وظيفة الشّعر في ال
وظيفة الشّعر في النقد العربي القديم ـــ د.وليد إبراهيم قصّاب*
منذ عُرف الأدب طُرح السؤال عن وظيفته، وهو سؤال قديم حديث، مُثَار في آداب الأمم جميعها، وعُدّ البحث فيه ضرباً من البحث في قيمة الأدب، وشرعية وجوده. وإذا ثبت مثلاً أنه نشاط عديم الجدوى، أو أنه لا يؤدي هدفاً ما؛ انتفى ـ عند قوم ـ مسوِّغ وجوده، أو نُظر إليه على أنه نشاط متدنٍ، لا يعدو أن يكون ضرباً من المهارة اللفظية، والتنوُّق الكلامي، اللذين لا طائل من ورائهما.
واختلفت الآراء في وظيفة الأدب، فارتبطت باتجاهات فكرية، ونفسية، واجتماعية وغيرها. ولكن جِماع الآراء المختلفة التي طرحت في بيان وظيفة الأدب انطلقت من منزعين اثنين:
ـ أحدهما: يذهب إلى أن الفن عموماً ـ والأدب فرع منه ـ وظيفته أن يعلم ويهذّب، ويأرب بتحقيق هدف اجتماعي، إصلاحي، إعلامي، فهو أداة نافعة إن أُحسن تجنيدها في خدمة المجتمع وتربية النشء.
ـ وثانيهما يرى أن الفن للمتعة والإطراب، وهو مجرد عن الغاية النفعية، يَنْشُد الجمال، وتسلية النفس، من غير أن ينهض ـ أو يطلب منه النهوض ـ بأية وظيفة اجتماعية أو خلقية، وقد ينطوي نشدان الجمال وإبداعه على غاية ما وقد يتجرّدان منها، ولكن الفن ـ في جميع أحواله ـ لا يضع في حسبانه مثل هذه الغاية، ولا يسأل عنها.
وقد يغلو أصحاب هذا الاتجاه، فيذهب بعضهم إلى حدّ القول إن النفعية تفسد الفن: قال تيودور جوتييه: "إن الأشياء تبدو جميلة بنسبة عكسية للمنفعة(1)".
وذهب قوم إلى الجمع بين غايتيْ المنفعة والمتعة، ورأوا أن إحداهما لا تتحقق إلا بوجود الأخرى، فربط ناقد مثل سدني بين الفنان والجمهور حين ألحّ على الغاية، وقال ـ هو وطائفة من أضرابه ـ: "إنما هَمّ الشاعر أن يعلّم ويمتع، ولذلك ذهب سدني في دفاعه عن الشعر إلى البحث في كل نوع منه وتقديره بالنسبة لأثره، فالشعر البطولي سيّد الأنواع الشعرية لأنه أقدرها على إذكاء الرغبة في العقل ليطمح إلى المعالي(2).."
وقد طرحت هذه القضية في تراثنا الأدبي مثلما طرحت في آداب الأمم الأخرى، وعرف النقد العربي المنازع السابقة جميعها.
ويتوفّر هذا البحث على دراسة وظيفة الشعر عند العرب في الجاهلية وفي الإسلام، ليبرهن على قضية معينة وهي أن أغلب الوظائف خلقية تعليمية ذات طابع نفعيّ، فالعرب ـ في الأغلب الأعمّ ـ لم تنظر إلى الشعر على أنه فن مجرد عن الهدف، غايته التنميق اللفظي، أو التشكيل الجمالي، أو الإمتاع والإطراب المجردان، بل ارتبط الشعر عندهم، بشكل واضح.
ـ كما سيكشف عن ذلك البحث ـ منذ نشأته، وحتى تطوره ـ في فترات الإسلام المختلفة ـ بغايات لا تجرِّد الشعر من الوظيفة، أو تجعله ـ على نحو ما ترى في بعض المذاهب الغربية ـ شعراً للشعر، أو فناً للفن، بل كانت أهمية الشعر، ومكانة الشاعر، تنبعان من طبيعة الدور الذي يؤديه، والغاية التي يأرب بتحقيقها.
ولقد اهتمّ النقد الأدبي عند العرب بالشعر خاصة؛ لأنه رأس الفنون الأدبية عندهم، وهو ديوانهم الحقيقي، وإذا كانت الوظيفة الخلقية ـ في جوانبها المختلفة كافة ـ شديدة الوضوح في الشعر؛ فإنها ـ من غير شكل ـ في النثر أوضح؛ إذ الشعر أقرب إلى الجموح، وأوغل في الخيال، وأبعد في الهيمان والانطلاق حتى وقر في نفوس قوم أن "أعذب الشعر أكذبه" وحتى وجدنا واحداً مثل سارتر ـ وهو من دعاة الأدب الملتزم ـ يعفي الشعر من الالتزام، ويخصّ به النثر.
وظيفة الشّعر في الجاهلية:
تحدَّثنا مصادر الأدب حديثاً لا يكاد ينتهي عن وظائف الشعر في الجاهلية، وعن منزلة هذا الفن فيهم، وعظم أثره في حياتهم، وهي جميعاً وظائف تمثّل المنحى الخلقي النفعيّ، وتصّور الشعر نشاطاً حيوياً فعّالاً، وطاقة خيّرة مؤثرة، بل هو السّلاح الإعلاميّ في هذا المجتمع البدائيّ:
ـ الشاعر يحامي عن القبيلة، ويدافع عنها بالقول المؤثّر النفّاذ، فكأنه صحفي هذا الزمان، أو رجل الإعلام في مواقعه المختلفة، يمجّد القبيلة، ويدافع عن سياستها، ويشيد بمآثرها وأعمالها، ويصوّر قوتها، ويهاجم الخصوم المتطاولين عليها، مشكلاً بذلك جهاز ردع، يرهب العدو، ويخيف الخصم.
قال أبو عمرو بن العلاء مصوّراً فرط حاجة العرب إلى الشعر "الذي يقيّد عليهم مآثرهم، ويضخّم شأنهم، ويهوّل على عدوهم ومن غزاهم، ويهيّب من فرسانهم، ويخوِّف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيره فيراقب غيرهم(3).."
وقال النهشلي في بيان هذا الدور الذي يؤديه الشعراء، وهو "ذبهم عن الأحساب، وانتصارهم به على الأعداء(4).." وذكر ابن رشيق في العمدة نماذج من الشعر الذي قيل في الدفاع عن القبيلة، والانتصار لها من الخصوم تحت عنوان "باب احتماء القبائل بشعرائها(5)".
ـ والشاعر مسجّل للمفاخر والمآثر، ومؤرِّخ للفضائل والأمجاد، والشّعر عندئّذٍ كالملحمة البطولية، يدوّن تاريخ القبيلة، ويتغنى بانتصاراتها، ويسجّل الأحداث العظام لتكون معلماً وهادياً للأجيال القادمة، يتعلمون منها المجد والشرف، ويرضعون لبان النخوة والمروءة. قال ابن رشيق: "كان الكلام كلّه منثوراً، فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها، وطيّب أعرافها، وذكر أيامها الصالحة، وأوطانها النازحة، وفرسانها الأنجاد، وسمحائها الأجواد؛ لتهزّ أنفسها إلى الكرم، وتدلّ أبناءها على حسن الشيم، فتوهّموا أعاريض جعلوها موازين الكلام، فلمّا تمّ لهم وزنه سمّوه شعراً، لأنهم شعروا به، أي فطنوا..(6)"
وقال ابن قتيبة: "وللعرب الشّعر الذي أقامه الله تعالى مقام الكتاب لغيرها، وجعله لعلومها مستودعاً، ولآدابها حافظاً، ولأنسابها مقيّداً، ولأخبارها ديواناً، لا يرِثّ على الدهر، ولا يبيد على مرّ الزّمان(7)..."
وأثنى ابن سلام على لبيد فقال: "كان في الجاهلية خير شاعر لقومه، يمدحهم، ويرثيهم، ويعدّ أيامهم ووقائعهم(8).."
ـ والشاعر حكيم، والشعر مستودع الحكمة، وكتاب التربية، يصلح النفس ويهذبها، ويربّيها على القيم الفاضلة، والأخلاق الحميدة، ويزجرها ـ في الوقت نفسه ـ عن الأفعال الدنيئة، يقبّح البخل فيحملها على السّخاء، ويسفّه الجبن فيحملها على الجود، وينفّر من الفواحش والمنكرات ومذموم الخصال، فتشبّ النفس على الفضيلة، وتسمو في مدارج الرفعة و الخير.
والشعراء عندئذٍ أساتذة للفضيلة، هداةٌ مصلحون، بناة مرشدون، يجعلون سبل المكارم ممهودة لاحبة، ويرسمون المثل الرفيعة التي ينبغي أن تحتذى.
