أبن مسكويه – كنموذ
أبن مسكويه – كنموذج للتفكير الإسلامي عند فلاسفة الإسلام
يعتبر أبو علي أحمد بن محمد مسكويه (330-421هـ) من فلاسفة المسلمين الذين اهتموا بالأخلاق اهتماما خاصا 0 فقد راينا أكثر الفلاسفة يتعرضون لخلود النفس ومشاكل الاخلاق بصورة عرضية بالنسبة لفلسفتهم العامة ، اما مسكويه فقد اتجه إلى دراسة الاخلاق اتجاها كاملا وألف عدة كتب في الأخلاق مثل تهذيب الأخلاق والفوز الأصغر والحكمة الخالدة بالإضافة إلى عدة كتب أخرى فلسفية وطبية وتاريخية (16)
ويعبر ابن مسكويه أحد فلاسفة المسلمين الذين عنوا بالتوفيق بين كثير من آراء الفلاسفة الإغريق ليكون منها نظام واحد منسجم من ناحية ،وبالتوفيق بين الدين والفلسفة من ناحية أخرى وله بجانب هذا نزعة اجتماعية وأخرى عملية ، وجهد غير يسير في علاج ما أراد معالجته من مسائل في علم الأخلاق (21) 0
حتى لقد قيل إذا كان الكندي تلميذا لليونانيين في الطبيعة وهو فيلسوف العرب في هذا الباب ، وذا كان الفارابي هو تلميذهم في المنطلق وهو لذلك " المعلم اليوناني " فمسكويه – ولأول مرة حتى زمانه في التراث أل إسلامي – هو تلميذ اليونانيين في ميدان الأخلاق وهو لهذا " المعلم الثالث " (22)
آراؤه الأخلاقية
يبدأ مسكويه بتعريف الخلق بأنه " حال للنفس الداعية لها إلى افعالها من غير فكر ولا روية " وهذه الحال منها ما يكون طبيعيا كالذي تسوقه فطرته ومزاجه للبذل أو الامساك أو الجبن أو الشجاعة ونحو هذه الخلال ، ومنها ما يرجع للعادة والمرانة كالذي يتعود الصدق في القول والشجاعة في العمل ويستمر على ما تعود حتى يصير له خلقا راسخا 0 فالذي فطر على نحو معين يدعو إلى كذا من الأفعال لا يتعذر عليه ان يغير مما فطر عليه ، لأن الرأي الذي انحاز إليه أبو على 0
بحق هو أننا قابلون للتخلق بالأخلاق المختلفة أما بسرعة أو ببطء يشهد لذلك الواقع وملاحظة انتقال الصبي الناشئ من حال لحال تبعا للبيئة التي تحوطه ولنوع التربية التي يتلقاها ولأن الرأي الذي يقول بأن من له خلق طبيعي لا ينتقل عنه يؤدي إلى إبطال قوة التمييز والعقل وإلى رفض السياسات كلها وترك الناس همجا مهملين وإلى ترك الأحداث والصبيان على ما يتفق ان يكونوا عليه بغير سياسة ولا تعليم وهذا ظاهر الشناعة جدا وليس من الضروري ان نقول ان الشرائع كلها تعد هذا الرأي وإلا لم تكن ولم تكن النبوات 0
ومسكويه يتعرض بعد هذا لتفاصيل تبين فيها عدم استقرار فكره ورأيه أنه بعد أن أكد قابليتها لمختلف الأخلاق ومن هنا كانت الحاجة إلى الشرائع والتأديبات ، نراه يزيف قول الرواقيين الذين رأوا ان الناس خلقوا أخيارا بالطبع ثم تعمل البيئة عملها فيتحول بعضهم للشر ثم يتبعه بتزييف الرأي المقابل ثم يحكي رأي جالينوس الذي يذهب إلى ان من الناس الخير بالطبع الذين لا ينتقلون للشر وهم قليلون والشرير بالطبع الذين لا ينتقلون للخير وهم كثيرون والمتوسطين بين هذين الضربين وهؤلاء ينتقلون للشر أو الخير حسب البيئة التي ينشئون فيها وأخيرا يتعرض لرأي أرسطو أن كل خلق يمكن تغييره فلا يكون إذن شيء منه بالطبع 0
