عمر بن أبي ربيعة
مقدمة
الشاعر:
ولد عمر بن عبدالله بن أبي ربيعة المغيري المخزومي، سنة 23 ه في
الليلة التي قتل فيها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على الأرجح، ولا يعرف
بالتأكيد مكان مولده، فيقال أنه ولد باليمن، كما يقال أنه ولد بالمدينة.( 1) وكما اختلف
في ميلاده اختلف في سبب وفاته أيضًا، فقيل أنه غزا في البحر، فأحرقت سفينته
ومات، وقيل إن امرأة دعت عليه لأنه ذكرها في شعره، فهبت عليه ريح، وجرحه
غصن شجرة استتر بها، فمات( 2). وقيل أنه أصيب في آخر حياته بالبرداء (الملاريا)
.( فانتقل الى اليمن عند أخواله ومات سنة 93 ه( 3
نشأ عمر في المدينة نشأة الترف والجاه، وكان له من الجمال والمال ما فتح
له أبواب الملاهي على مصراعيها، وكان شديد الولع بالنساء. انتقل عمر الى مكة،
وفيها واصل حياته اللاهية، مستغ ً لا مواسم الحج للقيام بمغامراته مع النساء، إلا أنه
.( تاب في أخريات حياته وتنسك( 4
وقد تميز شعر عمر بن أبي ربيعة عن غيره من الشعراء في أنه الشاعر
الوحيد الذي صور لنا حياته الاجتماعية، لاسيما الناحية التي تتعلق بالمرأة وصلته
بها، وبذلك يعد شعره خير مصدر لدرس المرأة الحجازية في عصره من حيث
.( عاداتها وأخلاقها ولبسها وتفكيرها( 5
- 1 د. فايز محمد: ديوان عمر بن أبي ربيعة، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى 1412 ه -
. 1992 م، ص 7
. - 2 المرجع السابق، ص 8
- 3 د. يوسف شكري فرحات: ديوان عمر بن أبي ربيعة، دار الجيل ، بيروت، الطبعة الأولى 1412 ه -
. 1992 م، ص 8
. - 4 د. فايز محمد: مرجع سابق، ص 8
.9- - 5 د. يوسف شكري فرحان: مرجع سابق، ص 8
5
ويعد عمر بن أبي ربيعة أسبق الشعراء الى التخصص، فهو يكاد يقتصر في شعره
على موضوع واحد وهو المرأة( 6). كما يتميز شعر عمر أيضًا بكثرة السرد
القصصي، وقد أدى هذا السرد القصصي به الى جعل القصيدة وحدة كاملة، بحيث
يصعب تقديم بيت على آخر، فأدى الى وجود الوحدة العضوية في قصائده وهذا أمر
.( جديد على الشعراء( 7
. - 6 المرجع السابق، ص 9
. - 7 المرجع السابق، ص 9
6
القصيدة
تعد القصيدة الرائية (أمن آل ُنعم) من أشهر قصائد عمر بن أبي ربيعة، وفيها
تتوفر أكثر خصائصه الشعرية. وقد نظمها في امرأة اسمها " ُنعم" قيل إنها من ولد
أبي سفيان بن حرب، وقيل إنها امرأة كتم شخصيتها وأشار اليها باسم نعم( 8). وفيها
يروي إحدى مغامراته العاطفية، في قالب قصصي جميل توفرت فيه عناصر القصة
القصيرة بمفهومها المعاصر من مقدمة ووسط ونهاية وعقدة وحل. كما أن القصيدة
غنية بالصور النابضة الحية التي تصور الحياة الاجتماعية في زمن الشاعر خير
تصوير.
لكل تلك الأسباب وقع اختيارنا عليها لندرس من خلالها خصائص شعر
الغزل عند الشاعر الأموي عمر بن أبي ربيعة – رحمه الله.
. - 8 المرجع السابق، ص 193
المفردات
-1 غاد: سائر غدوة، مبكر: سائر بكرة، الرائح: السائر في الرواح أي العشية،
المهجر: السائر في الهاجرة وهي وقت شدة الحر.
-2 ُتعذر: تنفي العذر.
-3 مقصر: من أقصر عن الشئ إذا كف عنه وامتنع.
-4 نأيها يسلي: بعدها ينسي.
-5 وأخرى: أي وعقبة أخرى، النهى: العقل، ترعوي: ترجع عن غيك.
-6 يتنمّر : يثور ويغضب.
-7 يسر لي الشحناء: يضمر لي الحقد.
-8 ألكني بالسلام: أوصل السلام، يشهر: يذاع، ينكر: يستنكر.
-9 مدفع أكنان: اسم موضع.
-10 المدرى: المشط.
-11 أطريت نعتًا: أحسنت الثناء والوصف.
-12 السرى: السير ليلا، التهجر: السير في الهاجرة عند اشتداد الحر.
-13 حال: تغير.
-14 عارضت: قابلت، يضحى: يسير في الضحى، يخصر: يبرد.
-15 جواب أرض: أي يجتاز الأرض وينتقل من مكان الى آخر، فلوات: جمع فلاة
وهي الصحراء الواسعة، أشعث: متلبد الشعر لطول عهده بالغسل، أغبر: في لون
وجهه غبرة.
-16 المطية: كل ما يمتطى ويركب، الرداء المحبر: الثوب ال مزين.
-17 ظل غرفة: ظل قصر تسكنه، ريان: أي بستان أخضر.
-18 والٍ: زوج.
-19 ذي دوران: اسم موضع، جشمتني: كلفتني، المغرر : الذي يعرض نفسه
للهلاك.
-20 شفًا: حرف كل شئ وحده، وبتُّ على شفًا: على حذر، يطوف: يتنقَّل.
11
-21 اللبانة: الحاجة، أوعر: شديد الخشونة.
-22 قلوصي: ناقتي الفتية، العراء: الفضاء، رحلها: حملها، طارق ليل: سائر لي ً لا،
معور: ظاهر.
-23 المصدر: الرجوع.
-24 الريا: الرائحة الطيبة.
-25 فقدت الصوت: أي سكن الحي، ُ شبت: أوقدت، أنور: جمع نار.
-26 قمير: تصغير قمر، ر وح رعيان: عاد الرعيان مساء بمواشيهم، نوم سمر: نام
الساهرون.
-27 الحباب: الحية، ركني: جسمي، أزور: مائل.
-28 تولَّهت: صرخت بوله وحسرة.
-29 عضت بالبنان: عضت على إصبعها، ميسور أمرك أعسر: أي أن الأمور
اليسيرة عندك هي من أعسر ا لأمور.
-30 أريتك: أخبرني، هنَّا عليك: سهلنا عليك، وقيت: وقاك الله،
حضر: حاضرون.
-31 سرت بك: جعلتك تسير لي ً لا.
-32 ما عين من الناس تنظر: أي لم يرني أحد.
-33 لانت: هدأت، أفرخ روعها: خف قلقها وارتاحت، كلاك: حفظك.