قال العلوي: "إن الشعراء يحضّون على الأفعال الجميلة، وينهون عن الخلائق الذميمة، وإنهم سنّوا سبيل المكارم لطلابها، ودلّوا بناة المحامد على أبوابها(9).."
ولارتباط الشعر بالحكمة كانت العرب ـ كما ذكر السّيوطي ـ لا تعدّ الشاعر فحلاً حتى يأتي ببعض الحكمة في شعره، فلم يعدّوا أمرؤ القيس فحلاً حتى قال:
والله أنجحُ ما طلبتَ به والبرُّ خيرُ حقيبة الرجلِ
وكانوا لا يعدّون النابغة فحلاً حتى قال:
نّبئتُ أن أبا قابوس أوعدني ولا قرارَ على زأر من الأسدِ
وكانوا لا يعدّون الأعشى فحلاً حتى قال(10)..."
وظيفة الشعر تحدّد مكانته عُلْواً وسُفْلاً:
إن جليل الوظائف التي توفّر عليها الشّعر العربيّ حدّدت مكانته، وإن نهوضه بمثل ما نهض به من غايات خلقية، وتاريخية، وقبلية، وإعلامية لقمين حقاً أن يبوّئه في المجتمع العربي تلك المنزلة الرفيعة التي تبوّأها.
وقد حفلت المصادر القديمة بالحديث عن منزلة الشعر في نفوس العرب، وسيرورته فيهم، واحتفائهم بالشاعر، وفرحهم بولادته فيهم، وفي ربط ذلك كله بالوظيفة التي يؤديها.
قال النهشلي: "وكان الشاعر في الجاهلية إذا نبغ في قبيلة ركبت العرب إليها فهنأتها به، لذبّهم عن الأحساب، وانتصارهم به على الأعداء. وكانت العرب لا تهنئ إلا بفرس مُنْتج، أو مولود ولد، أو شاعر نبغ(11).."
وقال ابن رشيق: "كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعون في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان؛ لأنه حماية لأعراضهم، وذبّ عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم. وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تنتج(12)..."
وتحدَّث النهشلي عن منزلة الشعر عند العرب، وبيّن سبب ذلك فقال: "كانت العرب لا تعدل بالشعر كلاماً، لما يفخّم من شأنهم، ويُنْهي من ذكرهم(13).."
وبيّن أبو عمرو مكانة الشعراء عند العرب، فقال: "كانت الشعراء عند العرب في الجاهلية بمنزلة الأنبياء في الأمم(14).."
ولهذه المنزلة رفع الشعر ووضع، وخيفت ألسنة الشعراء، وكان لهم أسنان وأقدار، تُقبل شفاعتهم، وتكرم وفادتهم، ويُنزل عند قضائهم(15).
ومثلما كان جلال الدور الذي نهض به الشعر سبباً في سمو قدره، وتعظيم منزلة صاحبه؛ كان خروجه إلى أغراض سفيهة سبباً في انحدار مكانة الشاعر، وسقوط همته، وتقديم الخطيب عليه.
وذائع مستفيض في كتب التراث ما آلت عليه حال الشعراء من هوان بعد عز، وسُفْل بعد علو.
قال أبو عمرو متحدثاً عن انحدار مكانة الشاعر بسبب بعض الأعراض الدنيئة التي خرج إليها: "كان الشاعر في الجاهلية يقدّم على الخطيب لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيّد عليهم مآثرهم، و... فلما كثر الشعر والشعراء، واتخذوا الشعر مكسبة، ورحلوا إلى السُّوقة، وتسرّعوا إلى أعراض الناس؛ صار الخطيب عندهم فوق الشاعر(16)..."
إنّ امتهان وظيفة الشعر إذن، وتسخيره في أغراض دنيئة، كالتكسب، والاعتداء على الحرمات، وغير ذلك، هما السبب في سُفول أصحاب هذا الفن.
قال ابن رشيق: "وقالوا: كان الشاعر في مبتدأ الأمر أرفع منزلة من الخطيب لشدة حاجتهم إلى الشعر في تخليد المآثر، وشدّة العارضة، وحماية العشيرة... فلما تكسبوا به، وجعلوه طُعمة، وتولّوا به الأعراض وتناولوها؛ صارت الخطابة فوقه، وعلى هذا المنهاج كانوا حتى فشت فيهم الضراعة، وتطعّموا أموال الناس، وجشعوا فخشعوا، واطمأنت بهم دار الذلة، إلا من وقّر نفسه وقارها، وعرف لها مقدارها(17).."
وذكر الرازي ما آل إليه حال الشعراء، فقال: "صاروا أتباعاً بعد أن كانوا متبوعين.. وسألوا بالشعر، وتملقوا للملوك والخلفاء، وتضرّعوا إلى أهل الثروة والأمراء، ونزلوا عن رتبتهم، واستهان بهم الناس، وقلّوا في أعينهم، فجروا على ذلك في صدر الإسلام وبعد ذلك برهة من الدهر، نشأ فيهم شعراء مطبوعون لهم قرائح الأولين من شعراء الجاهلية والمخضرمين، واعتادوا المثالة، وجعلوها صناعة، فلما طال ذلك عليهم ملَّهم الناس، ونزرت العطايا، وماتت الخواطر، وغارت القرائح، وسقطت الهمم، وصار الشعر ضعيفاً هزلاً بعد أن كان حُكماً مقتدراً(18)..."
وقال المرزوفي في بيان تأخر رتبة الشعراء عن رتبة البلغاء، فذكر من ذلك "أنهم اتخذوا الشعر مكسبة وتجارة، وتوصّلوا به إلى السُّوَق كما توصلوا به إلى العِلْيَة، وتعرضوا لأعراض الناس، فوصفوا اللئيم عند الطمع فيه بصفة الكريم، والكريم عند تأخر صلته بصفة اللئيم، حتى قيل: الشعر أدنى مروءة السّريّ، وأسرى مروءة الدّنيّ(19).."
وذكر ابن رشيق بعض الشعراء الذين وضع الشعر من أقدارهم عندما سلكوا به مسلكاً غير نبيل، وخرجوا به عن الوظائف الخلقية التي عظمته العرب من أجلها، فقال:
"إن الشعر لجلالته يرفع من قدر الخامل إذا مدح به مثلما يضع من قدر الشريف إذا اتخذه مكسباً؛ كالذي يؤثر من سقوط النابغة بامتداحه النعمان بن المنذر، وتكسبه عنده بالشعر، وقد كان أشرف بني ذبيان. هذا وإنما امتدح قاهر العرب، وصاحب البؤس والنعيم. وكاشتهار عرابة الأوسي بشعر الشمّاخ بن ضرار.. وقدح ذلك في مروءة الشّمّاخ، وحطّ من قدره، لسقوط همته عن درجة مثله من أهل البيوتات وذوي الأقدار(20)..."
ثم نصّ ابن رشيق صراحة على أن الشعر ـ ما كان ملتزماً أغراضاً نبيلة، ويأرب بتحقيق وظائف جليلة ـ يزيد من قدر صاحبه، ولكن إذا خرج إلى أغراض السّفه، وارتكس في حمأة القول غير المسؤول، حطّ من قدر قائله، ودنّى منزلته. يقول: فأما من صنع الشعر فصاحة ولَسنا وافتخاراً بنفسه وحسبه، وتخليداً لمآثر قومه، ولم يصنعه رغبة ولا رهبة، ولا مدحاً ولا هجاء، فلا نقص عليه في ذلك، بل هو زائد في أدبه، وشهادة بفضله، كما أنه نباهة في ذكر الخامل، ورفع لقدر الساقط، وإنما فَضّل امرؤ القيس ـ وهو من هو؟ ـ لما صنع بطبعه، وعلا بسجته، من غير طمع ولا جزع(21).."
وقد جلّى القرآن الكريم بعد ذلك بأفصح بيان حال شعراء السَّفه هؤلاء، وشنّع عليهم، فوصفهم بأقبح وصف في قوله عزّ وجل(22):
والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كلّ وادٍ يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون واستثنى الصالحين الذين جندوا الشعر في أغراض خيّرة، فقال: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
وهكذا ارتبط الشعر في الجاهلية بأغراض خلقية نبيلة، وأدّى وظائف جُلَّى، فكان شعراً قبلياً جماعياً، نذر الشاعر فيه نفسه لخدمة القبيلة، والذّياد عنها، والإشارة بمآثرها وأحسابها وأفعالها المجيدة، وكان فيها معلماً هادياً، يبثّ القيم الفاضلة، ويشيد بالأخلاق الحميدة التي تهذب النفس، وتسمو بالمشاعر، وتنهى عن الأفعال الدنيئة، وتنفّر منها.