والآن نتساءل : ما رأيه الخاص بعد ان عالج المسألة كما يفعل أرسطو بعرض الآراء التي فيها ومناقشتها : هل هو يوافق جالينوس ؟ كيف وهذا يرى ان بعض الأخلاق لا يمكن تغيرها في بعض الناس فتكون الشرائع والتأديبات لا جدوي منها لهم وهي العامة التي ينال خيرها الناس جميعا ؟
أو هو مع أرسطو في ان كل خلق يمكن تغيره ربما كان الأمر كذلك ولكن كنا في حاجة لشيء من الدقة وتحديد الرأي فيما يذهب إليه ولعل في تقويته استدلال أرسطو ما يدل على أنه معه 0
على انه لا يسعنا هنا إلا ان نشير إلى ما قد يظن انه وقع فيه من تناقض أو على الأقل ما يشبهه في أثناء عرضه للآراء في الخلق ، لقد جعل أولا من الخلق ضربا يكون طبيعيا من اصل المزاج ، ذكر وهو بصدد بحث قابلية الإنسان أو عدم قابليته للانتقال من خلق لآخر أن كل خلق يمكن تغيره وإذن فلا شيء بالطبع 0
كيف العمل بهذا الكلام الذي قد يشعر بعدم الاستقرار في الفكر والتناقض في الرأي ؟ بادئ بدء لا يمكن ان تجعل أبا على إلا مع القائلين بقبول الأخلاق للتغير ومن هنا كانت الحاجة للشرائع وجدوى النصائح وصنوف الآداب ، وإذن فلا مناص من التأول فيما قرره أولا من ان الحال النفسي الذي هو الخلق منه ضرب طبيعي وآخر يستفاد منه بالمرانة والعادة 0
وهذا التأول يكون فيما نرى بأن نفهم من ان الحال قد يكون طبيعيا من اصل المزاج، انه قد يكون مناسبا لفطرة المرء ومزاجه الذي خلق عليه فيكون من السهل صدور الأفعال التي تناسبه وتتسق معه ، لا أنه يكون فطرة فطر المرء عليها لا يستطيع منها فكاكا ولا لها تغييرا ولا لما يصدر عنها من أعمال انتقالا 0 وخاصة ان المزاج ليس من ماهية الإنسان حتى لا يتغير بل هو حالة للجسم نتيجة عوامل مختلفة وخاضعة للإرادة فيتغير إذا بفعل التربية ، بذلك يتفق صدر الكلام وعجزه ويزول عنه ما يشتم منه بادئ الرأي من تناقض (21)
رغم تلمذة مسكويه على فلاسفة اليونان ومزجه بين آرائهم لكنه مع هذا يخضع كل هذا لرأي الشريعة الإسلامية وموافقتها عليه ، فمثلا عرف عن سقراط أنه أول من قال : ان المرء لا يفعل الشر وهو عالم به وان الآثم الأخلاقي هو جهل وسوء تقدير 0
مسكويه يتبنى هذا الرأي ويقول انه من المستحيل ان يعمل لإنسان عملا شائنا وهو يعلم انه شائن 0 وكننا نجده يستند إلى ويتأتى وهو عالم به وإن الآثم وهو : لا يزني حين يزني وهو مؤمن 0
كذلك من أمثلة توفيقه بين الفلسفة والدين حين يأخذ عن أفلاطون ان العقل ثابت والحس متغير ، ثم بعدها يؤيد رأيه بالعقيدة الدينية تأييدا جميلا :
المحسوسات كلها مبدلة سيالة لا تلبث على حال واحدة وأما المعقولات فإنها ثابتة أبدا غير متنقلة ولا متحركة ولا قابلة شيئا من أنواع المتغيرات 0 ولهذا كان أفلاطون يسمى عالم الحس العالم السوفسطائي أي المموه ولذلك أذله العلماء وتهاونوا به وطلبوا المعقولات وعظموها ولحقوا بها 0 فنحن إذن محتاجون إلى ان نفطم أنفسنا عن الأوهام المأخوذة من الحواس التي تغالطنا عن المعقولات الصحيحة وهو طلب عسير شديد لأنه مفارقه العادة ومباينة العامة في كثير من نظرها وعلمه صعب والعمل بموجبه اصعب لأن الإنسان كأنه يستأنف لنفسه وجودا غير وجوده الأول 0 ولكن ثمرة لذته غير منقطعة وعاقبته شريفة والظفر بما يؤدي إليه هو الملك الذي لا يزول والنعيم الذي يبيد وأخر ما يفضي إليه الجنة والقرب من الله جل ثناؤه ومجاورته مع الملائكة (16)