-34 أبا الخطاب: كنية عمر، غير مدافع: غير مزاحم، ما مكثت: مدة مكوثك،
مؤمر: لك الامر.
-38 يمج: يبعث،الثنايا: أسنان مقدم الفم، الغروب: ماء الثغر وبريقه، مؤشَّر: محزز
الأسنان.
-39 تفتر عنه: تبتسم، حصى برد: حبوب البرد.
-40 ترنو: تنظر، الخميلة: الموضع الكثير الشجر، الجؤذر: ولد البقرة الوحشية.
-41 توالي نجمه: بقية نجومه، تتغور: تغور وتختفي.
-42 هبوب: يقظة من النوم، عزور: جبل بين مكة والمدينة.
-43 راعني: أخافني، ترحلوا: هلموا الى الرحيل، أشقر: منور بالشمس.
12
-45 أباديهم: أظهر لهم وأجاهرهم بالعدوان، أفوتهم: أنجو منهم، فيثأر: يثأر لهم
مني.
-46 الكاشح: المبغض، يؤثر: ينقل.
-49 ترحبا: تتسعا، أحصر: أضيق، أي أضيق به صدرًا.
-50 كئيبًا: مغمومة، ليس في وجهها دم: صفراء، تذري: تسكب، عبرة: دمعة،
تتحدر: تتساقط.
-52 الأمر للأمر يقدر: يهيأ، ويدبر.
-53 أقلي: خففي، الخطب أيسر: الأمر أسهل.
-54 المطرف: رداء موشَّى، الدرع: قميص المرأة، البرد: ثوب مخطط.
-55 يفشو: يشيع ويفتضح.
-56 مجنِّي: ترسي، شخوص: أشخاص، كاعبان: مثنى كاعب وهي الفتاة التي نهد
ثديها أي الفتاة في أول البلوغ، معصر: المرأة البالغة الشابة.
-57 أجزنا: قطعنا.
-58 دأبك: ما تدأب عليه وتثابر، سادرًا: غير مهتم بما يصنع، ترعوي: ترجع عن
غيك.
-59 امنح طرف عينيك غيرنا: أي تظاهر بأنك تقصد غيرنا.
-61 العتاق: الكريمة الأصيلة، الأرحبيات: الإبل المنسوبة الى أرحب.
-62 النشر: رائحة الفم، الريا: الرائحة الطيبة.
13
الشرح
:5- الأبيات 1
يسائل الشاعر نفسه قائ ً لا لها: أإلى حي آل ُنعٍم تغدو مبكرًا أو تروح في
الهاجرة، بسبب حاجة في نفسك تكتمها عن الناس ولو كنت بحت بها لأقمت عذرًا
لنفسك. وأنت تحن وجدًا الى نعم فلا شملك مجموع بها، ولا أنت تكف عن حبها.
وقرب نعم غير نافع لك لأنها مع جماعتها، وكذلك بعدها لم يجعلك تنساها، ولا أنت
تستطيع الصبر عنها. وهناك عقبة أخرى تحول دون الوصول الى نعم، ويتمنى على
من يمنعون ذلك لو يعودوا عن غيهم ويسمحوا باللقاء.
:18- الأبيات 6
ثم يذكر الشاعر أنه إذا زار ُنعمًا يعبس أقاربها في وجهه، لأنه يصعب عليهم
أن ينزل ببيتها، هم يضمرون له البغضاء ويظهرونها. ولذلك فهو يطلب من رسوله
أن يحمل رسالته إليها، لأنه زيارته لها ُتستنكر وُتستغرب. ويطلب من الرسول أن
يجعل علامة صدق رسالته إليها أن يذكرها بقولها حين رأته في (مدفع أكنان)
مخاطبة أختها وقد أشارت إليه بمشط كان في يدها: أهذا الذائع الصيت ؟ أهذا
المغيري المشهور؟ أهذا الذي بالغت في وصفه حتى اشتقت للقائه ولم أكن أنساه
حتى أموت؟ فقالت أختها: نعم، ولكن لا شك أن كثرة أسفاره في الليل والهاجرة هي
التي غيرت لونه، فقد تغير حاله عما كنا نعهده عليه. فقد رأت رج ً لا لا يستقر له
مكان، فهو يظهر للشمس ويبرز إذا توسطت السماء، وفي الليل يبرد بسيره فيه.
رجل قضى عمره مسافرًا يجوب الصحارى حتى أضناه السير والسهر فأصبح
متفرق الشعر، مغبر الوجه لا يركن الى الراحة والدعة. لا يظله شئ على ظهر
المطية من الحر والبرد إلا ما يوفره له ثوبه المزين. وهي مقيمة في بيتها بين
أشجار وارفة الظلال خضراء. يكفيها زوجها أو القائم على أمورها مؤونة الحياة،
ويوفر لها كل احتياجاتها فلا تهتم لشئ.
14
:40- الأبيات 19
ثم يروي مغامرته ليلة ذي دوران، حين تجشم عناء المشي لي ً لا ليصل الى
محبوبته، حتى إذا شارف على مضاربها بات مراقبًا للقوم محاذرًا من يأتي منهم
ويذهب، ومنتظرًا أن يخلدوا الى النوم، وهو في موقع وعر ما كان ليحتمل مقامه
فيه لولا حاجة نفسه. وبات مع ناقته الفتية في موقع واضح لمن يأتي في الليل أو
يمر به.
وأخذ الشاعر يتساءل بينه وبين نفسه عن خيمة محبوبته وكيف يستدل عليها،
إلا أن رائحة عطرها المميزة دلت قلبه على مكانها، كما أن هواه قد دله عليها دون
أن يشعر. ولما خفتت أصوات القوم، وأطفئت الأنوار تأهبًا للنوم، وغاب القمر،
وعاد الرعيان بالأغنام الى الخيام، ونام ال س مار، حين حدث كل ذلك انسل الشاعر
من مخبئه كما تنسل الأفعى، ومشى مائ ً لا حتى لا يتنبه اليه أحد من القوم. ثم فأجأ
الشاعر حبيبته بالسلام، فأظهرت الحزن، وعضت على أصبعها قائلة: لقد فضحتني،
وأنت رجل أيسر أمورك صعب وعسير، ألم تخف من أعدائك المحيطين بي ؟ فهل
حاجة عاجلة أتت بك رغم وجود الأعداء، أم أنك أمنت منهم لأنهم نائمون؟ فطمأنها
أن أحدًا لم يشعر بقدومه إليها، وهنا هدأت نفسها، ودعت له أن يحفظه الله من
أعدائه، وأسلمت قيادها له، وجعلت له الأمر عليها طول مكوثه معها.
ثم يقص علينا الشاعر كيف بات قرير العين وقد نال حاجته من محبوبته،
وبات يقبل فاها، حتى شعر أن الليل قصير، وكانت لياليه طويلة قبل ذلك. وبات
فمها الجميل ذو الثنايا البراقة المحززة التي تشبه البرد، بات يفوح بالرائحة الطيبة
التي تشبه ريح المسك. وهي ترنو إليه بعينين جميلتين تشبه عيني ابن البقرة
الوحشية.