وبسبب التصاقه بوجدان الجماهير، وتجنّده في خدمة قضاياهم، وتحريه الصدق، علا شأنه في العرب، وسمت منزلته، ونُظِرَ إلى الشاعر على أنه مصدر الحكمة والحق، حتى قال قائلهم:
"كل حكمة لم ينزل فيها كتاب، ولم يُبْعث بها نبي، ذخرها الله حتى تنطق بها ألسن الشعراء(23)".
واحتكم العرب إلى الشعر في أمور حياتهم، فكان مسموع الكلمة، نافذ الرأي، قال ابن سلام:
"كان الشعر في الجاهلية عند العرب ديوان علمهم، ومُنْتَهى حكمهم، به يأخذون، وإليه يصيرون(24)".
وعلى أن هذا الفن الجليل الذي تبوّأ منزلة رفيعة بسبب جلال الوظائف التي أنيطت به، ما إن خرج عن هذه الوظائف الخلقية النبيلة، فجنّد في الباطن والسّفه، وروّج للفحشاء والمنكر، وصار مطية للنفاق والتكسب، وتناول الأعراض، وشبّب بالحرمات، حتى فقد مصداقيته، وسقط عنه وقاره وجلاله، وأصبح الشاعر كالبهلوان المهرج، يُضحك ويسلي، ولكنه لم يعد مصدر الحكمة، ولا مستودع الحق والخير كما كان، فتقهقرت مكانته، وغدا الخطيب أرفع منه شأناً(25).
وظيفة الشعر في الإسلام: هل تراجع في الإسلام إحساس النقد العربي بالدور الخلقي للشعر؟ وهل اختفى الحديث عن أغراضه النفعية، ووظائفه الاجتماعية، وخَلَص إلى الكلام على جانب المتعة فيه، وإلى الوقوف عند المناحي الجمالية وحدها، غير ملقٍ بالاً إلى المثل والقيم التي يتحدّث عنها، وإلى الأهداف والأغراض التي يمكن أن ينهض بها؟
إن استقراء نصوص النقد العربي يدلّ بجلاء على أن المنحى الغالب على هذا النقد أنه لم يجرّد الشعر عن وظيفته الخلقية. وإذا كان حكم عليه في أحيان غير قليلة أحكاماً جمالية تتناول النص من حيث هو إبداع فني متميّز؛ وتحكم على الشاعر من حيث مقدرته الإبداعية، فإن هذا لا يتناقض مع إحساس الناقد العربي ـ مهما كانت الفئة التي ينتمي إليها ـ بأن الشعر ذو وظيفة، وأنه لا يمكن أن يكون غاية في حدّ ذاته، أو يخلص إلى الإقناع والإطراب فحسب.
والحق أن الدور الخلقي للأدب قد تعمّق بمجيء (الإسلام) ذلك أن الكلمة ـ في المنظار الإيماني ـ أمانة ومسؤولية، وهي عظيمة الخطر، جليلة القدر، لا يستهين بها امرؤ مسلم، ولا يتعامل معها من غير روية واحتراز "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد" بل يفكر طويلاً قبل أن ينطق بها، واضعاً في حسبانه أن كلامه محصِيّ عليه، وأنه مؤاخذ بكل ما يقول؛ إذا لا يكبّ الناسَ على مناخرهم في نار جهنم شيء مثلما تكبّهم حصائد ألسنتهم كما أخبر المصطفى r.
ولسنا الآن في موطن تفصيل القول في الوظيفة الإيمانية الخلقية للشعر التي رسمها النبي ـ r ـ في أحاديثه ومواقفه من الشعر والشعراء، ولا فيما أُثر عن الراشدين المهديين وغيرهم من خلفاء المسلمين فقد كتبنا في ذلك دراسات مستقلة(26)، ولكنا نسوق في هذا المقام ـ قبل أن ننتقل إلى الكلام على آراء نقاد الأدب وعلماء اللغة والبيان ـ نماذج يسيرة من أقوال بعض الراشدين والخلفاء تفصح عن نظرتهم إلى ما يمكن أن ينهض به الشعر من إصلاح للنفس، وتهذيب للسلوك، واستثارة للمشاعر الخيّرة، والأحاسيس النبيلة، ونهي عن الأفعال الخسيسة، والخصال الدنيئة، مما يجعله مادة تربوية تعليمية هامة.. قال أبو بكر الصديق في تسويغ الحث على تعليم الشعر: "علموا أولادكم الشعر، فإنه يعلّمهم مكارم الأخلاق(27)".
وقال عمر بن الخطاب: "تحفظوا الأشعار، وطالعوا الأخبار؛ فإن الشعر يدعو إلى مكارم الأخلاق، ويعلّم محاسن الأعمال، ويبعث على جليل الفعال، ويفتّق الفطنة، ويشحذ القريحة، ويحدو على ابتناء المناقب، وادّخار المكارم، وينهي عن الأخلاق الدنيئة، ويزجر عن مواقعة الرِّيَب، ويحضّ على معالي الرتب(28)..."
وقال معاوية بن أبي سفيان: "يجب على الرجل تأديب ولده، والشعر أعلى مراتب الأدب(29)".
وقال عبد الملك: "تعلموا الشعر، ففيه محاسنُ تُبْتَغى، ومساوئ تُتَّقَى(30)".
وأوصى الرشيد الكسائي بالأمين والمأمون، فكان من جملة وصيته: "وروّهما من الشّعر؛ فإنه أوفى أدب، يحضّ على معالي الرتب(31).."
كما أشار عدد من العلماء والفقهاء إلى الوظيفة الخلقية لشعر، وما يختزنه من الحكمة والموعظة والمعرفة، مما يجعله مادة تثقيف وتأديب لا يستغني عنها متعلم.
قال ابن عباس: "الشعر علم العرب وديوانها فلتعلّموه(32)"
وسمع كعب الأحبار قول الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدمْ جوازيه لا يذهبُ العُرف بين الله والناس
فقال: "إنا نجد قوماً في التوراة أنا جيلهم في صدورهم، تنطق ألسنتهم بالحكمة، وأظنّهم الشعراء(33)".
وسبق أن ذكرنا قبل قليل أن الوظيفة الخلقية للشعر تعمّقت في الإسلام، واستجدت أغراض نفعية كثيرة أطال النقاد العرب الكلام عليها، وسنتوقف في هذا البحث عند هذه الأغراض.
ـ الشعر للتأديب والتربية:
استمر التأكيد في الإسلام على وظائف قديمة أرِب الشعر بتحقيقها منذ العصر الجاهلي، من مثل تمجيد القيم الفاضلَة، والدعوة إلى مكارم الأخلاق، ومحمود الصفات، ورسم طريق المآثر الكريمة حتى يأتسي الناس بها، على نحو ما قال أبو تمام:
تداركْه إن المكرمات أصابعٌ وإن حُلَى الأشعار فيها خواتمُ
ولولا خلالٌ سنَّها الشّعر ما درى بُغَاة النَّدى من أين تؤتى المكارمُ(34)
وعلى نحو ما قال ابن الرومي:
أرى الشعر يحيي المجد والبأس بالذي تبقّيه أرواحٌ لـه عَطِرَاتُ
وما المجدُ لولا الشعر إلا معاهدٌ وما الناسُ إلا أعظمٌ نَخِراتُ(35)
وأشار ابن قتيبة في مقدمة "عيون الأخبار" إلى وظيفة الأدب، وبيَّن الغرض من الأشعار والأقوال التي تضمنها كتابه، فإذا هو تربية النفس وتهذيبها، ورياضتها على معالي الأمور، وزجرها عن سفاسفها، وإن شئت فقل إن الأدب قد يؤدي مؤدّى الدين في الدلالة على الله، وبيان الحق والباطل: يقول: "هذا الكتاب ـ وإن لم يكن في القرآن والسنة، وشرائع الدين، وعلم الحلال والحرام ـ دالّ على معالي الأمور، مرشد لكريم الأخلاق، زاجر عن الدناءة، ناهٍ عن القبيح، باعث على صواب التدبير، وحسن التقدير، ورفق السياسة، وعمارة الأرض. وليس الطريق إلى الله واحداً، ولا كلّ الخير مجتمعاً في تهجد الليل، وشرد الصيام، وعلم الحلال والحرام، بل الطرق إليه كثيرة، وأبواب الخير واسعة(36).."
