فــــــن الزخــــ
فــــــن الزخــــرفــة على المنسوجات الإسلامية
عرف الإنسان صناعة النسيج منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، وثمة صور لمنسوجات وأزياء حريرية يرتديها الفراعنة في مصر تبدو في صورهم المنقوشة على جدر المعابد، وكذلك التماثيل بألبستها ذات الطراز الفرعوني الخاص.
وفي بلاد الرافدين نرى أختاما تتمثل بصور ملوكها الأشوريين والأكاديين يرتدون الأزياء المنقوشة والمتدرجة بثنايا وطبقات كالتنانير وغيرها، مما يظهر فن الحياكة والتطريز ونسج الحرير والقطن منذ آلاف السنين، ثم حضارة الإغريق، حيث الأزياء المخملية الرائعة الموشاة بالذهب المقصب والمطرز، خصوصا أزياء الأباطرة والملوك والقياصرة المرصعة باللآلئ والمجوهرات، حيث أتقنوا فنون الأزياء بكل طرز تزيدهم فخامة وإجلالا ورهبة، وورثوا موهبتهم تلك لقياصرة الرومان وملوكها من أهل بيزنطة.
ونظرا للحديث عن الألوان نعود بالتاريخ إلى سواحل البحر المتوسط ونرسو على شاطئ صور، حيث نرى الفينقيين وما اخترعوا من ألوان أهمها اللون الأرجواني الأحمر الذي شُغف العالم القديم به وسارع إلى شرائه وطلاء أنسجته الحريرية به، حيث اختص بلون الملوك الممزوج بدماء عشتروت وأدونيس الأسطورة.
وكذلك نرى الحرير الهندي الناعم الملمس، متزاوجا مع فنون النسيج الصيني، والذي طالما استخدم في الجزيرة العربية واليمن، وخصوصا في بلاط بلقيس التي أغدقت الذهب والمرجان واللآلئ على أثوابها وحاكت طنافسها وسجادها من الحرير الأحمر المزركش بألوان اللازورد والفيروز والعقيق.
وشهدت بلاد أصفهان بدورها تجارة الحرير منذ آلاف السنين، أثوابا ولوحات تصويرية وسجادا ما زال يحتل المرتبة الأولى في العالم.
وكان لكل عصر أسلوبه وطرازه.
وأبدع المسلمون عبر عصور دولتهم، من الأموية، حتى العثمانية، في فنون النسيج، وكانت لهم طرزهم الخاصة المنسجمة مع حضارتهم وتعاليم دينهم.
وفي هذا السياق تهافت النساجون على حياكة سجادة الصلاة، فكانت تنسج عليها صورة الكعبة الشريفة والمدينة المنورة. وبما أن الإسلام حرم تصوير الأشخاص، رسما أو نسجا، لذا نرى أن النساجين انكبوا على صناعة النسيج بمختلف أشكاله برسومات للزهور والنباتات والأشكال الهندسية، وأهم ما برعوا فيه نسج آيات قرآنية موشاة بخيوط قصبية مذهبة على المخمل الأسود. كذلك عشق الساسونيون في بلاد أصفهان رسوم الطيور والحيوانات والأزهار والأشجار واستمر هذا في نسيجهم وتصاويرهم حتى بعد ظهور الإسلام، متأثرين بحضاراتهم السابقة، كما أبدعوا في الألوان الفيروزية الموشاة بالذهب.
كذلك كان السجاد والبسط من أروع المنسوجات في البلاد الإسلامية على الإطلاق، مع أنه بدأ في منطقة شبه الجزيرة العربية، حيث كان يسكنها البدو الرحل الذين يصنعون بسطهم وسجادهم وألبستهم من وبر الجمال والماعز، وكانت صناعة البسط عندهم تعرف بالسدو، ولها أسلوبها وتقنيتها الخاصة، كما كانوا يجمعون ألوانها بطريقة هندسية خاصة متقابلة الألوان والتعرجات، حيث لم يكن لديهم وفرة من المال واليسر للتطور بها إلى حد نعومة الملمس، ولكنها كانت توفر الدفء في الشتاء وتلائم طبيعة الصحراء.
مشاغل مصر
تعمل لخلفاء بغداد
كانت مشاغل النسيج في مصر تعمل لمصلحة خلفاء بغداد العباسيين، ولوحظ ذلك في بعض القطع المنسوجة أسماء صانعيها ومصدر البلد التي صنعت فيه، كمدائن الدلتا وتينيس والإسكندرية ودمياط، ولم يتبق سوى أشرطة طويلة مذهبة أو ملونة تبرز على النسيج الكتاني أو الحريري في ذلك العصر.
وبرز حسن الصناعة والحياكة والمهارة في النسيج في العصر الفاطمي، حيث الزخارف المتعددة الألوان والرسومات الدقيقة المنسجمة مع الألوان، المحتوية صورا للحيوانات.
كذلك اشتهروا بصناعة أقمشة الساتان والمخمل والبروكار الموشى بخيوط معدنية، ويعتقد أنها مستوحاة من صناعة النسيج في بلاد الفرس أو مستعارة من عناصر الفن الصيني.
أما في العصر المملوكي فازدهرت صناعة النسيج والسجاد في سورية ومصر، حيث لفت الأنظار سجاد دمشق، الذي انتشر بشكل واسع في أوروبا عبر مرفأ البندقية الذي تردد ذكره في سجلات الأسر العريقة.
وصنع سجاد دمشق من خيوط الصوف الخالص، وبعض نماذجه موجودة في متحف متروبوليتان، ومتحف فيكتوريا والبرت في لندن، ولكبر مساحة السجادة يعتقد أنها تستخدم في مسجد أو قصر.