:56- الأبيات 41
ولما كاد الليل أن ينقضي، وكادت نجومه أن تغور، أشارت إليه محبوبته بأن
موعد استيقاظ القوم قد حان، وأن عليه أن ينصرف الآن وأعطته موعدًا للقاء في
( عزور). وبينما هما كذلك إذ صاح منادي القوم بالرحيل، وقد بدأ ضوء الصبح
15
يلوح في الأفق. وهنا سألته محبوبته عن رأيه في الأمر، فقد تنبه القوم من نومهم،
وسوف يفتضح أمرهما إن رأوه. فقال لها الشاعر: أرى أن أظهر لهم وأواجههم فإما
أنجو منهم، وإما أن يأخذوا ثأرهم مني. إلا أنها اعترضت عليه قائلة إن هذا
التصرف سوف يؤدي الى افتضاح أمرها وإلى أن تصدق أقوال الذين يبغضونها
ويروجون عنها الإشاعات. وقالت له إن هناك رأيًا آخر يبقي أمرهما سرًا، وهو أن
تستشير أختيها في الأمر وتطلب منهما مساعدتهما في حل هذه المعضلة التي ضاقت
بها صدرًا، ولم تدر كيف تتصرف بشأنها. ثم قامت ووجها أصفر من الحزن،
وعيناها تدمعان. فجاءت فتاتان عليهما لباس من الحرير، فقصت عليهما ما هما فيه،
وطلبت معونتهما لهذا الزائر، فخافتا في البداية ثم أخذتا تهدآن من روعها، وتقولان
لها إن الأمر أيسر مما تظن. واقترحت الأخت الصغرى أن تعطي الشاعر قميصها
ورداءها ليتنكر فيهما، ويخرج ماشيًا بينهم فلا يتنبه إليه أحد. وهكذا كان، وخرج
الشاعر يمشي بين ثلاثة أشخاص، كن له ترسًا ووقاية ممن يخافه ويخشاه، وهن
فتاتان كاعبان، وامرأة شابة.
:62- الأبيات 57
فلما تجاوزن به ساحة الحي، وأصبحوا بمنأى عن عيون القوم، أخذن يلمنه
ويعنفنه قائلات له: ألم تخف من الأعداء في هذه الليلة المقمرة ؟ أهذه عادتك دائمًا لا
تهتم ولا تبالي بما تصنع ؟ أما تستحي أو تعود عن غيك أو تفكر في عواقب الأمور
؟ وطلبن منه إذا قدم مرة أخرى أن يوجه نظره الى غيرهم حتى يظن أنه لا
يقصدهم. وهكذا كان آخر عهده بمحبوبته ُنعم حين تركته منصرفة، إلا إنه استوقفها
قائ ً لا لها، بينما كانت الإبل المنسوبة الى أرحب ُتحرك للرحيل: هنيئًا لأهلك أيتها
العامرية ما يجدونه من طيب رائحتك الذكية التي لا أنساها أبدًا.
16
الدراسة والتحليل
-1 المضمون
أ- الأفكار والمعاني:
لقد بنى الشاعر قصيدته ورتبها ترتيبًا منطقيًا متسلس ً لا، وتحققت في هذه
القصيدة الوحدة العضوية، حتى أنه ليصعب أحيانًا تقديم بيت على بيت. فقد بدأ
الشاعر قصيدته بالحديث عن حبه لُنعم وهيامه بها، وعدم استطاعته نسيانها رغم
بعدها عنه، كما أن قربها منه لم ينفعه لأن جماعتها محيطة بها. وذكر كيف أنه إذا
زارها أظهر له أقاربها الغضب، وأسروا له البغضاء.
ثم يطلب من رسوله أن يحمل رسالته إليها، ويجعل علامة صدقه، الحوار
الذي دار بينهما حين تقابلا للمرة الأولى في (مدفع أكنان)، وكيف كان أشعث أغبر
من أثر السفر في أعقاب من يحب. وكل هذا يعد مقدمة لموضوع القصيدة، وهو
وصف مغامرته لزيارة محبوبته ُنعم.
ثم يصل الشاعر الى موضوع القصيدة، ويبدأ في سرد وقائع ما جرى له ليلة
ذي دوران. وهنا تبدأ القصة بمقدمة، ووسط، ونهاية، وعقدة وحل، متحققة فيها
معظم شروط القصة القصيرة بمفهومها المعاصر. وفي هذه القطعة يصعب تقديم
بيت على آخر، إذ الأحداث متسلسلة والوقائع مترابطة. وتنساب الأبيات في سلاسة
وتحدر، يخلو من التعقيد والغموض.
ويعد الشاعر مبتكرًا في الأسلوب القصصي إذ إنه توسع فيه، وأكثر منه في
شعره. وإن كان امرؤ القيس قد سبقه الى استخدام أسلوب الحوار، إلا إن لعمر
بصماته الخاصة على هذا الأسلوب حيث توسع فيه وأكثر منه وطوره. ومن مظاهر
الجدة والابتكار تحقق معظم مقومات القصة u1575 القصيرة، في القصيدة.
فقد بدأ الشاعر قصته بمقدمة رائعة، وصف فيها كمونه في مكان صعب،
يراقب من خلاله القوم منتظرًا أن يخلدوا للنوم، ووصف كيف استدل على خبائها
متتبعًا رائحة عطرها المميزة. ثم وصف كيف انتظر حتى هدأ الصوت وغاب
القمر، وآب الرعيان، وأخلد القوم للنوم.
17
ثم تبدأ أحداث القصة حين فاجأ محبوبته بالسلام، وكيف خافت إذ رأته من أن
يفتضح أمرهما، وكيف بات قرير العين معها حتى كاد الصبح أن يبزغ.
ثم تصل العقدة إلى ذروتها حين انتبه القوم من النوم، ونادى مناديهم
بالرحيل، وهنا اسقط في يدي المحبوبة، ولم تدر كيف تتصرف، وأشار هو أن يناجز
القوم فإما نجا وإما ُقتل.
وأخيرًا يأتي الحل من الأخت الصغرى ممث ً لا في أن يتنكر الشاعر في ثياب
امرأة، ويخرج بين الأخوات حتى يغادر الحي في أمان. وهكذا نرى أن شروط
القصة القصيرة بمفهومها المعاصر قد تحققت تحققًا كام ً لا تقريبًا في هذه القصة
الشعرية، مما يعد من عوامل الابتكار والجدة في القصيدة.
والأبيات سهلة واضحة، تنساب في سلاسة، وتخلو من الغموض والتعقيد.