وربط الثعالبي الشعر بالوظيفة الخلقية نفسها، فجعله وسيلة تربوية، تحث على الفضيلة، وتقبّح الرذيلة، ومن ثم كان الحرص على تعلمه لكل من حرص على تربية النفس وإصلاحها. قال: "إن الرجل ـ الملك أو السُّوقة ـ إذا صيّر ابنه في الكتاب أمر معلمه أن يعلّمه القرآن والشعر، فيقرنه بالقرآن، ليس لأن الشعر كهو، ولا كرامة للشعر، لكنه من أفضل الآداب، فيأمره بتعليمه إياه، لأنه توصل به المجالس، وتضرب فيه، وتعرف به محاسن الأخلاق ومشاينها، فتذم وتحمد، وتهجن وتمدح، وأي شرف أبقى من شرف يبقى بالشعر؟"(37).
وقال الثعالبي في موطن آخر: "الأدب وسيلة إلى كل فضيلة، وذريعة إلى كلّ شريعة"(38).
وعلى نحو ما جعل ابن قتيبة والثعالبي للأدب وظيفة شبيهة بوظيفة الدّين، إذ هو دالّ على الخير، وزاجر عن الشّرّ؛ مضى ابن عبد البر في المنحى نفسه، فجعل مطالعة الآداب ضرورة تنصرف إليها عناية الطالب مثل انصرافها إلى تعلّم معاني الكتاب والسنة، لأن الأدب معلم للحكمة، ناهٍ عن الدنايا والمحارم. يقول ابن عبد البر:
"إن أولى ما عُني به الطالب، ورغب فيه الراغب، وصرف إليه العاقل همّه، وأكد فيه عزمه ـ بعد الوقوف على معاني السنن والكتاب ـ مطالعة فنون الآداب، وما اشتملت عليه وجوه الصواب من أنواع الحكم التي تحيي النفس والقلب، وتشحذ الذهن واللبّ، وتبعث على المكارم، وتنهى عن الدنايا والمحارم(39).."
وربط أبو العلاء الشعر بوظائف خلقية، وقرن مكانة الشاعر بها، فجعل خروجه إلى أغراض دنيئة سبباً في سقوط همته.
نقل عنه الكلاعي ـ ووافقه في الرأي ـ: "ما أعدل قول أبي العلاء في خطبة الفصيح: الشعر إذا جعل مكسباً لم يترك للشاعر حسباً، وإذا كان لغير مكسب حسن في الصفات والنسب، ما لم تُسَبَّ المحصنة، وتعدّ للعار المُرْصَنَة(40).."
وعلى أن من أبرز فئات النقاد العرب الذين ربطوا الشعر بالغايات الخلقية، المتمثلة بصورة خاصة في التربية والإصلاح وحث النفس على الفضائل، وتنفيرها من القبائح، هم الفلاسفة، أو الذين غلبت عليهم الثقافة الفلسفية والعقلية، كالفارابي، وابن سينا، وابن رشد، ومسكويه، وحازم القرطاجني، ومن هو على شاكلتهم.
وسنرجئ الكلام على هذه الفئة إلى الحديث عن وظيفة الشعر النفسية، وذلك لأن هذه الفئة ربطت الأثر النفسي الذي يحدثه الشعر ـ عن طريق التخييل الذي هو جوهره ـ بغايات خلقية.
وخلاصة القول في هذه الفقرة: إن النقاد العرب في الإسلام ـ على مختلف فئاتهم ـ كانوا شديدي الاحتفاء بوظيفة الشعر الخلقية، المتمثلة ـ في أحد جوانبها ـ في أنه نشاط جاد فعّال، يستطيع ـ بما يمتلك من طاقة جمالية، ومتعة فنية ـ أن يكون وسيلة للتربية وإصلاح النفس. ولذلك كان مادة رئيسة من مواد الثقافة والتعليم، لا يستغنى عنها طالب، بل بدا أثره أحياناً مشبهاً أثر الدين في سعي كلّ منهما إلى الدعوة الحقّ والفضيلة، والنهي عن الباطل والرّذيلة...
الوظيفة النّفسية:
تحدث النقاد العرب كثيراً عن تأثير الشعر، وامتداد سلطانه، فهو نفّاذ في عمق النفس، عميق الولوج إليها، ينسرب في طواياها انسراباً عجيباً، فيحدث فيها من التأثير ما يشبه السّحر، لأنه فن ممتع لذيذ، يمتلك قيماً جمالية متميّزة، تمكّنه من عرض الأشياء عرضاً شائقاً باهراً.
وقد ربط النقاد التأثير النفسي للشعر بالأغراض الخلقية المتمثلة في إثارته للمشاعر النبيلة الخيّرة، فيحمل النفس على الطرب للفضيلة، والانقباض من الرذيلة، ثم يتعدى الأمر هذا الانفصال النفسيّ إلى سلوك عملي، ومواقف فعلية، يُحمل فيها المتلقي على نقيض ما كان عليه من دنايا وانحطاط، فيسخر بعد شح، ويَشْجُع بعد جبن، ويستبشر بعد انقباض.
قال عمر بن الخطاب: "نعم الهدية للرجل الشريف الأبيات يُقدِّمها بين يديْ الحاجة، يستعطف بها الكريم، ويستنزل بها اللئيم(41).."
وقال عن هذه الوظيفة النفسية الخلقية مرة أخرى: "الشعر جزل من كلام العرب، يسكن به الغيظ، وتطفأ به النائرة، ويتبلّغ به القومُ في ناديهم، ويُعطى به السائل(42).."
وقال معاوية لزياد يحثه على تعليم ابنه الشعر: "ما منعك أن ترويّه الشعر؛ فو الله إن كان العاقّ ليرويه فيَبَرّ، وإن كان البخيل ليرويه فيسخو، وإن كان الجبان ليرويه فيقاتل(43).."
وأوضح النهشلي هذه الطاقة النفسية الكامنة في الشعر وقدرتها الفّذة على إثارة العواطف الخيّرة، فقال: "وكم جهد عسير كان الشعر فرج يُسْره، ومعروف كان سبب إسدائه، وحياة كان سبب استرجاعها، ورحم كان سبب وصلها، ونار حرب أطفأها، وغضب برّده، وحقد سلّه، وغني اجتلبه، وكم اسم نوّه به(44).."
وأرجع ابن طباطبا أثر الشعر في النفس إلى قيمه الجمالية، وما يتمتع به من صياغة باهرة تجعله شدي العلوق بالنفس، بالغ التأثير فيها، حتى كأنه يحدث فيها ما يشبه السحر، فيسل منها كثيراً من العواطف السقيمة ليزرع بدلاً منها عواطف الخير والنبل.
يقول ابن طباطبا: "إذا ورد عليك الشعر اللطيف المعنى، الحلو اللفظ، التامّ البيان، المعتدل الوزن، مازج الروح، ولاءم الفهم، وكان أنفذ من نفث السّحر، وأخص دبيباً من الرُّقي، وأشدّ إطراباً من الغناء، فسلّ السخائم، وحلّ العقد، وسخّى الشحيح، وشجع الجبان(45)..." أي أن الحالة اللذية التي يقع فيها المتلقي ـ بسبب شروط جمالية موجودة في الشعر، تتجاوز ـ كما يقول الدكتور إحسان عباس ـ المتعة لتصبح هذه المتعة نفسها وسيلة أخلاقية "لأن الحالة اللذية التي يقع فيها المتلقي تتجاوز فائدة حدّ الاستمتاع بالجمال، إذ تصبح في نفاذها إلى الفهم كقوة السحر، ويكون أثر الشعر الجميل عندئذٍ أن يسلّ السخائم، ويحل العقد، ويسخّي الشحيح(46).."
وعندما أورد ابن طباطبا ـ في موطن الحديث عن وظيفة الشعر الثقافية. كثيراً من المثل الخلقية العربية المجمودة، وذكر أضدادها المذمومة، هدف أن يبين أن غاية الشعر التي ينبغي أن تتحقق تكمن في قدرته على تشكيل العقول، والتأثير في العواطف، وتوجيه السلوك الإنساني وجهة سوية "فتدفع به العظائم، وتُسَلّ به السخائم، وتخلب به العقول، وتسحر به الألباب لما يشتمل عليه من دقيق اللفظ ولطيف المعنى(47).."
وتحدّث عن هذا الدور الخلقي النفسي الثعالبي، فأورد قول القائل: "الشعر جزل من كلام العرب، تقام به المجالس، وتستفتح به الحوائج، وتشفى به السخائم. ويقال: المدح مهزة الكرام..(48)"
وقال الكلاعي ـ في موطن الموازنة بين المنظوم والمنثور في الأثر النفسي: الشعر "أشرد مثلاً، وأهزّ لعطف الكريم، وأفل لغرب اللئيم(49).."