بدورها، اشتهرت مصر بصناعة سجاد الحرير، كذلك المغرب والأندلس، ويعود أسلوب حياكة هذا النوع من السجاد في تلك البلاد للعصر الفاطمي، لأن الزخارف الهندسية والنباتية والكتابات كانت تحمل الطابع الفاطمي المستخدم في الأنسجة والتصاوير على الأواني الزجاجية...
وما السجاد المملوكي إلا استمرار لهذا النوع من الصناعة التي ما لبثت أن امتدت لتشمل بلاد المغرب والأندلس. وتوجد في القسم الإسلامي في متحف برلين سجادة أرضيتها حمراء وإطارها أبيض والزخرفة كوفية، وأشكال هندسية لقنديل متكرر فوقه مقام. ولكن اللافت في السجاد الأندلسي في القرن الخامس عشر رسوم الأسر الملكية وكتابات كوفية، واشتهر بطوله، حيث استخدم في المعابد والكنائس.
وتحفل المعابد الإسلامية بالكثير من السجاجيد الأندلسية، وتعتبر بلاد القيروان في تونس شهيرة بصناعة السجاد، كذلك المغرب، خصوصا منطقة مراكش، حيث الكثير من مصانع السجاد الشبيهة بسجاد دمشق ومصر، لكن طرازها مغربي متأثر بالأشكال والرسوم الأوربية والمشرقية في البروكار على الأنسجة المستخدمة في مطرزات الحرير للنساء في القصور، وتبرز فيه رفعة الذوق المغربي في فن التطريز على الحرير والمهارة اليدوية بالزخرفة وانسجام الألوان في الستائر والطنافس المغربية.
التأثير الصيني
تزخر المنسوجات الإيرانية في تبريز ويزد وكاشان وأصفهان، بالتأثير الصيني، الذي أتحفها وأشغل مساحات واسعة من سجادها المتألق بصور الطيور الصينية ومناظر الطبيعة، حتى غدت لوحة فنية من الطبيعة، من زرقة السماء إلى بياض الطيور والألوان الحمراء المتدرجة في الزهور واخضرار الأشجار المتسلقة والمتحورة.
لقد مر السجاد بعصور طويلة قبل أن يصل إلى متاحفنا: عبر قصور الساسانيين والعباسيين والسلاجقة والمغول... من القرن العاشر حتى السادس عشر. وفي كل عصر كان يتجلى بحداثة أجمل، ولكنه عند مرحلة الإبداع استقر في مصانع النسيج الحريري، خاصة في تبريز وكاشان وهراة وأصفهان. وما زال اسم هذه البلاد يلمع ليومنا هذا ويتزاحم في طلبه الشرق والغرب.
وأغدق ملوك الشاهان على الفن بكل نواحيه ثروات بلادهم، ليتحدث عن عصرهم بعد زوال ملكهم ولو مرت آلاف السنين، ومن أشهر سجاجيدهم تلك التي كانت موجودة على ضريح الشيخ صفي الدين جد ملوك الأسرة الصفوية، وهي تحفة نادرة المثال، طولها 11.51 متراً وعرضها 5.34 متراً محفوظة الآن في متحف فكتوريا وألبرت في لندن.
وأغرى السجاد والنسيج الإيراني المصنوع من الصوف والحرير، السلاطين والملوك والأمراء من أوروبا إلى الشرق الأوسط، وازدانت به قصور الأباطرة في بلاد الغال وجذب سلاطين بن عثمان، حيث استقدموا أمهر الفنانين والنساجين الحرفيين الإيرانيين، وأول من استقدمهم السلطان سليمان الثاني في منتصف القرن السادس عشر، حيث كانت صناعة السجاد الإيراني في أوج مجدها، وقدموا من تبريز وأصفهان وكاشان وهراة ليحيوا مصانع النسيج في مدن: (بورصة) و(أوجال) و(قولا) و(بورديز)، التي اشتهرت فيما بعد بصناعة السجاد الصوفي التركي، لكنه كان أصغر والتقليد كان واضحا وجليا في بعض الموضوعات كالتزهيرات الفارسية.
وقد فرض السلطان سليمان الثاني بناء مصانع النسيج للحرير في جميع بلدان حوض البحر المتوسط وفي مصر وفي كل أنحاء الإمبراطورية العثمانية، لذا كانت ملابسهم من الحرير الموشى بخيوط الذهب والفضة والمرصع بالأحجار الكريمة. كذلك ملابس حريمهم كانت مترفة إلى حد الإبهار من حيث نسيج الحرير والتطريز بخيوط الذهب والفضة واللآلئ والمجوهرات الباهظة الثمن. وكانت صناعة السجاجيد التركية تزدهر وتعم جميع البلاد حتى باتت مصدرا غنيا منعشا لاقتصاد تركيا، وكان يصمم على مساحات واسعة للإهداء لبلاط قصور ملوك وأباطرة أوروبا.
وقد انتشرت أيضا سجاجيد الصلاة بخيوطها الحريرية وعليها صور الكعبة الشريفة والمدينة المنورة، ووصلت تلك السجاجيد إلى أفريقيا الشمالية، حيث قامت مشاغل النسيج الحريري ومصانع السجاد بتقليدها تقليدا تاما. وهناك السجاد المعقود من الحرير الذي اشتهر في تركيا واستمرت صناعته حتى القرن التاسع عشر.
وهكذا، فإن متاحف أوروبا تزخر بمقتنيات من أروع ما شغل من نسيج حريري وسجاجيد من الصوف والحرير حافظت عليها، لتصل إلينا عبر نوافذ زجاجية نراها متحسرين على مجد زال.