محاضرات النقد الأ
النقـــد الأدبي الحديــث
قضايـاه ومذاهبـه
محاضرات د/ عبير عبد الصادق محمد بدوي
أستاذ الأدب والنقد المشارك
بجامعة المجمعة
ـــــــــــــــ
» رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي *
وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي «
تأثر النقد الأدبي الحديث بعلوم الجمال
والنفس والاجتماع والتاريخ
ـ النقد الأدبى فى مفهومه لا يخرج عن أحد أمرين :
التقويم ، والتحليل . والتقويم يكون بإظهار
ما فى العمل الأدبى من جمال ، وما وراء العبارات من أسرار وإيحاء ، ومدى قدرتها
على تصوير مشاعر الأديـب ، وعلى نقل هذه الصورة إلى فكر القارىء وشعوره . وأخيراً
وضع العمل الأدبى فى المكانة الفنية التى يستحقها ، والحكم عليه بالجودة أو
الرداءة ، بالجمال ، أو القبح . وهذا يقتضى ـ لكى يكون النقد موضوعياً ـ الإلمام
بالظروف المختلفة المنوعة ، التى أسهمت فى النص الأدبى المنقود ، بالإضافة إلى شخص
الأديب ، بيئته ، ثقافته ، وسائر الملابسات التى
تأثر بها .
والنص الأدبى فى عبارة موجزة : هو التعبير عن تجربة شعورية تعبيراً موحياً . وكل كلمة من تعريف النص الأدبى تشير إلى ركن فّعال من أركان النقد الأدبى ، كما تشير إلى نوع من العلوم التى يرتبط بها هذا النقد .
فالتعبير هو الصياغة وهى تربط النقد بسائر فنون اللغة وأشد الفنون التحاما بالنقد هو البلاغة ، إذ تلتقى به عند الغاية ، عند البحث عن أسرار الجمال فى النص الأدبى (1) .
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر إتجاهات وآراء فى النقد الحديث / د / محمد نايل / 11 .
والتجربة الشعورية ، هى أساس العمل الأدبى ، ومكانها منه معلوم ، واضح ، ومضمونها الحياة بأحداثها وثقافاتها فكل ما فى الحياة من صور ومشاهد صالح لأن يكون تجربة شعورية ، تمد الناقد بزاد وثروة .
أما الشعور فهو يربط النقد بعلوم النفس والاجتماع ومن خلالهما يسهل تفسير النص الأدبى نفسياً وشعورياً . كما أنه يربط الأديب بمجتمعه وأحداثه وظروف عصره ، فالأديب صورة لمجتمعه .
والايحاء ـ يربط النقد بالموسيقى والجمال والأصوات وما لها من تأثير مباشر وغير مباشر على الشعور والوجدان .
ـ النقد وعلم الجمال :
ما هو الجمال ؛ سؤال حير كثيراً من الفلاسفة والمفكرين فى مختلف العصـور ، ولا زال إلى الآن لا يجد الجواب الكافى .
وعلم الجمال هو فرع من الفلسفة ؛ وهو يتناول دراسة الجمالى ، والتجربة الجمالية ، والاتجاه الجمالى ، والصفة الجمالية ، والقيمة الجمالية ، وما يتصل بهذه الموضوعات من مثل " الخلق الفنى " والمعايير الفنية وما إليها . فالفن هو النتاج الإنسانى الذى يدور حول عنصر الجمال . وبعبارة أخرى نقول إن الجمال شىء كامن فى الفن . فيه من الإحساس والشعور . وفيه من الحياة والطبيعة ، وفيه من القيم الإنسانية ، ولكنه لا يقصد إلى شىء محدد ، إلى حقيقة فلسفية أخلاقية ، أو تفسير ظاهرة طبيعية أو الدعوة إلى فضيلة أخلاقية ، أو النهى عن رذيلة ، أو النفع الظاهر أو الخفى فى شتى صوره ، إنما تعمل هذه الأشياء أو القيم الإنسانية فى الفن للتعبير عن الحقيقة الجمالية (1) .