وكما أقام معظم فلاسفة الإسلام دراساتهم في الأخلاق على نظرياتهم في النفس كذلك فعل مسكويه 0
النفس وقواها :
الطريقة لتحصيل الخلق الفاضل الذي تنشأ عنه الأفعال الجميلة هو كما يقول مسكويه نفسه – ان نعرف أولا نفوسنا : ما هي وما قواها وملكاتها وغاياتها التي فيها كما لها 0
في النفس لم يشذ عن رأي سقراط وأفلاطون وأرسطو في أنها ليست جسما ولا جزءا منه ولا عرضا له لأنها لا تتغير ولا تستحيل كما تتغير وتستحيل الأجسام كما أنها تقبل جميع الصور حاملة لها بينما الأعراض محمولة أبدا موجودة في غيرها لا قوام بذاتها 0
ومن ناحية أخرى فالجسم بأمزجته المختلفة يتشوق لأفعال تناسبه هذه الأفعال لا تدم بينها وبين ما تتشوق إليه النفس من أفعال أخرى مناسبة أو شبها 0
تشوق النفس إذن إلى ما ليس من طباع البدن من علوم مختلفة وحرصها على طلب هذه العلوم وإيثارها وانصرافها عن اللذات الجسمية دليل على إنها من جوهر غير جوهر الجسم 0
والأمر كذلك في بيان قوى النفس وملكاتها فإننا نراه يغترف من معين علم النفس عند الإغريق وبعبارة أدق عند أفلاطون 0 للنفس ثلاث قوى واحدة بها الفكر والنظر في حقائق الأمور وأخرى بها ما يتصل بالغضب والشجاعة من الأفعال ، وثالثة وهي القوة الشهوية يكون عنها ضروب اللذات الحسية وما يتصل بها 0 (21) 0
الفضيلة
يرى مسكويه ان النفس البشرية تتركب من ثلاث قوى : القوة العاقلة والقوة الغاضبة والقوة الشهوانية 0
الأولى موضعها الرأس وفضيلتها التفكير والحكمة ، والثانية موضعها الصدر (القلب) وفضيلتها الشجاعة والثالثة موضعها ( البطن ) الكبد وفضيلتها العفة ، وان كلا من هذه القوى لها وظيفة خاصة تؤدي بجانب وظيفيتي القوة الغاضبة والقوة الشهوانية ولما كانت قوة العقل فضيلتها أسمى من الفضائل الأخرى ، وجب ان تخضع القوتان الاخريتان لها ولا تطغيان عليها لأنه إذا سادت قوة الغضب دفعت الإنسان إلى الجمح في أقواله وافعاله ، وإذا سادت قوة الشهوة وجهته إلى الشرور والبؤس فضيلة هاتين القوتين لا تعتمد إلا بفضل العقل 0 وإذا أدت كل قوة وظيفتها الخاصة على ما يجب ان تكون عليه وحصل انسجام بين القوى الثلاثة في وفاق بدون تعارض أو تناقض ظهرت فضيلة رابعة هي العدالة فهي تجمع الفضائل كليا (22)
ولذلك فقد أجمع الحكماء ان أجناس الفضائل أربع وهي الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة
وهذه الفضائل أوساط بين أطراف هي الرذائل التي تكتنفيها 0 هذا الوسط الذي يكون الفضيلة يظهر من كلام مسكوه انه ليس الوسط الحقيقي الذي نجده في الحساب مثلا 0 هو هدف صعب إصابته كما ن التمسك به دائما أصعب ، أنه وسط يختلف باختلاف الأفراد ويعرف بالإضافة إلى الطرفين الذين يحيطان به 0
على ان مما يعرض للخاطر ويتطلب البحث ونحن نتكلم عن الفضيلة وأنها وسط ، ان بعض الفضائل قد يزيد عن الوسط وبعضها قد ينزل عنه ويكون الخير في ذلك كله فكيف هذا وقد قلنا ان الفضيلة وسط بين طرفين التجاوز عنه ذميم ؟
مثلا إعطاء الغير حقه واقتضاء المرء الحق منه هو العدل الوسط بين الظلم والانظلام ، وتنازل المرء عن بعض حقه هو تفضل محمود ومشكور وربما كان خيرا من العدل المجرد مع انه يزيد عن الوسط والزيادة عنه كالنقصان خروج عن الفضيلة كما قيل !
