النثر في عصر النبو
النثر في عصر النبوة :
مما لا شك فيه أن القرآن الكريم كان عاملاً مهماً في الارتقاء بالنثر الفني العربي ، ولعل الدليل على ذلك بلاغة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) الذي أُوتي جوامع الكلم ، والرسول من العرب ، والعرب أهل فصاحة وبلاغة .
كما كان للخلفاء الراشدين (رضوان الله عليهم) مكانة عالية في البيان والفصاحة ، برهن عليها ما ورد عنهم من آثار رفيعة .
وقد فهم العرب كلام الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) ، ووقفوا على مراميه ومعانيه ، وردوا عليه ، كما جادلوه وحاوروه وناقشوه في كل ما قال .
وخلاصة القول عن النثر في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، أو بمعنى آخر النثر في العهد النبوي أو النثر في عهد النبوة ، أنه لم يكد يختلف اختلافاً جوهرياً عن النثر في العصر الجاهلي ، من الناحية الشكلية المتعلقة بوصف الألفاظ والأساليب المتبعة فيه .
والسبب في ذلك أن شكل الحياة العربية نفسه لم يكن قد تغير تغيراً جوهرياً بعد ، فالبيئة هي البيئة ، والعناصر البشرية التي تشكل المجتمع تكاد تكون واحدة ، مع الاختلاف بالطبع في الفكر والعقيدة .
أما الموضوعات أو المضامين فإنها بلا شك قد تغيرت تغيراً محسوساً بظهور الإسلام ، لأن الإسلام وجه عقول الناس وأحاسيسهم توجيهاً جديداً ، كان له أثره الكبير المشاهد في لغتهم وأساليبهم التعبيرية .
لماذا تطور النثر في العصر الأموي ؟
أما عن النثر في العصر الأموي (41 هـ ـ 132 هـ) ، فقد بدأت مرحلته زمنياً منذ أن بويع/ معاوية بن أبي سفيان (41 هـ ـ 60 هـ) ، بالخلافة ، وتطورت الحياة في هذا العصر .
فالنظام العام للدولة تغير فبعد أن كانت الدولة خلافة دينية تقوم على أساس الشورى وتبادل الرأي ، أصبحت ملك ذاتياً يتوارثه الأبناء عن الآباء .
أضف إلى ذلك الفرق المذهبية والسياسية ، وما أحدثته من مناظرات ومحاورات دفاعاً ومناصرةً لأحزابهم .
وعليه لا حظنا أن الفن النثري من كتابة ، وخطابة ، ومواعظ ، ونصائح ، وتوقيعات ، أصبحت لها قيمتها الاجتماعية في هذا العصر ، فقد أصبح الكاتب والخطيب من الموظفين الرسميين في الدولة الأموية ، يقدم لهم كل العون والتشجيع .
وإذا كانت الخطابة قد نشأت قبل الإسلام ، والتوقيعات ظهرت مع خلافة الفاروق / عمر بن الخطاب (رضي الله عنه ) [13 هـ ـ 23 هـ ] ، وأثناء الفتوحات الإسلامية ، فإن فن الكتابة كانت له بدايات قديمة لا يمكن إن يتجاهلها أي باحث ، ولكنه ظهر بوضوح وجلاء مع التدوين العام الذي ظهر خلال العصر الأموي .
كما نشأ الفن النثري الذي اتخذ صورة الحوار والمناظرة ، وإن كان فن الحوار قد عرفه العرب قديماً ، وقد ظهر في أشعارهم ، وفي أسباب مضارب أمثالهم ، إلا أنه أصبح أكثر تنظيراً كفن أدبي من فنون النثر في العصر الأموي .
وفيما يلي سنتحدث عن أثر القرآن الكريم ، والحديث النبوي الشريف ، في فنون النثر الأموي : ـ
صلة القرآن الكريم بالنثر الأموي :
كان القرآن الكريم وما يزال حتى لحظتنا الراهنة هو المعين اللغوي والأدبي والأسلوبي لكل فنون التعبير الأدبي ، بل هو المصدر الأساسي الذي يعكس لغة العرب .
والسبب في ذلك : أنه نزل بلغتهم ، وقد أحبه العرب وتعلقوا به بعد أن فهموه ووعوه ، لما فيه من إعجاز بلاغي من كل الوجوه ، فلا هو مما يدور على ألسنة كُهانهم ، وغيرهم من خطبائهم الذين بلغوا الشأو الأكبر من الفصاحة والبلاغة ، وإنما هو نمط فريد أو نسيج وحده ، فصلت آياته بفواصل تطمئن عندها النفس ، وتجد فيها ، وفي كل ما يتصل بها من ألفاظ روحاً وعذوبة وصفاءً وسكينةً .
وانتشر القرآن الكريم في العالمين مع انتشار الدين الإسلامي ، وانتشرت لغته الجميلة بأسلوبها البديع العذب .