ولا مفر للناقد من
التزود بمبادىء علم الجمال Aesthatique
" الاستاطيقا ".
فالجمال والنقد توأمان لا ينفصلان . ودراسة الناقد لمبادئه ، توسع مداركه ، وتجمل نقده .
ومن أول أعمال الناقد تعرف صفات جمال العمل الأدبى وقيمها ، وما يحدث فى وجدانه من متعة جمالية أشبه ما تكون بالظمأ الوجدانى ، وهو ظمأ إلى النظام والتناسق والتوازن والإيقاع فى العمل الأدبى وما يحدثه من إحسـاس فـى الشـعور والوجدان (2) .
وقد أسهم علم الجمال فى توجيه الدراسات النقدية إلى ما يلى :
1- استحضار معنى الجمال أمام كل عمل فنى .
والجمال فى الأدب وسائر الفنون يعنى ويقتضى أشياء كثيرة منها :
أ ) الأصالة والصدق ، والبعد بالعمل الفنى عن الزيف
والكذب والتصنع.
ب) حرية الأدب والفن ، وهى حرية غير مطلقة ؛ وإنما يقيدها الأدب والفن بقيوده ، وهى قيود فى صالح الحرية وصالح الفن فى آن .
ــــــــــــــــــــــ
(1) أنظر النقد العربى الحديث / أصوله ، قضاياه ، مناهجه / د / محمد زغلول سلام /15/16.
(2) انظر النقد الأدبى من خلال تجاربى / مصطفى السحرتى / 122 .
ج)
الإنسجام والتناسب والتناسق والاتـزان ، وبعـبارة أعـم وأشـمل
" حسن التقويم " .
د ) النشوة ، وهى غبطة ترتبط بالروح ، ولها صلة بالأخلاق وتؤدى إلى السعادة ، وهى غير الشهوة ، التى ترتبط بالجسد ، ولا تؤدى إلا إلى خفة الطرب ، والهذيان الحركى .
2- محاولة التفرقة بين الفن وظله ، أو بين الإبداع والصناعة .
3- أسهم علم الجمال فى تغذية الذوق السليم وتنميته وتكوينه وللذوق الكلمة الأولى والأخيرة فى إدراك الجمال وتقديره وينبنى على هذا أن الناس لا يدركون الجمال ولا يقدرونه بدرجة واحدة ؛ لتفاوت أمزجتهم بصفة عامة ، واختلاف المزاج الشخصى الوقتى بصفة خاصة ، وهذا يفسر اختلاف رؤية الناس إلى شىء ما باعتباره جميلا وقبيحا ، ومقدار جماله وقبحه ، وتغير نظرة الفرد الواحد ـ باختلاف عمره ـ .
ومما تجدر الإشارة إليه أن من الباحثين فى علم الجمال من يرجعه إلى معايير ومقاييس ليحقق من خلالها التناسق والتناسب ، والناقد الذى يتبع هؤلاء الباحثين يكون نقده أقرب إلى الفكر والعقل منه إلى الوجدان والمشاعر والأحاسيس .
4- ارتباط الجمال بالحق ، وفى هذا يرى العقاد (1) أن الجمال إذا بلغ أقصى أثره فى النفس لم يصرفها عن الحق ، وكذلك الحق إذا بلغ أقصى أثره فى النفس لم يصرفها عن الجمال وفى مجال الأدب لا يتصور أن يضحى الأديب بالمعنى الصادق إيثاراً لجمال الأسلوب ، فإن فعل ذلك فلسبب من سببين :
أحدهما : أن يكون التعبير عن المعنى الصادق بأسلوب جميل مستحيلا ، أى يكون مقضياً على هذا المعنى الصادق بألا يبرز إلا فى قالب دميم من اللغة والأسلوب ، وهو ما لا يقول به أحد .