والقصيدة تعتمد على الخيال كثيرًا. ورغم أن الشاعر حاول أن يقنعنا بأن أحداث
قصته كلها قد جرت على مسرح الواقع، فإننا لا نستطيع الجزم أن أحداثها كلها
حقيقية. ولكن لابد لنا من الاعتراف بقدرة الشاعر على إسباغ طابع الواقعية على
القصة. فقد شرح الشاعر بالتفصيل خطوات القصة ومراحلها، وأجاب عن كثير من
الاستفسارات التي قد تمثل ثغرات في جدار القصة، مثل: كيف استدل على خباء
محبوبته؟ فأجاب بأن رائحة عطرها المميزة بالإضافة الى هواه هما اللذان دلاه على
مكانها:
فدل عليها القلب ريا عرفُتها لها وهوى النفس الذي كاد يظهر
ويبدو أثر الإسلام واضحًا في القصيدة في سلاسة ألفاظها، إذ ابتعدت عن
الألفاظ الوحشية الغريبة الشائعة في القصيدة الجاهلية. كما يبدو أثر الإسلام في
بعض الألفاظ التي اكتسبت دلالات خاصة في الإسلام مثل قوله:
كلاك بحفظ ربك المتكبر
فالمتكبر من أسماء الله الحسنى التي لم تكن معروفة في الجاهلية. كما يظهر أثر
الإسلام في بعض الخصال التي أمر بها الإسلام وحثَّ عليها، مثل ضرورة إلقاء
السلام عند اللقاء، وذلك في قوله:
فحيت إذ فاجأتها
18
ومثل أن الزوج هو الذي يتحمل أعباء الحياة فلا يكلف زوجته أي عناء، وذلك في
قوله:
ووالٍ كفاها كل شئ يهمها.
وفي القصيدة كذلك إشارات الى العادات الإسلامية التي تمنع الرجل من
الدخول على النساء، وكيف دخل الشاعر خلسة وخرج متخفيًا حتى لا يلحظه القوم،
وكيف أن خروجه متنكرًا في زي النساء حماه من القوم، وذلك أن الرجال يغضون
أبصارهم عن النساء وبالتالي لم يفطنوا إليه وهو يمشي متنكرًا بين الفتيات الثلاث.
19
ب - الدلالات النفسية:
تتغير الدلالات النفسية في القصيدة بتغير الحالات التي تحكيها الأبيات. ففي
مطلع القصيدة تبدو عاطفة الحزن مسيطرة على الشاعر وهو يحكي حبه لُنعٍم وعدم
استطاعته نسيانها أو بلوغ حاجته منها، حتى أصبح أشعث أغبر لطول سفره وتنقله
متتبعًا لها باحثًا عنها. وتتلاءم الألفاظ مع هذه الحالة، فنجد ألفاظًا تدل على هذا
الحب اليائس مثل: تهيم، الشمل جامع، الحبل موصول، القلب مقصر، نأيها يسلي،
أنت تصبر..الخ.
كما نجد ألفاظًا تدل على قلقه وترحاله بحثًا عمن يحب، مثل: غاد، مبكر،
رائح، مهجر، سرى الليل، التهجر، يضحى، يخصر، أشعث، أغبر..الخ.
وحين يبدأ الشاعر في وصف مغامرته ليلة ذي دوران، نجد في البداية
مشاعر الحذر واليقظة وهو يقف على مشارف الخيام ينتظر خلود القوم للنوم.
وتتلاءم الألفاظ مع هذه الحالة الحذرة مثل: رقيبًا، على شفا، أحاذر، أنظر إليهم،
متى يستمكن النوم منهم.. الخ.
كما نجح الشاعر في وصف قلقه ولهفته لرؤية من يحب، حيث أخذ يتساءل
عن خبائها، وكيف يستدل عليه، وكيف يصل إليها؟ وكيف دلَّ ه قلبه على مكانها
وساعدته رائحة عطرها المميزة على ذلك. ثم كيف انساب إليها بعد ما نام القوم كما
تنساب الأفعى.
وحين التقى بمحبوبته أصبحت مشاعره مشاعر فر ٍ ح وسعادة، حيث استجابت
حبيبته له، وأنالته ما يطلب، فبات قرير العين، يقبل فاها فيكثر، حتى أن الليل
انقضى بسرعة دون أن يشعر بمروره، لولا أن نبهته محبوبته الى انقضاء الليل
وحلول موعد استيقاظ القوم.
وحين استيقظ القوم حلَّت مشاعر الخوف والقلق والخشية من افتضاح
أمرهما. وقد تظاهر الشاعر بالشجاعة، وطلب من محبوبته أن تسمح له بمناجزة
القوم والظهور لهم، وليكن ما يكون. ولكن هذا الرأي لم يلق ترحيبًا من ُنعٍم، وكان
الشاعر على يقين من أنها لن تقبل بهذا الحل خوفًا من افتضاح أمرها، وإنما كان
يهدف إلى أن يبدو أمامها في صورة الشجاع الفارس. وقد نجح الشاعر في تصوير
20
مشاعر القلق على المحبوبة، كما في قوله: بما كنت أحصر، فقامت كئيبًا ليس في
وجهها دم، ُتذري عبرة تتحدر.
وحين اجتازوا الحي، ونجا الشاعرمن القوم، ونجت محبوبته من الفضيحة،
تغيرت المشاعر والحالة النفسية للفتيات الثلاث، فأخذن يلمنه ويعنفنه. وهذه حالة
طبيعية لمن ينجو من مأزق بعد أن ظن أنه لن ينجو، فإنه يتوجه باللوم والتقريع لمن
تسبب في هذا المأزق. وهنا نجد العاطفة عاطفة ثورة وغضب على الشاعر، وإن
كانت هذه الثورة مغلفة بالسرور والرضى، فلم يكن عتاب الفتيات للشاعر لكي لا
يكرر ما حدث منه، بل لكي يكون أكثر حيطة في المرة القادمة. ولهذا طلبن منه إذا
قدم مرة أخرة أن يتوجه ببصره الى غيرهن حتى يظن أنه لا يقصدهن.
ولسعادة الشاعر بهذه الزيارة أو بالأحرى بهذه المغامرة، فإنه د ونها وخلدها
في شعر يتلى ويردد على طول الزمن. والقصيدة تعبر خير تعبير عن مذهب عمر
بن أبي ربيعة اللاهي الذي لا يبالي ما يلقى في سبيل بلوغ لذَّاته، ولقاء من يحب.
كما تصور القصيدة عشق عمر الحسي، فهو لم يتحدث عن محبوبته حديث العاشق
الولهان، وإنما تحدث عن الصعاب التي واجهها في سبيل وصوله إليها. وحين لقيها
لم يكن همه إلا أن يقبلها فيكثر. وكذلك حين غادرها لم يتذكر منها إلا طيب أنفاسها
ونشرها اللذيذ. والمرأة عنده مجرد نهد وشهوة "كاعبان ومعصر" فالكاعب هي الفتاة
في أول البلوغ حين ينهد ويكعب ثديها، والمعصر الشابة قال ابن الأَثير: المعصر
.( الجارية أَول ما تحيض لاْن عصار رحمها( 9
وقد استطاع عمر أن يصور هذه المغامرة تصويرًا رائعًا، وأن يصور
عواطفه خلال أحداثها تصويرًا ممتعًا جمي ً لا. وتبدو عواطفه فيها صادقة حارة، حيث
أحسن تصوير شوقه ولهفته للقاء ُنعٍم، وكيف تجشم الصعاب حتى يلقاها.