ويرجع الفضل في جمع لغة العرب على لهجة واحدة ، وهي لهجة قريش التي أصبحت لغة يفهمها كل من قطن الجزيرة العربية شمالها وجنوبها ، يرجع الفضل في ذلك إلى القرآن الكريم ، لأن القرآن عمل على تقريب ما بين هذه اللهجات من فروق .
وقد حث الإسلام على حفظ القرآن الكريم وترتيله ، كما في قوله سبحانه وتعالى : {ورتل القرآن ترتيلا} [المزمل : 4] .
أي اقرأه على تؤدة وتبين حروف ، بحيث يتمكن السامع من عدها وفهمها ، من قولهم : رتل الشيء يرتل رتلاً ، أي تناسق وانتظم .
والمعنى : إحسن قراءة القرآن بهدوء ونظام ، كي يفهمه الناس ، ويدركوا معانيه ومراميه .
ولذك كثر الحفاظ ، وتسابقوا في قراءة القرآن الكريم وحفظه وتلاوته ، وبذلك حفظ القرآن اللغة العربية ، كما أنه جعلها لغة ذات دين سماوي .
ليس هذا فحسب ، ولكنه هذب اللغة من الحوشية ، ومن اللفظ الغريب ، وارتقى بلغة الحوار والتعامل ، وذلك بعد ما تأثر العربي بألفاظه وأساليبه .
ونظراً لتمسك العربي بالقرآن وأسلوبه ، فقد أثر ذلك في فنون القول العربي ، فعلى هديه أخذ الخطباء والكتاب والشعراء يقتبسون منه ، أو يأخذون ألفاظه وأساليبه وصوره في النثر والشعر .
وأصبح القرآن الكريم هو المعجم اللغوي والأدبي الثري ، الذي ساروا على هداه ، وتأثروا به في الأساليب والصور و الألفاظ .
ووقع القرآن في القلوب وسكنها ، فأصبح حجة ما بعدها حجة في كلام الأديب أو الشاعر ، بل خير وسيلة في الحكم على جميع الفنون القولية ، ولا نبالغ إذا قلنا أنه أضحى خاصية فنية من خصائص العمل الأدبي .
صلة الحديث الشريف بالنثر الأموي :
أما الحديث فترجع أهميته إلى أن القرآن الكريم يذكر أصول الدين الإسلامي وأحكامه مجملة دون تفصيل ، فكان الحديث النبوي يفصل المجمل ، ويفسر المبهم ، ويوضح ما يحتاج منه إلى توضيح .
وأصبح الحديث النبوي يأخذ المكانة الثانية بعد القرآن الكريم ، أي أنه يعتبر المصدر الثاني للتشريع الإسلامي .
وقد حفظ الحديث النبوي حفاظ كانت لهم درجتهم ، ومكانتهم الاجتماعية ، لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) نهى عن كتابة كلامه في حياته ، حتى لا يختلط بالقرآن الكريم .
ونظراً لما تميز به أسلوب الحديث النبوي من بلاغة ، وحسن أداء ، وهذا ليس بغريب عن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ، العربي الذي لا ينطق عن الهوى .
فقد اقتبس منه الكتاب والشعراء والخطباء مادتهم اللغوية ، نظراً لأنها أقوال موجزة معبرة ، تحمل دلالات وإيحاءات واسعة .
وإذا كنا قد عرضنا لأثر القرآن الكريم في النثر الفني ، وصلة النثر به ، فإن الحديث النبوي الشريف كان له أكبر الأثر في الفنون القولية العربية ، وإن كان لا يصل ـ بالطبع ـ إلى أثر القرآن وبلاغته ، لأنه دونه في البلاغة ، وإن كان قائله أبلغ العرب قاطبة ، وأفصحهم .
ويكفي الحديث النبوي أنه ساعد على إثراء اللغة العربية ، كما كان له الأثر الواضح في توسيع المادة اللغوية ، بما أوضحه الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) من ألفاظ دينية ، وفقهية ، لم تكن تستخدم من قبل الاستخدام الخاص .
هذا ، وقد استمد الأدباء من هذا المنهل العذب الكثير الثمين في رسائلهم وخطبهم وأشعارهم ، مما أضاف إلى إبداعهم الأدبي رونقاً ، وحلاوة .
وقد جاء في حديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) أحرف قد تبدو لنا غريبة ، ولكنها في الواقع هي من لغات القبائل العربية ، إذ كان يخاطب بعض وفودهم بلغاتهم ، مثل الحديث الذي أبدل فيه (ال) بـ (أم) كما يصنع العرب من حِمير اليمنية .
وكانت هذه الاختلافات اللغوية سبباً في نشأت الكثير من العلوم اللغوية ، نضيف إلى ذلك علوم مصطلح الحديث وما يتعلق بها ، مما ساعد على نهضة علمية كان لها أثرها الكبير على العالم أجمع .
والله ولي التوفيق ،،،
يسري عبد الغني عبد الله
![]()