ثانيهما : أن يكون الأديب نفسه عاجزاً عن إفراغ ذلك المعنى الصادق فى قالب بليغ جميل . وبهذا يكون عاجزاً عن الصدق وعن الجمال معاً .
النقـد وعلـم النفـس :
علم النفس من العلوم التى تساعد الناقد على التعرف على شخصية الأديب وسماته الخلقية والفكرية ، وربطهم بأعماله الأدبية . كما أن علم النفس أسهم فـى توجيه الدراسات النقدية إلى عدة مسائل هامة منها :
1- استغلال مقياس " الاستقصاء النفسى " لأديب بعينه أو عدة أدباء بأعيانهم ، لتوضيح العلاقة بين الحالة الذهنية للأديب ـ أو الأدباء ـ وخصائص النتاج مع كل .
ــــــــــــــــــــــ
(1) ساعات بين الكتب / 44 وما بعدها .
2- البحث فى عملية الخلق والإبداع ، وكيف تتم ، وما تشف عنه من مقدار حيوية الشعور ، ومعايير الاتزان النفسى الفردى والجماعى .
3- استعار النقد من التحليل النفسى الفروض الأساسية عن عمل العقل الباطن (اللاشعور) ، وطريقة تعبيره بالتداعى عن رغباته الكامنة (1) ، ومعرفة أثر العقد النفسية ، وأثر التوتر النفسى على نتاج الأديب من خلال إلقاء الضوء على العمل الأدبى واستكشاف أبعاد التجربة ، وتفسير الدلالات الكامنة وراء العمل الأدبى .
4- وأخيراً يجب أن نوضح أن الميدان النفسى وسيلة هامة للتعرف على المثل العليا فى الحياة وهى الحق والخير والجمال فالجمال هو المثل الأعلى للوجـدان ، والحق هو المثل الأعلى للفكر ، والخير هو المثل الأعلـى للارادة ، وكل من الوجدان والفكر والإرادة مظاهر للشعور ، الذى يتذوق الجميل ، ويتعرف على الحق ، ويتحسس الخير (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر النقد الأدبى ومدارسه الحديثه / ستانلى هايمن . ترجمته / إحسان عباس / محمد يوسف نجم / دار الثقافة / 1958 /1/10 وما بعدها .
(2) انظر الأصول الفنية للأدب / عبدالحميد حسن /10 .
ـ النقد وعلم الاجتماع :
لعلم الاجتماع أهمية كبرى لا تقل عن علم الجمال وعلم النفس فى توجيه
الأعمال الأدبية فهو يتناول النظم الاجتماعية والأجواء والأنشطة الحضارية وسائر
الأوضاع السياسية والأخلاقية ، بالإضافة إلى معطيات العصر
الدينية ، وكلها ظروف تحيط بالأديب ، وتؤثر على نتاجه الأدبى شكلاً وموضوعاً . كما
أن النظام الثقافى فى عصر ما يطبع الأديب بطابع خاص . فالطبقة الارستقراطية تميل
لأدب البرج العاجى واصطناع " نظرية الفن
للفن " ، والبرجوازية ترفع الأعمال
التى ترسم عادات المجتمع ، والديمقراطية تميل إلى أدب الانتقاد ، أما فى عصر
الأزمات والمحن فيطفو الأدب الرمزى ، وتتجلى روح الصوفية فى الأعمال الأدبية ([1]) .