وبرز في الحديث عن الغاية الخلقية للشعر، وربطها بالأثر النفسي النقاد الفلاسفة، أو من أخذ بخط من الثقافة الفلسفية والعقلية. لقد ارتبط الشعر عند هؤلاء بالتخييل، إذ هو عندهم نشاط تخييلي مؤثر، والتخييل ذو قدرة على إحداث التأثير في النفس، متمثلاً في قوة استجابتها حباً أو كرهاً.
فالشعر عند حازم "كلام موزون مقفّى، من شأنه أن يحبّب إلى النفس ما قصد تحبيبه إليها، ويكرّه إليها ما قصد تكريهه، لتحمل بذلك على طلبه أو الهرب منه، بما تضمن من حسن تخييل له، ومحاكاة مستقلة بنفسها، أو متصورة بحسن هيئة تأليف الكلام، أو قوة صدقه(50)..."
وخير الشعر ما حرّك المشاعر النبيلة، والعواطف الخيّرة، وإن الالتذاذ بتخييل الفضائل شرط يُقصد إليه في الشعر. يقول ابن رشد: "ليس يقصد من صناعة الشعر أيُّ لذة اتفقت، لكن إنما يقصد بها حصول الالتذاذ بتخييل الفضائل.."(51)
وأما الفارابي فرأى أن الأقاويل الشعرية ـ القائمة على التخييل ـ تستعمل "في مخاطبة إنسان يُستنهض لفعل شيء باستغرازه إليه، واستدراجه نحوه، وذلك إما أن يكون الإنسان المستدرج لا روية له ترشده، فينهض نحو الفعل الذي يُلتمس منه بالتخييل، فيقوم له التخييل مقام الرويّة. وإما أن يكون إنساناً له روية في الذي يُلتمس منه، ولا يُؤْمن إذا روّى فيه أن يمتنع، فيعاجل بالأقاويل الشعرية لتسبق بالتخييل رويته حتى يبادر إلى ذلك الفعل(52)..."
الشعر مصدر المعرفة (ديوان العرب)
أطال النقاد العرب الكلام على وظيفة الشعر في أنه مصدر للمعرفة، ووعاء للثقافة، ومستودع للفكر، فيه حصيلة عظمى من التجارب الإنسانية، والخبرات البشرية، لأنه يستمد من الحياة، وهو لذلك سجل حي لما رآه الناس وما خبروه، فهو إذن مادة معرفية دسمة.
ولقد آمن العرب بالذات أن شعرهم هو وعاء تجاربهم، ومستودع حكمتهم، وهو ديوان معارفهم وعلومهم. وتتردد على ألسنة نقاد كثيرين عبارة: "الشعر ديوان العرب" التي تعني ما يمكن أن نطلق عليه بمصطلح العصر "دائرة معارفهم".
قال ابن فارس: "الشعر ـ شعر العرب ـ ديوانهم، وحافظ آثارهم، ومقيّد أحسابهم(53)".
وقال الثعالبي: "كان يقال: الشعر ديوان العرب، ومعدن حكمتها، وكنز أدبها(54)".
وقال التّبريزيّ عن الشعر: "أفضل الأمم من كان به أمهر، وحظّه فيه أوفر، وهم العرب الذين جعلوه ديوانهم الذي به يحفظون المكارم والمناسب، ويقيّدون به الأيام والمناقب، ويخلدون به معالم الثناء، ويبقون به مواسم الهجاء، ويضمّنونه ذكر وقائعهم في أعدائهم، ويستودعونه حفظ صنائعهم إلى أوليائهم(55).."
وقرن أبو عمرو بن العلاء الشعر بالعلم، فقال: "ما انتهى إليكم ممّا قالت العرب إلا أقلّه، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير(56).."
وعبّر ابن قتيبة عن احتواء الشعر العربيّ على كم هائل من المعرفة والخبرة والحكمة بقوله: "الشعر معدن علم العرب، وسفر حكمتها، ومستودع أيامها، والسور المضروب على مآثرها، والخندق المحجوز على مفاخرها، والشاهد العَدْل يوم النّفار، والحجة القاطعة عند الخصام، ومن لم يقم عندهم على شرفه، وما يدّعيه لسلفهن من المناقب الكريمة، والفعال الحميد بيتٌ منه؛ شذّت مساعيه وإن كانت مشهورة، ودرست على مرور الأيام وإن كانت جساماً. ومن قيّدها بقوافي الشعر، وأوثقها بأوزانه، وأشهرها بالبيت النادر، والمثل السائر، والمعنى اللطيف، أخلدها على الدهر، وأخلصها من الجحد، ورفع عنها كيد العدو، وغض عين الحسود(57).."
وعلى نحو ما أوضحت أقوال النقاد العرب التي ذكرنا طائفة منها وظيفة الشعر في حفظ المآثر والأحداث، وتسجيل الوقائع والأيام، بيّن النهشليّ كذلك هذه الوظيفة، فذكر أنه لولا الشعر لجُهل تاريخ بعض القبائل، وضاعت مآثر وأفعال ولم يقم لها أبداً منار. يقول:
"فلولا الشعر لم يقم لهذه الأفعال علم، ولا رُفع لها منار، ولدرست آثارها، كما درس كثير لم يقيّده الشعر، كالذي نسي من أفعال بني حنيفة وعجل، إذ لم يكن فيهم شعر، فدخلوا في جملة الخاملين(58).."
وأما ابن طباطبا الذي جعل أساس الشعر صحة الطبع وسلامة الذوق، فقد رأى للشعر مهمة أساسية تتمثل في أنه مصدر صادق لمعرفة المثل والتقاليد العربية، فقد أودع القوم في أشعارهم حصيلة خبرتهم وتجاربهم، وما تضمنته حياتهم من أحداث وعادات، فهو إذن وثيقة معرفية لحياة العرب، وثقافة لابدّ منها لكل متأدب يريد أن يعرف تراث أمته وحضارتها. يقول ابن طباطبا:
"إن العرب أودعت أشعارها من الأوصاف والتشبيهات والحكم ما أحاطت به معرفتها، وأدركه عيانها، ومرّت به تجاربها، وهم أهل وبر، صحونهم البوادي، وسقوفهم السماء، فليست تعدو ـ أوصافهم ما رأوه منها وفيها.. فتضمّنت أشعارها من التشبيهات ما أدركه من ذلك عيانها وحسّها، إلى ما في طبائعها وأنفسها من محمود الأخلاق ومذمومها في رخائها وشدّتها، ورضاها وغضبها، وفرحها وغمّها، وأمنها وخوفها، وصحتها وسقمها، والحالات المتصرفة في خلقها من حال الطفولة إلى حال الهرم، وفي حال الحياة إلى حال الموت(59).."
ثم مضى ابن طباطبا فساق كثيراً من المثل والخصال العربية، وأورد أطرافاً من محمود الأفعال ومذمومها، وبيّن أن العرب بنت غرضي المديح والهجاء على هذه الخصال.(60).
واتفق الجاحظ وابن قتيبة كلاهما ـ وهما في موطن الدفاع عن العرب، والرد على الشعوبية ـ على أن الشعر العربي مصدر المعرفة، فنحا ابن قتيبة ـ كما يقول الدكتور إحسان عباس ـ "منحى في الأنواء، وآخر في الأشربة، وثالثاً في الخيل، ليثبت لأنصار الكتب المترجمة أن في الشعر العربي ما يضاهي حكم الفلاسفة، وعلوم العلماء(61).."
والحقّ أن الإحساس بالقيمة المعرفية للشعر العربي ـ ولاسيما القديم منه ـ حُرف عند النقاد العرب منذ وقت مبكر جداً، فعمر بن الخطاب ـ r ـيجعل الشعر أصحّ علم عرفته العرب.
يقول: "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علمٌ أعلمُ أصحُّ منه"(62) وفي رواية: "لم يكن لهم علمٌ أعلمُ منه(63)" وقيل أنه "ما أبرم عمر بن الخطاب أمراً قطّ إلا تمثّل فيه ببيت شعر(64)".
وجعل عبد الملك بن مروان الشعر مصدر الخبرة في تعلم مهارات معينة، إذ أثر عنه قوله: "من أراد أن يتعلم ركوب الخيل فليرو شعر طفيل(65)".
وهكذا تحدث النقاد العرب طويلاً عن الوظيفة النفعية للشعر، من حيث أنه مستودع للمعرفة والخبرة، وأنه ديوان تراث العرب، ومادة تاريخهم، وسجل حياتهم. وكما تحرص كل أمة على معرفة تاريخها وتدبّره، لأخذ العبرة منه، وتوثيق العلاقة بين حاضرها وماضيها، حَرَصَ العرب على الاهتمام بالشعر وتعلمه وتعليمه.