- لسان العرب مادة (عصر) 9
21
ج- الدلالات الاجتماعية:
القصيدة غنية بالدلالات الاجتماعية، ففض ً لا عن أن القصيدة تصور الحياة
الاجتماعية اللاهية التي كان يحياها الشاعر، التي ولاشك تصدق على كثير من
شعراء ذلك العصر، فض ً لا عن ذلك فإن القصيدة تصور كثيرًا من العادات
الاجتماعية المنتشرة في البيئة العربية في عصر عمر بن أبي ربيعة.
أما مذهب عمر ومن على شاكلته، فهو تعقب من يهوى، حتى يختلس لحظة
في غفلة عن أعين الرقباء يلقى فيها من يحب، فينال منها ما يشاء. وقد كان أسلوب
تبادل الرسائل شائعًا بين المتحابين:
ألكني إليها بالسلام
وتزويد الرسول بعلامة يستدل بها على صدق قوله، وغالبًا ما تكون حوارًا أو حكاية
جرت بين المتحابين لم يعلم بها سواهما:
بآية ما قالت غداة لقيُتها
وأما عادات المجتمع العربي آنذاك، فإن أول ما يواجهنا في القصيدة من هذه
العادات، هو الغيرة على المحارم. فالعربي لا يقبل لنسائه أن يلقين الأغراب، وهكذا
فإن أقارب ُنعٍم، لا يقابلون الشاعر بالترحاب حين يرونه يجوس خلال ديارهم لعلمهم
بغرضه في انتهاك محارمهم:
إذا زر ُ ت ُنعمًا لم يزل ذو قرابة لها كلما لاقيُته يتنمر
والتعبير بالتنمر، هو أقصى تعبير عن العدوانية والاستعداد للبطش، تشبهًا له بالنمر.
وأما المرأة العربية في ذلك العصر، فقد صورتها القصيدة بصورة المترفة
المنعمة. فهي تعيش في ظل "والٍ كفاها كل شئ يهمها"، ولذلك فلا يشغل بالها إلا
الاهتمام بزينتها، فالمشط لا يكاد يفارق يدها:
أشارت بمدراها
ولباسها هو الخز والدمقس:
كساءان من خز دمقس وأخضر
وعطرها مميز ومبالغ فيه، حتى إن الشاعر ليجعل منه دلي ً لا يقوده الى خباء
محبوبته، المختفية بين الخيام:
22
فدلَّ عليها القلب ريا عرفُتها
ولا حديث لهؤلاء الفتيات إلا عن الشباب المشهورين بجمالهم ووسامتهم:
أهذا الذي أطريت نعتًا فلم أكن وعيشك أنساه إلى يوم أُقبر ؟
وهذه الفتاة لا هم لها إلا أن تلقى من تحب، ولا ترى في ذلك بأسًا، إلا أنها تخاف
أن يراها أحد من أقاربها. ولذلك حين طمأنها الشاعر أنه قدم إليها "وما نفس من
الناس تشعر "، فإنها "لانت وأفرخ روعها". وإذ لم يطلع على سرها أحد، فلا شئ في
أن تلقى من تهوى وأن تنيله من نفسها ما يشاء:
فبتُّ قرير العين أُعطي ُ ت حاجتي أقبل فاها في الخلاء فأكثر
ولاحرج أيضًا من أن تطلع الفتاة أخواتها على سرها وعشقها، ويتعاون بعد ذلك في
حل المشكلة، كما حدث بين ُنعم وأختيها اللتين دبرتا للشاعر حيلة يخرج بها من
الحي دون أن يفطن إليه أحد.
ومن العادات العربية الأخرى إتخاذ الناقة وسيلة للمواصلات "وباتت
قلوصي"، وأن الأرحبيات هي أحسُنها وأشهرها. وكذلك ذكر بعض الملابس التي
كان يلبسها الرجال: "الرداء المحبر"، وذكر ملابس النساء وأدوات زينتها:
"المطرف، والدرع، والبرد، والمدرى". كما ورد ذكر بعض الحيوانات المعروفة في
البيئة العربية الصحراوية مثل الأفاعي: "مشية الحباب"، و"الظبية" و"الجؤذر". وكذلك
وصف بعض الأدوات التي كانت ُتستخدم في الحرب، وهو المجن :
فكان مجنِّي دون من كنت أتقي
كذلك هناك ذكر لبعض المواقع والأماكن، مثل "ذي دوران"، و"مدفع أكنان"،
و"عزور".
ومن العادات العربية الأخرى، مخاطبة الرجل بكنيته: "فأنت أبا الخ ّ طا ِ ب"،
ومخاطبة المرأة بقبيلتها: "هنيئًا لأهل العامرية نشرها". وكذلك عض الأصبع عند
الندم ووقوع المصيبة: "وعضت بالبنان".
ومن العادات العربية الخاصة بالسفر والترحال، استخدام الخيام للراحة
والتوقف أثناء السفر: "أين خباؤها". وكذلك التبكير بالسير قبل طلوع الشمس،
والمناداة بالرحيل:
23
فما راعني إلا مناد: ترحلوا وقد لاح معرو ف من الصبح أشقر
وكذلك اصطحاب الأغنام في السفر:
وروح رعيان
24
-2 الشكل
أ- الألفاظ :
زاوج الشاعر بين استخدام الأسماء والأفعال، وقد تغلب الأفعال على بعض
الأبيات بينما تغلب الأسماء على أبيات أخرى. وقد أدت كل من الأسماء والأفعال
وظيفتها، فعبرت الأسماء عن الاستمرارية والعادة، كما في قوله: غاد، مبكر، رائح،
مهجر, سرى الليل، التهجر..الخ. كذلك جاءت الأفعال مناسبة للسرد القصصي،
ووصف المغامرة: بتُّ، أحاذر، أناجي، دلَّ، غاب ..الخ.
وقد جاءت الألفاظ مطابقة لمعانيها مطابقة تامة. فقد نجح الشاعر في اختيار
الألفاظ التي تناسب المعاني التي أرادها. فحين أراد الحديث عن معاناته وتنقله خلف
محبوبته، جاءت الألفاظ مناسبة للمعنى ومطابقة له. فمن لك قوله: غاد، مبكر،
مهجر، سرى الليل، التهجر، أشعث، أغبر، أخا سفر، جواب أرض، تقاذفت به
فلوا ٌ ت.. الخ.
كذلك حين تحدث عن معاني الحذر والحيطة وهويراقب نوم القوم، جاءت
الألفاظ مناسبة لهذه المعاني، مثل: أحاذر، رقيبًا، بالعراء، فقد ُ ت الصوت، غاب
قمير، رّ وح رعيان، نوم سمر..الخ.