هنا نجد مسكويه لا يرتج عليه في الإجابة ، انه يرى التفضل لم يخرج عن شرط العدالة التي هي وسط بين طرفيها المعلومين ، غاية الأمر أنه احتياط حازم من صاحبه ليأمن التقصير ويصيب الوسط وبخاصة ان الهيئة النفسانية التي يصدر عنها التفضل هي نفسها الهيئة التي تصدر عنها العدالة 0
ونفهم من ذلك ان الوسط في كلا الطرفين من الأخلاق ليس على وتيرة واحدة ففي البذل الزيادة عن الوسط إذا لم تصل للتبذير خير من النقصان فيه وفي العفة النقصان عن الوسط أفضل من الزيادة أخذا بالحزم في الناحيتين 0
ويرى الأستاذ يوسف كرم بحق في نقده العلمي الذي نشره المقتطف ان حل هذا الإشكال يسير " إذا لاحظنا ان التفضل أو الزيادة عن وسط العدالة بالمعنى الارسطوطالي هو الوسط بالإضافة إلى فضيلة أخرى داخلة في العدالة بالمعنى الأفلاطوني وهي الإحسان الملحوظ في التفضل 0 وإذا لا يكون صحيحا ما سبق ان قرره مسكويه ، من ان الهيئة النفسية التي يصدر عنها التفضل هي الهيئة التي يتصدر عنها العدالة 0
هذا والعدالة ليست في الحقيقة جزءا من الفضيلة العامة ، الفضيلة كلها إذا كانت الفضائل الأخرى ليست بدونها شيئا مذكورا وضدها وهو الجور ليس جزءا من الرذيلة بل هو الرذيلة كلها 0
وإذا كان للعدالة هذا المكان فمتى سعد الإنسان بها وأزانت بها نفسه أشرقت لأنها جمعت فضائل النفس كلها ، وبذلك تؤدي أفعالها الخاصة على أفضل وجه ، ويصير بها الإنسان أقرب ما يكون من الله 0
ولم يفت أبا على التفرقة بين تلك الفضائل العادية وبين الفضيلة الفلسفية ، فقد رأى ان هناك بجانب هذه الفضائل الأخلاقية فضيلة أخرى للنفس هي بها أشبه وأنسب وهي فضيلة الشوق للمعارف والعلوم وطلبها لأن تمام انفس الناطقة هي بالاستكمال بالعلوم والاتحاد بالعقل الفعال
اغلب الظن ان ما ذهب إليه الدكتور موسى ليس فضيلة أخرى بجانب الفضائل السابقة ، وإنما هي كمال فضيلة النفس الناطقة التي تتجه إلى الحكمة وتحصيل العلوم 0 وأما الاتحاد بالعقل الفعال الذي هو تعبير استعمله الفلاسفة الإسلاميون لاسيما الفارابي – فإن مسكويه يذهب تماما إلى ما ذهب إليه أفلاطون بعبارته الشهيرة : التشبه بالله (16)
بقى لنخلص من الكلام على الفضيلة ، لا على الفضائل ان نعرف رأيه في الفضيلة وأنها المعرفة بالمعنى الذي يريد سقراط هل يوافق سقراط أو أن له في المسألة رأيا آخر 0
يضع مسكويه المسألة هكذا : إذا كانت العدالة فعلا اختياريا يجلب الحمد من الناس فهل الجو كذلك فعل اختياري يقصد به الجائر الرذيلة والمذمة لنفسه ، مع أنه من القبيح ان يظن ذلك من العاقل عن رؤية واختيار ؟