كما يسهم علم الاجتماع فى الوقوف على
التقاليد والعادات التى تمثل الخلفية الفنية وراء عمل الأديب . الذى هو صورة لحياة
المجتمع من حوله . فإذا عرفنا
ـ
على سبيل المثال ـ أن أدوات الحرب فى العصر العباسى كانت لا تعدو السيف والرمح
والدرع والنبل ، وعرفنا أن التميمة هى علاج الجنون فى هذا العصر ، سهل علينا فهم
قول المتنبى فى مدحه سيف الدولة ، وتهنئته بانتصاره على الروم فى موقعة "
الحدث " سنة 343 هـ :
بَناها فَأَعلى وَالقَنا تَقرَعُ
القَنا |
|
وَمَوجُ المَنايا حَولَها مُتَلاطِمُ |
فقد أشار المتنبى إلى أدوات الحرب المشهوره فى عصره وفى زمانه وهى الرماح والسيوف ، كما أنه أشار إلى البلدة التى فتن الروم أهلها عن دينهم ـ ونسب إليها الجنون وكان الجنون يعالج فى هذا الزمان بالتمائم ، وقد أتى بها من جثث القتلى من الأعداء الى علقها سيف الدولة الحمدانى على أبواب القلعة . كل هذه المعطيات الاجتماعية يستطيع الناقد من خلالها إبراز جوانب العمل الأدبى ، وتوضيح ملامحه .
ـ النقد وعلم التاريخ :
لا مفر للناقد من التعرف على التاريخ الفنى
للأعمال الأدبية والفنية ، فكل عمل أدبى ظاهرة تاريخية ، وثمرة فترة زمنية معينة ،
وحضارة ، ومعرفتنا للعصر الأدبى الذى ولد فيه العمل الأدبى ، والثقافة التى انتشرت
، والمذهب الأدبى الذى ساد ، جميعها وسائل إنارة وتوضيح لماهيات العمل الأدبى ،
فإذا أردنا أن نحكم على عصر من العصور حكما صحيحاً واقعيا لا تشوبه شائبة فلابد أن
نتعرف على هذا العصر عن قرب ، فتقديرنا لأدب العصر الجاهلى ، أو الأموى ، أو
العباسى ، أو الكلاسيكى أو الرومانسى الخ لن يكون صحيحاً إلا إذا رجعنا إلى معرفة
تاريخ هذا العصر بمذاهبه ، وثقافته ، وحضارته . أما إذا حكمنا على هذا الأدب بمقاييس
عصرنا
الحاضر ، فقد يشوب هذا الحكم التعسف والظلم .
هذا بالإضافة إلى أن معرفة التاريخ تساعد على
تحقيق النصوص
الأدبية والفنية .
ـ تعقيــب :
من المؤكد أن حاجتنا إلى المعارف البشرية فى النقد قائمة ولكنها حاجة مقدورة بقدرها ، وليست مطلقة ، وعلى الناقد أن يحسن استخدامها ، ولا يسمح لنفسه أن تضل فى نظرياتها ، فهو يستخدمها على الوجه الذى لا ينقله من مجال النقد إلى مجال علمى ، فإذا غرق فى الدراسات الجمالية تحول إلى فيلسوف ، وإذا مال إلى الدراسات النفسية تحول إلى طبيب نفسى ، وإذا غرق فى الدراسات الاجتماعية والتاريخية تحول إلى باحث اجتماعى أو عالم تاريخ وينبغى أن يذكر دائماً أنه يبدى رأيا فى الأدب ـ أو الفن ـ وليس رأيا فى النفس أو الجمال أو الاجتماع أو التاريخ ، والفائدة التى تنتج من هذه العلوم هى فى المحل الأول فائدة تخدم النقد ، وإلا جاء النقد ضعيفاً وغير أصيل .
ولا ندعو إلى إهمال هذه العلوم ، بل نلجأ إليها وفق ما تقتضيه الحاجة إليها ، فهى تساعد الناقد فى تقويمه وتقديره وحكمه . والناقد له كل الحرية فى إنارة العمل الأدبى المنقود ، فله أن يرجع إلى علم الجمال ، أو علم النفس أو علم الاجتماع أو التاريخ شريطة ألا يغرق فى هذه العلوم ومهما يكن فالمعتبر فى النقد هو الذوق السليم ، وما سواه من المعارف والعلوم عوامل معينة فى تربية الذوق وصقله شريطة أن يسلم هذا الذوق من العصبية والهوى .