وكذلك مشاعر السعادة وهويلقى محبوبته جاءت الألفاظ مناسبة لها، مثل: بتُّ
قرير العين، أقبل، تقاصر طوله..الخ. وأخيرًا فقد جاءت الألفاظ مناسبة لمعاني
الخوف والقلق حين هب القوم من نومهم وكاد أمرهما أن يفتضح: راعني، كئيبًا،
ليس في وجهها دم، ُتذري عبرة.. الخ.
وقد وفق الشاعر الى استخدام الألفاظ ذات الدلالات المناسبة للحالة الشعورية
للشاعر. فحين وصف الشاعر تنقله وترحاله، استخدم ألفاظًا موحية مثل: "جواب
أرض"، فقد استخدم الشاعر هنا صيغة المبالغة للإيحاء بكثرة ترحاله وأسفاره،
وكذلك قوله: "أخا سفر"، فإنها توحي بالملازمة للسفر. وكذلك قوله: "يضحى،
ويخصر"، فإنهما توحيان بتتابع السفر لي ً لا ونهارًا.
وحين وصف الشاعر خروجه من الحي متنكرًا في زي امرأة، وهو يمشي
خلف الفتيات الثلاث، وصف الفتيات بالمجن، وهو وصف فيه كثير من الدلالة
25
والإيحاء. فقد كان الشاعر في حالة حرب مع أعدائه "الحضر"، فكان ذكر المجن،
وهو الترس الذي ُتتقى u1576 به الطعنات في القتال، مناسبًا للمقام. وكذلك الإشارة الى
الأختين بكلمة: كاعبان وهي مثنى كاعب والكاعب الفتاة التي َ كعب نهداها، فيها كثير
من الدلالة والمشابهة لكلمة "مجن". فالصدر الناهد الذي يسير أمام الشاعر، ليحميه
من أعين القوم، يشبه الى حد كبير الترس البارز أمام صدر الفارس.
كما نجح الشاعر في اختيار الألفاظ التي تخلق مشهدًا في ذهن السامع، وذلك
حين وصف ترقبه لنوم القوم، ومحاذرته أن يروه. فقد جاءت الألفاظ غنية بالصور
النابضة الحية، حتى كأننا نشهد مع الشاعر ما هو فيه. فمن ذلك قوله:
فلما فقد ُ ت الصوت منهم وأُطفئ ْ ت
وغاب ُقمير كنت أهوى غيوبه
مصابيح ُ شبت بالعشي وأن و ر
ور وح رعيا ن ون وم سم ر
فإننا نكاد نرى المشهد ماث ً لا أمامنا، فقد أُطفئت الأنوار، وخففت الأصوات، وعاد
الرعيان، ونام ال سمار، كل ذلك في تتابع يجعل المشهد يتحرك أمامنا ويتطور.
كما أورد الشاعر كثيرًا من الألفاظ المحاكية للمعنى، حتى أن كل حرف منها
يخال جزءًا من المعنى المراد، مثل قوله: "يتن م ر". فلفظة: يتن مر، لا تدل على التشبيه
بالنمر فحسب، ولكنها تجعلنا نكاد نرى النمر أمامنا، وقد كشَّر عن أنيابه، واستعد
للوثوب على فريسته.
ولقد أتت الألفاظ في مجملها سلسة سهلة، لا تكلف فيها ولا غريب، وإن
كانت لا تخلو من جزالة وتمكن من زمام اللغة. فمن الألفاظ الجزلة قوله: ألكني،
يخصر، اللبانة، مع ِ ور، أن ور، أفرخ روعها، يم ج، غروب، مؤشَّر، كا ش ح، كلاك..
الخ.
ويغلب على ألفاظ القصيدة الطابع الحضري، فالألفاظ مناسبة للحضارة، مثل
الملابس الجميلة: الرداء المحبر، الخ ز، والدمق س. وكذلك أدوات الزينة، مثل:
ال مدرى، والعطور النفاذة: "ريا عرفُتها". وإن كانت القصيدة لم تخلُ من بعض
الألفاظ البدوية، مثل: الفلوات، ال حباب، الظبية، الجؤذر، ال رعيان..الخ. ولكن هذه
26
الألفاظ أتت في ثوب جديد قشيب، مناسبة للمقام، وذات دلالات وإيحاءات كما
أشرنا، ولم تأت تقليلدية مبتذلة.
وقد قل الاقتباس من القرآن الكريم في القصيدة، فلا نكاد نجد ذلك إلا في
قوله: "ربك المتكب ر"، ففيه إشارة الى اسم من أسماء الله الحسنى التي وردت في
القرآن. أما الحديث الشريف فلا نجد أي اقتباس منه.
كذلك وردت بعض العبارات في القصيدة أطلقها الشاعر كالمثل السائر، ولكن
لا نستطيع الجزم إن كانت من الأمثال المتداولة المعروفة آنذاك، أم أن الشاعر قد
أتى بها بصيغته الخاصة. فمن ذلك قوله: "والمقالة ُتعذ ر"، وقوله: "والإنسان قد
يتغي ر"، وقوله: "أنت امرؤ ميسور أمرك أعس ر".
وجاءت المحسنات البديعية في القصيدة عفو الخاطر دون تكلف أو تعمد،
فأدت دورها في إبراز المعنى وتأكيده. فالتصريع في البيت الأول جاء طبيعيًا دون
تكلف، وقد أدى إلى تأكيد المعنى باستخدام كلمتي: مبكر، مه جر، بما فيهما من طباق
يزيد المعنى تأكيدًا ووضوحًا.
كذلك ورد الطباق في قوله: قرب ُنعٍم، ونأيها، وفي قوله: يس ر، مظه ر،
وقوله: يضحى، ويخصر، وقوله: مخفوض، وتجهر، وقوله: ميسور، وأعسر، ..
الخ وكلها جاءت طبيعية دون تكلف، مما أكد المعنى، وأبرزه، وزاده وضوحًا.
أما الجناس فلم يكثر منه الشاعر، وما ورد منه جاء عفو الخاطر دون تكلف،
مما ساعد على تأكيد المعنى وإبرازه. فمن ذلك قوله: نهى ذا الُنهى، وقوله: بالعراء،
و مع ِ و ر.
ب- التراكيب:
زاوج الشاعر في استخدامه للجملة الإسمية والفعلية، وذلك طبقًا للمعنى الذي
يريد تأكيده. فحين تحدث الشاعر عن طول أسفاره وترحاله، أكثر من استخدام
الجملة الإسمية للدلالة على الاستمرارية والملازمة، مثل قوله: غاد، مبكر، رائ ح،
مه ج ر، أخا سفر، ج واب أر ٍ ض، قليل على ظهر المطية ظلُّه.
27
كما استخدم الجمل الفعلية للدلالة على المبالغة، مثل قوله: تهيم، يسلي،
تصب ر، يتن م ر، يضحى، يخ صر... الخ. وكذلك للدلالة على الوصف، والسرد، مثل
قوله: زر ُ ت، رأت رج ً لا، دلَّ عليها القلب، بتُّ أناجي، فقد ُ ت الصوت، أُطفئت..الخ.