ـ الشعر عون على فهم القرآن والحديث:
ومن وظائف الشعر المعرفية النفعية التي استجدّت في الإسلام الاستعانة به على فهم كتاب الله ـ عزّ وجل ـ وحديث النبي ـ r ـ فالقرآن كلام عربي، نزل بلغة العرب، وعلى طرائقهم في التعبير، وأساليبهم في البيان، ومن هنا كان إعجازه؛ فهو يستخدم المادة اللغوية المطروحة بين أيدي الناس، والتي يعرفها فصحاؤهم وبلغاؤهم، ولكن بشكل متميّز رفيع لا يقدر العرب على مثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، ولو كانت الجن كذلك معهم ظهيراً.
وشكّل الشعر العربي أهمية كبرى في كونه مدخلاً إلى فهم أسرار التعبير القرآني، وفك رموزه ودقائقه، لاسيما أن القرآن الكريم كان فيه من جميع لغات العرب خَلاَق.
ولا نفتأ نسمع لدى النقاد العرب حديثاً عن وظيفة الشعر في فهم كتاب الله، وحديث نبيه r.
وكان عمر بن الخطاب وابن عباس صاحبي ريادة في هذا الباب. روى عن عمر أنه سأل مرة عن معنى قوله تعالى: أو يأخذكم على تخوّف فقام شيخ من هذيل، وقال: هذه لغتنا، التخوُّف التنقُّص. فقال عمر: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ فقال: نعم، وروى قول الشاعر:
تخوُّف الرجل منها تامكاً قرِداً كما تخوَّف عودَ النبعة السَّفِنُ
فقال عمر لأصحابه: "عليكم بديوانكم. قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم، ومعاني الكلام(66)".
وأما ابن عباس فكان كثير الإحالة على الشعر العربي من أجل فهم النص القرآني، وقد أُثرت عنه أقوال كثيرة تعبّر عن هذا المنزع.
قال: "إذا تعاجم شيء من القرآن فالتمسوه في الشعر؛ فإن الشعر عربيّ(67)".
وقال: "إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر؛ فإن الشعر ديوان العرب"(68).
وروي عن عكرمة أنه قال: ما سمعت ابن عباس فسّر آية من كتاب الله ـ عزّ وجلّ ـ إلا نزع فيها بيتاً من الشعر. وكان يقول: "إذا أعياكم تفسير آي من كتاب الله فاطلبوه في الشعر؛ فإن الشعر ديوان العرب(69)".
وعن سعيد بن جبير قال: سمعنا ابن عباس يُسأل عن الشيء من القرآن فيقول فيه كذا وكذا، أما سمعتم الشاعر يقول كذا وكذا(70).."
وذائعة مستفيضة مسائل نافع بن الأزرق لابن عباس، إذ كان يسأله عن أشياء من القرآن، فيجبيه، فيلتمس ابن الأزرق من ابن عباس الدليل على ذلك من كلام العرب، فينشده ابن عباس شعراً.
سأله ابن الأزرق عن قوله تعالى: فمنهم من قضى نحبه قال: أجله الذي قدّر له. قال: وهل قالت العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول لبيد:
ألا لا تسألانِ المرءَ ماذا يحاول أنحبٌ فيُقْضَى أم ضلالٌ وباطلُ(71)
وسأله نافعٌ عن قوله تعالى وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى قال: لا تعرق فيها من شدّة حرّ الشمس. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
رأى رجلاً أيما إذا الشمس عارضت فيَضْحَى، وأما بالعشيّ فيَخْصَر(72)
ولا شك أن هذه الغاية التعليمية للشعر هي التي كانت وراء اهتمام ابن عباس بهذا الفن. وليس احتفاؤه بعمر بن أبي ربيعة، واستماعه إلى شعره ـ الذي لا يخلو أحياناً من سفه ومجون ـ للمتعة والطرب وحدهما، بل لهذا الغرض التعليمي الذي نتحدَّث عنه؛ فابن أبي ربيعة شاعر قرشي، والقرآن ـ في عظمه ـ نزل بلغة قريش، وما أجدر شعر عمر أن يحلّ بعض مغاليق النص القرآني. ولذلك لا يمكن الاطمئنان إلى ما ذهب إليهم بعضهم من أن اهتمام ابن عباس بشعر عمر عائد إلى أنه يرى أن الأدب كلام لا يدخل في العقيدة ولا يؤثر فيها، وأنه أباح للشاعر أن يطرق الآفاق الفنية الواسعة دون تحرّج أو تأثم(73).
ومضى كثير من النقاد العرب على آثار ابن عباس يؤكدون هذه الوظيفة التعليمية للشعر. ذكر أبو زيد القرشي في مقدمة الجمهرة من وظائف الشعر العربيّ أنه اتخذت منه الشواهد على معاني القرآن والحديث، ولذلك عقد باباً سماه "ما وافق القرآن من ألفاظ العرب" وراح يورد من أشعار العرب ما وقع مثله في القرآن الكريم ليدلّ على أن القرآن نزل بأسلوب العرب؛ فالشعر إذن شاهد عليه، وذريعة إلى فهمه، من ذلك مثلاً قول امرئ القيس:
قفا فاسألا الأطلال عن أم مالك وما تخبر الأطلال غير التهالك
فالأطلال لا تجيب، وإنما معناه "اهل الأطلال" قال الله ـ عزّ وجلّ ـ واسأل القرية التي كنا فيها يعني أهل القرية.
وقال الربيع بن زياد:
فإن طبتُمُ نفساً بمقتل مالك فنفسي لعمري لا تطيب بذلكا
فأوقع لفظ الجمع على الواحد. قال تعالى: فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً(74)
وبسبب هذه الوظيفية التعليمية الدينية للشعر غدا من آداب المفسّر والمحدِّث، وأصبح مادة ثقافية لابدّ منها لمن يتصدى للتفسير والفتيا، فدعي إلى حفظه، والعناية به.
قال الإمام الشافعي: "لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلاً عارفاً بكتاب الله، بناسخه ومنسوخه، وبمحكمه ومتشابهه..
ثم يكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله ـ r ـ.. ويكون بصيراً باللغة، بصيراً بالشعر(75).."
وقال السيوطي: "وليُعْتَنَ بحفظ أشعار العرب، فإن فيها حكماً ومواعظ وآداباً، وبها يستعان على تفسير القرآن والحديث"(76).
وقال ابن فارس: "الشعر ديوان العرب، به حفظت الأنساب، وعرفت المآثر، ومنه تُعُلِّمت اللغة،وهو حجة فيما أشكل من غريب كتاب الله ـ عزّ وجلّ ثناؤه، وغريب حديث رسول الله r ـ وحديث صحابته والتابعين رحمهم الله تعالى(77).."
وقال التبريزي في إيضاح هذه الوظيفة في مقدمة شرحه لحماسة أبي تمام: "أشرف العلوم كلها الكتاب والسنة.. ولا يصح حقيقة معرفتهما إلا بعلم الإعراب الدال على الخطأ من الصواب، وعلم اللغة الموضحة عن حقيقة العبارات، المفصحة عن المجاز والاستعارات، وعلم الأشعار؛ إذ كان يستشهد بها في كتاب الله عزّ وجلّ، وفي غريب حديث رسول الله r(78)"
وقصر الرازي أهمية الشعر على هذه الوظيفة النفعية، فقال: "لولا ما بالناس من الحاجة إلى معرفة لغة العرب، والاستعانة بالشعر على العلم بغريب القرآن، وأحاديث رسول الله ـ r ـ والصحابة والتابعين والأئمة الماضين لبطل الشعر، وانقرض ذكر الشعراء، وتعفّى الدهر على آثارهم، ونسي الناس أيامهم(79)..."
وهكذا تحدّدت للشعر في الإسلام غاية تعليمية هامة، ارتبطت بغرض ديني، وهي الاستعانة به على فهم كتاب الله ـ عزّ وجلّ ـ وحديث النبي r.
ـ الشّعر وعاء اللغة:
ومن جملة أغراض الشّعر التعليمية النفعية التي أشار إليها النقاد العرب ما ينهض به من حفظ اللغة وإثرائها، فهو دعاؤها الثر، ومستودعها الغني، ومن ثم كان مادة أساسية في تعليم اللغة، وتنمية الملكة البلاغية، وتفصيح اللسان، ذلك أن الشعراء فرسان الكلام، واللغة في الشعر كالعروس المَجْلُوَّة، فهو معرضها الزاهي الأنيق.