ولهذا فقد غلبت الجملة الفعلية عند حديث الشاعر عن مغامرته وزيارته لمن يحب.
وهو ما استغرق معظم القصيدة.
كذلك زاوج الشاعر بين الأسلوبين الخبري والإنشائي في قصيدته، ووردت
الأساليب الإنشائية مناسبة للمقام ولموضوع القصيدة. فقد بدأ الشاعر قصيدته
بالاستفهام، قائ ً لا: أ من آل ُنعٍم.. وهو سؤال تقريري الغرض البلاغي منه ليس
الاستفهام بل التأكيد والتقرير. كما ورد الاستفهام لأغراض مختلفة، وذلك في كثير
من الحوارات التي دارت في القصيدة.
فقد ورد الاستفهام لغرض الاستنكار، كما في قول ُنعم لأختها: أهذا ال م َ ش ه ر؟
أهذا المغيري؟ أهذا الذي أطري ت؟ وفي تكرار التساؤل دليل على الاستنكار، مما
أبرز المعنى الذي أراد الشاعر التأكيد عليه، وهو تغير حالته وهيئته. كما ورد
الاستفهام لغرض الاستنكار في قوله على لسان ُنعٍم: ألم تخف؟ أتحقيقًا لما قال
كاش ح؟ كذلك ورد الاستفهام لغرض التوبيخ والتأنيب، كما في قول الفتيات له: ألم
تتَّ ق الأعداء؟ أهذا دأبك الدهر سادرًا؟ أما تستحي أو ترعوي أو تفكر؟
وورد الاستفهام بصيغته الاستفهامية، كما في قوله: أين خباؤها؟ كيف لما آتي
من الأمر مصدر؟ أتعجيل حاج ة سرت بك؟ كيف تأمر؟ .. الخ
أما الأمر فلم يرد إلا قلي ً لا، كما في قوله: ألكني إليها بالسلام، وقوله على
لسان ُنعٍم: أشر كيف تأمر؟ أعينا على زائ ٍ ر، أقلي عليك اللوم، وقد ورد في كل تلك
المواضع مناسبًا للسياق.
وأما النداء فلم يرد إلا في قول ُنعم مخاطبة الشاعر: "فأنت أبا الخطَّاب"،
وقوله مخاطبًا إياها في آخر القصيدة: "يا ُنعم قول ً ة". وأما التعجب فقد ورد في موقعه
المناسب، حين وصف الشاعر ليلته في أحضان من يحب: "فيالك من ليل تقاصر
طوله!" "ويا لك من مله ى هناك ومجلس".
28
وقد أدى التنويع في استخدام الجمل الفعلية والإسمية، وكذلك التنويع في
استخدام الأساليب الإنشائية المختلفة إلى إثراء القصيدة، وتأكيد المعاني ووضوحها،
خاصة أنها جاءت ملائمة للمعاني والحالات الشعورية المختلفة.
ج الصور الفنية:
القصيدة غنية بالصور الفنية، من تشبيه واستعارة وكناية. فأما الكناية، فمنها
قوله: "أشارت بمدراها"، كناية عن استهزائها به، واستصغارها لشأنه. كذلك قوله:
"يضحى، ويخ صر"، كناية عن متابعته السير والترحال في النهار والليل. وقوله:
"ع ضت بالبنان"، كناية عن الندم ووقوع المصيبة. وكذلك قوله: "ليس في وجهها دم"
كناية عن الخوف والقلق. وقوله: "العتاق الأرحبيات ُتزجر"، كناية عن الاستعداد
للرحيل.
أما التشبيه فقد استخدمه الشاعر بأشكاله المختلفة. فهناك التشبيه المكتمل
الأركان، وذلك في قوله: "كأنه حصى برد أو أقحوان من ور"، تشبيهًا للأسنان بالبرد،
ولبياضها بالأقحوان، فأداة الشبه، والمشبه، والمشبه به، وكذلك وجه الشبه، وهو
النور، كلها متوفرة. وهذه الصورة حسية، حيث ركناها (المشبه والمشبه به) حسيان،
هي صورة حسية بصرية. وهناك التشبيه بالإضافة، مثل قوله: "مشية ال حباب"،
تشبيهًا لمشيته بمشية الأفعى. وهي أيضًا صورة حسية بصرية. وهناك تشبيه
التمثيل، وهو تشبيه حالة بحالة، وذلك في قوله:
وترنو بعينيها إلي كما رنا إلى ظبي ة وسط الخميلة جؤذ ر
فهو هنا يشبه إدامتها النظر إليه، بإدامة ولد البقرة الوحشية النظر إلى الظبية، فهو
تشبيه حالة بحالة، وهي أيضًا صورة حسية بصرية.
وأما الاستعارة، فهناك الاستعارة u1575 المكنية، ومنها قوله: "تقاذفت به فلوات"،
حيث شبه الفلوات بالأشخاص الذين يتقاذفون الشئ، وحذف المشبه به، ورمز إليه
بشئ من لوازمه وهو القذف. وهذه صورة حسية بصرية، فيها تشخيص للفلاة، مما
قوى المعنى وأكده، وكان أبلغ في التعبير عن كثرة ترحالة، وكأن الفلوات تتقاذفه
وتدفع كل منهن به إلى الأخرى.
29
ومنها قوله: "فدل عليها القلب ريا"، على سبيل الاستعارة المكنية، حيث شبه
الرائحة بالشخص الذي يدل آخر على منزل أو على طريق، وقد حذف المشبه به
وهو الإنسان ورمز إليه بشئ من لوازمه وهو الدلالة. وهذه صورة ذهنية، حيث
شبه الرائحة، وهي شئ ذهني غير محسوس، بشئ حسي. وكذلك قوله: "قادني
الشوق"، استعارة مكنية، حيث شبه الشوق بالإنسان الذي يقود. وهي صورة ذهنية،
حيث شبه الشوق، وهو شئ ذهني بصورة حسية.
وهناك الاستعارة التصريحية، مثل قوله: "يم ج ذك ي المسك"، حيث حذف
المشبه، وهو رائحة فمها، وصرح بالمشبه به، وهو ريح المسك. وهي صورة ذهنية
، حيث شبه رائحة فمها، وهو شئ ذهني، بالمسك.
وقد ع مقت هذه الصور المعنى وزادته وضوحًا. ووفق الشاعر في عرض
هذه الصور، وتسخيرها لخدمة الأغراض التي يقصدها، والمعاني التي يريدها.
د- الإيقاع الموسيقي:
استخدم الشاعر البحر الطويل، ليصوغ قصيدته عليه. ويعد البحر الطويل
أنسب البحور للقصص، وذلك لأن في خفاء جرسه، واعتداله، وطول َنَفسه ما يعين
على القصص( 10 ). و"عنصر القصص والنعت فيه من الطراز الذي يدعو السامع أن
.( يصغي ويتفهم قبل أن يهت ز ويرقص"( 11
والبحر الطويل يعد بحر الجلالة والنبالة والجد ( 12 ). و"قصيدة عمر على
عبثها جادة، فإن لعمر مذاهب في تصوير غرامه، فتارة يورده على سبيل الملح
والتظرف فيختار له البحور القصار، وتارة يشيد به ويفخمه، ويظهره مجرى الجليل
من الأعمال، وعندئذ يعمد إلى الطويل، ويتخير له ما يلائمه من جزالة اللفظ
.( ورصانته، وهذا ما فعله في الرائية" ( 13
- 10 عبدالله الطيب: المرشد الى فهم أشعار العرب وصناعتها، الجزء الأول، الدار السودانية، الخرطوم، الطبعة
. الثانية، بيروت، 1970 ، ص 368
. - 11 المرجع السابق، ص 368
- 12 المرجع السابق، ص 381
. - 13 المرجع السابق، ص 394
30
وقد استخدم الشاعر الراء المضمومة رويًا للقصيدة. والضمة حركة تشعر
بالأبهة والفخامة( 14 ). فهي، بذلك، مناسبة لطبيعة القصيدة الفخمة الجادة، كما بينا. أما
حرف الراء، فإنه يدل على القلق والاضطراب، وهو يتناسب مع الحالة النفسية
والمغامرة التي صاغ الشاعر u1602 قصيدته في جوها. فالجو الغالب على النص، هو جو
الحذر والقلق والتوتر، ولا يعيشه الشاعر وحده، وإنما يعيشه معه القارئ، أو
السامع، أيضًا وهو يتابع القصيدة ويتفاعل معها. وبذلك جاء الروي مناسبًا لغرض
القصيدة وموضوعها.
وقد وقع الشاعر في عيب من عيوب القوافي يعرف بالتضمين، وهو أن
ينتهي البيت بكلمة لا تستقل بذاتها، وإنما يكتمل معناها في البيت التالي. وقد وقع
هذا للشاعر في قوله:
فبتُّ رقيبًا للرفاق على شفا
إليهم متى يستمكن النوم منهم
أحاذر منهم من يطو ُ ف وأنظ ر
ولي مجلس لولا اللبان ُ ة أوع ر
فقوله: أنظ ر، لا يتم معناه إلا بالكلمة التي يبدأ بها البيت التالي: إليهم. إلا أن
"التضمين، لا يعد عيبًا كبيرًا، بل قد يستحسن وقوعه إذا كان الشعر قصصيًا آخذًا
بع ضه برقاب بعض" ( 15 ) كما في هذه القصيدة.
وبالإجمال، فقد جاءت الموسيقى، من وزن وروي، مناسبة لغرض القصيدة
وج وها، والحاله الشعورية الغالبة على القصيدة. وجاء البحر الطويل، بما فيه من
موسيقى خافتة تعين على القص والسرد، ولا تشغل ذهن السامع بموسيقى مجلجلة،
جاء مناسبًا ومطابقًا. كما جاءت الراء المضمومة مناسبة تمامًا للحالة الشعورية
الغالبة على النص، من قلق وترقب، مع مناسبتها لما في القصيدة من فخامة
ورصانة.
. - 14 المرجع السابق ص 69
. - 15 المرجع السابق، ص 41
31
الخاتمة
بعد هذه الجولة في ربوع رائعة عمر بن أبي ربيعة، لا يستطيع المرء أن
يكتم مدى إعجابه بها. فالقصيدة، بحق، تعد من عيون الشعر العربي، فقد وفق
الشاعر في صياغتها وحشد فيها كل طاقته الإبداعية.
والقصيدة تصور مذهب عمر بن أبي ربيعة في اللهو وتجشم المشاق في
سبيل الوصول إلى من يحب، كما تصور مذهبه الحسي في الغزل، خير تصوير.
كذلك تصور القصيدة أسلوب عمر بن أبي ربيعة الشعري، الذي يقوم على أسلوب
القص والحوار، والسلاسة اللفظية والبعد عن الغريب والوحشي من الألفاظ.
ويظهر مذهب عمر بن أبي ربيعة الغزلي في القصيدة. فمن ذلك إعجابه
بنفسه، وسعي الفتيات خلفه، وذكرهن له في خلواتهن. ويظهر ذلك في قوله:
أهذا المش ه ر؟ أهذا المغيري الذي كان يذكر؟
أهذا الذي أطري ت نعتًا فلم أكن وعي ش ك أنساه إلى يوم أُقب ر؟
فأنت أبا الخطاب غي ر مداف ٍ ع.. إلخ.
كذلك يشيع في القصيدة، أسلوب الحوار الذي يتميز به شعر عمر بن أبي
ربيعة، وأسلوب السرد القصصي، الذي توسع فيه عمر وأكثر منه، حتى تفوق في
ذلك على امرئ القيس، الذي استخدمه قبله.
وفي هذه القصيدة بالذات، u1578 تحققت كثير من عناصر القصة القصيرة بمفهومها
المعاصر، من بداية ووسط ونهاية، وعقدة وحل. وقد أشرنا إلى ذلك في صدر هذه
الدراسة. وبذلك تعد هذه القصيدة من بواكير القصص في الأدب العربي.
وقد نجح الشاعر، باستخدامه هذا الأسلوب القصصي، في تشويق القارئ أو
السامع، وجعله يتابع القصيدة باهتمام ولهفة لمعرفة ما سيقع من أحداث. وقد وفق
الشاعر في تشويق القارئ، قبل بدء المغامرة، وهو يراقب القوم ويتخذ الإحتياطات
اللازمة، وكذلك بعد وصوله لمن يحب، وبعد استيقاظ القوم، وحتى نجا منهم. كل
ذلك في أسلوب شائق متتابع، يشد القارئ، أو السامع، ويجعله يتابعه حتى النهاية.
32
وقد وفق الشاعر، كذلك، في ربط الشكل الفني للقصيدة بالمضمون، وجاءت
الألفاظ والتراكيب، والصور الفنية، مطابقة للمعاني، والدلالات النفسية، والشعورية.
وأخيرًا، فقد أحسن الشاعر اختيار الروي والوزن الشعري المناسب لغرض
القصيدة، وموضوعها. حيث اختار البحر الطويل الملائم للشعر القصصي، واختار
الراء المناسبة لجو المغامرة من ترقب وحذر، وجعلها مضمومة والضمة مناسبة
لفخامة القصيدة ورصانتها.
33
المصادر والمراجع
-1 عبدالله الطيب (الدكتور): المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها، الجزء
الأول، الدار السودانية، الخرطوم، الطبعة الثانية، بيروت، 1970 م.
-2 فايز محمد (الدكتور): ديوان عمر بن أبي ربيعة، دار الكتاب العربي، بيروت،
الطبعة الأولى 1412 ه- 1992 م.
-3 يوسف شكري فرحات (الدكتور): ديوان عمر بن أبي ربيعة، دار الجيل ،
بيروت، الطبعة الأولى 1412 ه - 1992 م.