وقد فطُّن معاوية منذ وقت مبكر إلى هذه الوظيفة الثقافية للشعر، فذكر للحارث بن نوفل ـ في موطن حثه على تعليم ابنه الشعر ـ من وظائف هذا الفن أنه مستودع ثقافة العرب، فيه أسرار لغتها، ودقائق لسانها، وهو ـ إلى جانب وظيفته الخلقية النفسية ـ عون على تعليم اللغة، وتكوين السليقة الكلامية.
قال معاوية للحارث: ما علّمتَ ابنك؟ قال: القرآن والفرائض. فقال: روِّه فن فصيح الشعر، فإنه يفتّح العقل، ويفصّح المنطق، ويطلق اللسان، ويدل على المروءة والشجاعة(80).."
وكان عمر بن الخطاب ـ r ـ قد ألَمَّ بهذا الجانب من وظيفة الشعر إلماماً في قوله عنه: "يفتِّق الفطنة، ويشحذ القريحة(81)..."
وقالت السيدة عائشة في معرض الحث على تعلم الشعر: "رووا أولادكم الشعر تعذب ألسنتهم" العقد: 6/124 (ط دار الكتب العملية).
وتتابع النقاد على بيان هذا الجانب الثقافي التعليمي للشعر، فقال ابن فارس عنه: "به حفظت الأنساب، وعرفت المآثر، ومنه تُعُلّمت اللغة(82)".
وتحدّث الباقلاني عن دور الشعر في حفظ العربية، فذكر أن الحاجة إليه لا تشبه الحاجة إلى القرآن الكريم، ولكن "الحاجة إليه تقع لحفظ العربية"(83).
وجعل ابن حزم ـ متكأً على معايير خلقية ـ الشعر ـ من حيث التحليل والتحريم، ثلاثة أنواع ومن وظائف النوع المقبول منها أن "فيه عوناً على الاستشهاد في النحو واللغة(84).."
وذائع وصف الشعراء بأنهم فرسان الكلام، وأساتذة اللغة، عنهم يؤخذ البيان وفن القول: قال الخليل بن أحمد:
"الشعراء أمراء الكلام، يصرفونه أنى شاؤوا، وجائز لهم ما لا يجوز لغيرهم(85).."
وقال الثعالبي: "ويقال: الشعر لسان الزمان، والشعراء للكلام أمراء(86).."
وقال ابن فارس كذلك: "الشعراء أمراء الكلام، يقصرون الممدود، ويمدون المقصور، ويقدّمون ويؤخرون، ويومئون ويشيرون(87)..."
وتحدّث النقاد من فرادة لغة الشعر وتميّزها، وعن اتصافها بجماليات تعبيرية تفتقدها اللغة العادية، بل لغة النثر، فقال الجرجاني عن الشعر: إنه يشتمل على "اللفظ الجزل، والقول الفصل، والمنطق الحسن، والكلام البيِّن... وحسن التمثيل والاستعارة والتلويح والإشارة(88).."
وقال القاضي الجرجاني عن لغة الشعراء: "وللفصحاء المُدِلّين في أشعارهم ما لم يُسمع من غيرهم(89)".
وهكذا نُظر إلى الشعر على أنه وعاء اللغة ومستودعها، فاقتبس منه الشاهد والمثل، وغدا مادة احتجاجية لا غنى عنها. كما نُظِر إليه على أنه يمثّل أرقى أشكال اللغة وأبهاها وأفصحها، وكذلك كان مادة ثقافية لابدّ منها لكل متأدب، فهو يفصّح اللسان، ويشحذ القريحة، ويربي الملكة الأدبية..
خاتمة:
وخلاصة القول إن البحث توفّر على بيان أن ما بين أيدينا من أقوال النقاد العرب تؤدّي إلى أن هذا الفن الجميل عندهم ـ سواء في الجاهلية أم في الإسلام ـ إنما اكتسب ما اكتسبه من المهابة والإجلال في نفوسهم حتى كان ديوانهم وسجل معرفتهم، والمتمثل لحياتهم، لأنه نشاط هادف جاد، له وظائف خطيرة كثيرة ينبغي أن يأرب بتحقيقها، وهي وظائف خلقية، تعليمية، نفعية هامة.
الشعر عندهم للتربية والتهذيب، والإصلاح والتوجيه، وهو للثقافة والتعليم، وهو مستودع المعرفة، وديوان الفكر والتاريخ والتراث. وهو ذو طاقة نفسية هائلة لتنمية النوازع الخيّرة، وإطلاق العواطف النبيلة، وتوجيه النفس إلى أنواع من السلوك العملي.
وهو أداة هامة لحفظ اللغة، وتفصيح اللسان، منه تتخذ الشواهد والأمثال، وهو عون على فهم القرآن الكريم، وحديث النبي ـ r ـ وكلام الصحابة والتابيعن.
فهو ليس فناً للفن، ولا متعة مجرّدة للمتعة. إنه حقاً فن ممتع لذيذ، ولكن هذه المتعة وهذه اللّذّية تطويان في ثناياهما ـ عند أغلب النقاد العرب ـ غايات خلقية نفعية كثيرة، وهما تستمران في تنمية النوازع الكريمة.
وما بين أيدينا من نصوص تطوي احتفاء واضحاً بالصياغة والأسلوب لا يعني إسقاط المادة أو الهيولى، ولكنه يشير إلى أن أهمية الشعر وتأثيره وقدرته على الانسراب إلى النفس يكمن في الطريقة التي يقدِّم بها المعنى. لأن هذه الطريقة هي التي تجعلنا نتفاعل مع هذا المعنى. لقد سمّى النقاد الفلاسفة، أو من أخذوا بحظ من ثقافة فلسفية، هذه الطريقة "التخييل" وعبّر عنها نقاد آخرون بألفاظ مختلفة، فقال الجاحظ مثلاً بقوله: "الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير(90)".
ولكن ذلك كله من باب التأكيد على دور الأسلوب في الشعر من غير أن يعني إطلاقاً أي إسقاط للمادة، أو تهويناً من شأن المعنى.
وإذا وقع الدارس على أحكام نقدية كثيرة تمحضت للفن، وتعاملت مع الإبداع وجده، فبوّأت النصوص الأبية المنزلة التي تستحقها من غير نظر إلى غايات خلقية أو نفعية، فإن ذلك وجه آخر من القضية، وهو لا يعني أن النقد العربي مثل هذا المنزع، أو مثّله وحده على أقل تقدير ـ
لقد ظلّ الغالب ـ كما تشفت عن ذلك النصوص الكثيرة التي ساقها البحث، فطوى كشحاً عن نصوص أخرى كذلك ـ النظر إلى الشعر على أنه ذو وظيفة، وليس فناً للفن، أو شعراً للشعر، أو نشاطاً مجرّداً عن الغاية، لا يأرب إلا بتحقيق الإمتاع والإطراب والتحليق في آفاق الجمال.
ثَبَت المصادر والمراجع:
1 ـ إحكام صنعة الكلام: للكلاعي، تحقيق د. رضوان الداية، عالم الكتب بيروت: 1405هـ ـ 1985.
2 ـ اختيار الممتع في علم الشعر وعمله: النهشلي، تحقيق د. محمود شاكر القطان دار المعارف، مصر: 1983م.
3 ـ الإتقان في علوم القرآن: السيوطي، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم، الهيئة المصرية العامة: القاهرة 1394 هـ ـ 1974م.
4 ـ الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق د. عائشة عبد الرحمن، دار المعارف مصر.
5 ـ بهجة المجالس وأنس المجالس، لابن عبد البر القرطبي، تحقيق: محمد مرسي الخولي الدار المصرية للتأليف والترجمة والنشر، القاهرة: 1382 هـ ـ 1962م.
6 ـ البيان والتبيين للجاحظ، تحقيق: عبد السلام هارون، القاهرة 1395 هـ ـ 1975م. ط رابعة.
7 ـ تاريخ النقد الأدبي عند العرب: د. إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت 1404 هـ ـ 1983م.
8 ـ تأويل مشكل القرآن: ابن قتيبة، تحقيق سيد صقر، المكتبة العلمية، بيروت 1401 هـ ـ 1981م.
9 ـ تلخيص كتاب أرسطو طاليس في الشعر.
10 ـ التمثيل والمحاضرة: للثعالبي، تحقيق د. عبد الفتاح محمد الحلو، عيسى البابي الحلبي القاهرة: 1381 هـ ـ 1961م.
11 ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن: لمحمد بن جرير الطبري القاهرة 1954م ط، ثانية.
12 ـ جمهرة أشعار العرب، لأبي زيد القرشي تحقيق د. محمد علي الهاشمي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ـ الرياض: 1401هـ ـ 1982م.
13 ـ ديوان أبي تمام: طبعة دار المعارف بمصر، تحقيق محمد عبده عزام.
(مكرر) 13 ـ دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، مصر: 1389 هـ ـ 1969م.
14 ـ الزينة في أسماء الكلمات الإسلامية لأبي حاتم الرازي، تحقيق حسين بن فيض الهاني، القاهرة:
1957م.
15 ـ شخصيات إسلامية في الأدب والنقد: د. وليد قصاب، دار الثقافة قطر: 1413 هـ ـ 1992م.
16 ـ شرح حماسة أبي تمام: التبريزي، عالم الكتب، بيروت.
17 ـ شرح شواهد المغني: للسيوطي، لجنة التراث، بيروت، من دون التاريخ.
18 ـ الشعر والشعراء لابن قتيبة، أحمد محمد شاكر، دار المعارف بمصر 1386، 1966م.
19 ـ الصاحبي: ابن فارس تحقيق السيد صقر، مصر: 1977م.
20 ـ طبقات فحول الشعراء: ابن سلام، تحقيق محمود شاكر، جامعة الإمام محمد بن سعود ـ الرياض.
21 ـ العقد الفريد ابن عبد ربه، تحقيق أحمد أمين، إبراهيم الإبياري، عبد السلام هارون القاهرة 1949م.
22 ـ العمدة لابن رشيق: تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت: 1972، ط رابعة.
23 ـ عيار الشعر: ابن طباطبا، تحقيق طه الحجازي ومحمد زغلول سلام، مصر: 1956م.
24 ـ عيون الأخبار: لابن قتيبة،الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة: 1973م.
25 ـ الفقيه والمتفقه الخطيب البغدادي (467هـ) تصحيح وتعليق إسماعيل الأنصاري، دار الكتب العلمية، بيروت (1980م) ط ثانية.
26 ـ فن الشعر، د. إحسان عباس، دار الثقافة بيروت.
27 ـ كنز العمال: علاء الدين الهندي، مؤسسة الرسالة: 1405هـ، 1985م.
28 ـ اللطائف والظرائف: الثعالبي، المطبعة العامرية الشرقية، مصر: 1300هـ.
29 ـ محاضرات الأدباء: للراغب الأصبهاني، بيروت، من دون تاريخ.
30 ـ المذاهب النقدية: د. ماهر حسن فهمي، دار الثقافة، الدوحة، قطر.
31 ـ المزهر: السيوطي، تحقيق محمد أحمد جاد المولى، علي محمد البخاري، محمد أبي الفضل إبراهيم، مصر، عيسى البابي الحلبي.
32 ـ المصون: أبو أحمد العسكري، تحقيق عبد السلام هارون، الكويت، 1960م.
33 ـ المجتمع في علم الشعر وعمله: لعبد الكريم النهشلي، تحقيق د. منجي الكعبي، دار العربية للكتاب، ليبيا، تونس: 1398هـ ـ 1978م.
34 ـ منهاج البلغاء: حازم القرطاجني، تحقيق محمد الحبيب بن خوجة، تونس: 1966م.
35 ـ الموافقات للشاطبي: المطبعة الرحمانية بمصر.
36 ـ النقد الأدبي القديم بين الاستقراء والتلقي: د. محمد زغلول سلام.
37 ـ نضرة الإغريض في نصرة القريض: للمظفر بن الفضل العلوي، تحقيق: د. نهى عارف الحسن، مجمع اللغة العربية، دمشق، 1396هـ، 1976م.
38 ـ النظرة البنيوية في نقد الشعر، د. وليد قصاب، دار المنار. دبي. ط ثانية.
39 ـ الوساطة بين المتنبي وخصومه: القاضي الجرجاني، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم، وعلي محمد البجاوي، مصر: عيسى البابي الحلبي: 1966م، 1386هـ.
________________________________________
* باحث من سورية.
(1) المذاهب النقدية، د. ماهر حسن فهمي: 18.
(2) فن الشعر، لإحسان عباس: 17.
(3) البيان والتبيين: 1/241.
(4) المجتمع: 25.
(5) العمدة: 1/65 ـ67، وانظر كذلك اختيار الممتع (ط المعارف) ص 289.
(6) العمدة: 1/12.
(7) تأويل مشكل القرآن: 18.
(8) طبقات فحول الشعراء: 136.
(9) نضرة الإغريض: 358.
(10) شرح شواهد المغني: 1/23.
(11) الممتع: 25.
(12) العمدة: 1/65.
(13) اختيار الممتع: 289 (ط دار المعارف).
(14) الزينة: 1/95.
(15) انظر العمدة: 1/40 ـ 46، 1/53 ـ 55، 1/56 ـ 64، 1/78.
(16) البيان والتبيين: 1/241.
(17) العمدة: 1/83.
(18) الزينة: 1/62، وانظر كذلك: 1/42، 45.
(19) شرح حماسة أبي تمام: 1/17.
(20) العمدة: 1/18.
(21) السابق: 1/27.
(22) سورة الشعراء: 224 ـ 227.
(23) بهجة المجالس: 1/38.
(24) طبقات فحول الشعراء: 24.
(25) انظر تفصيل ذلك في كتابنا "النظرة النبوية في نقد الشعر": 9 ـ 15.
(26) انظر كتابنا "النظرة النبوية في نقد الشعر" وانظر ما كتبناه عن عمر بن الخطاب، ومعاوية، وعمر بن عبد العزيز في كتابنا "شخصيات إسلامية في الأدب والنقد".
(27) نضرة الإغريض: 357.
(28) نضرة الإغريض: 357.
(29) العمدة: 1/29.
(30) محاضرات الأدباء: 1/80.
(31) نضرة الإغريض: 357.
(32) العقدة: 5/281.
(33) السابق: 5/274.
(34) ديوان أبي تمام: 3/182.
(35) اللطائف والظرائف: 26.
(36) عيون الأخبار: 1/10.
(37) اللطائف والظرائف: 26.
(38) التمثيل والمحاضرة: 159.
(39) بهجة المجالس: 1/35.
(40) إحكام صنعة الكلام: 45، والمُرْصَنَة، من رصنته بلساني: أي شتمته.
(41) محاضرات الأدباء: 1/80.
(42) العقد الفريد: 5/281، وانظر محاضرات الأدباء: 1/80.
(43) العقد الفريد: 5/274.
(44) اختيار الممتع: 15.
(45) عيار الشعر: 16.
(46) تاريخ النقد الأدبي عند العرب: 141.
(47) عيار الشعر: 125، 126.
(48) اللطائف والظرائف: 25، 26.
(49) إحكام صنعة الكلام: 44.
(50) منهاج البلغاء: 71.
(51) تلخيص كتاب أرسطو طاليس في الشعر: 105.
(52) انظر تاريخ النقد الأدبي عند العرب: 221.
(53) الصاحبي: 277 وانظر كلامه في: 467.
(54) اللطائف والظرائف: 25.
(55) شرح حماسة أبي تمام: 1/3.
(56) طبقات فحول الشعراء: 25.
(57) عيون الأخبار: 2/184 ـ 185.
(58) اختيار الممتع: 1/130 (ط دار المعارف).
(59) عيار الشعر: 17216.
(60) السابق: 18 ـ 20.
(61) تاريخ النقد الأدبي عند العرب: 105.
(62) طبقات فحول الشعراء: 24.
(63) كنز العمال: 3/853.
(64) بهجة المجالس: 1/37.
(65) الشعر والشعراء: 453.
(66) الموافقات للشاطبي: 2/87 ـ 88.
(67) جامع البيان عن تأويل القرآن: 7/206.
(68) الإتقان في علوم القرآن: 1/119.
(69) شرح حماسة أبي تمام التبريزي: 1/3.
(70) السابق نفسه.
(71) شرح شواهد المغني: 1/151.
(72) السابق: 77/1، وانظر كثيراً من هذه المسائل في كتاب الدكتورة عائشة عبد الرحمن "الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق" 289 ـ 603.
(73) النقد العربي القديم بين الاستقراء والتلقي، للدكتور محمد زغلول سلام: 49.
(74) جمهرة أشعار العرب: 1/113 ـ 139.
(75) الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي: 2/157.
(76) المزهر: 2/309.
(77) الصاحبي: 467.
(78) شرح حماسة أبي تمام: ½.
(79) الزينة: 1/63.
(80) المصون: 137.
(81) نضرة الإغريق: 357.
(82) الصاحبي: 467.
(83) إعجاز القرآن: 19.
(84) انظر تاريخ النقد الأدبي لإحسان عباس: 488.
(85) منهاج البلغاء: 143.
(86) اللطائف والظرائف: 26.
(87) الصاحبي: 468.
(88) دلائل الإعجاز: 71.
(89) الوساطة: 452.
(90) الحيوان: 3/131.
awu-dam.org/trath/102/turath102-002.htm