يروي مسكويه عن فريق من الحكماء ان إرادة الإنسان لما يضره غير ممكن فإن فعل شيئا من ذلك كأن يسئ الاختيار أضر بنفسه من حيث يريد النفع لها ومثال ذلك الحاسد الذي يضر نفسه معتقدا نفعها بالخلاص من المحسود وأذاه 0
وهذه الإجابة فيما نعتقد تجعلنا في حل من ان نرى فيمن تقدموا بها ان الفضيلة المعرفة عندهم ، فالرذيلة ليست إلا جهلا وسوى اختيار وخطأ في الرأي والحساب 0
وهناك أجابة أخرى تقدم بمها مسكوه ورأى أنها أشد اقناعا من الأولى هذه الاجابة : هي انه لا ينكر من المرء وله قو مختلفة ان تصدر عنه أفعال مختلفة كذلك وقد يخالف بعضها العقل وإذن فقد يقع الشر الاخلاقي من المرء عن إرادة وعلم ، الغضوب إذا أخذه الغضب عمل ما لا يرضاه وهو ساكن وهادئ وصاحب الشهوة إذا جمحت به أقدم على ما ينكره متى هدأت ثورتها وفي هذه الحالات وما يماثلها يستخدم الآثم عقله في تنفيذها ما يريد بدل استشارته ( أي العقل) والمنول على حكمه وترك القيادة له 0 ومن أجل ذلك نرى هذا الآثم إذا زالت عنه الغمرة ندم على ما قدم وتعجب من نفسه وإقدامها على ما فعل 0
وهذه الإجابة وأن كانت أوضحت كيف يقدم العاقل على ما يعده العقل وبالا وشرا هي كالأولى توحي للمرء بأن من يراها يؤمن بأن الفضيلة المعرفة كأصحاب الجواب الأول 0
ولهذا يقول مسكويه بعد ان تقدم بها : " ولذلك نجد العاقل إذا تغيرت أ؛واله تلك فصار من الغضب إلى الرضا ومن السكر إلى الإفاقة تعجب من نفسه وقال : ليت شعري كيف أخترت تلك الافعال القبيحة !
ويلحقه الندن وأنما ذلك لأن القوة هي التي تهيج به وتدعوه إلى ارتكاب فعل يظنه في تلك الحال صالحا له وجيلا به فإذا سكن وراجع عقله رأي قبح ذلك الفعل وفساده وبهذا نري مسكويه قد انحاز إلى سقراط في ان الفضيلة المعرفة وترك أرسطو في هذه المسألة التي لاها خطرها المعروف ( 21)
السعادة
بعد ان يذكر مسكويه قوى النفس وفضائلها وخلودها يذهب إلى ان سعادة الانسان هي الخير التام بحيث لا يحتاج من بلغه إلى شيء آخر وراءه وان من بلغ به الأمر إلى هذه الدرجة من الفضيلة يكون سعيدا في نفسه ، ولا يضره أي ألم جسماني ممن تعارف عليه الناس باسم المصائب أو الشقاء لأنه سعيد بالخير الذي يغمره والذي استطاع ان يتوصل إليه ، ولاشك أن أبا على استقى فكرة الخير من افلاطون الذي قال بها من بين حكماء اليونان 0
نلاحظ توفيقا لطيفا يجريه مسكويه بين افلاطون وأرسطو والشريعة الإسلامية 0 فالسعادة عند افلاطون الحكمة وكذلك مسكويه الذي يقول : ان تحصيل السعادة على الاطلاق يكون بالحكمة ولكنه يضيف ان للحكمة جزءان نظريا وعمليا 0 فبالنظر يمكن تحصيل الآراء الصحيحة وبالعمل يمكن تحصيل الهيئة الفاضلة التي تصدر عنها الافعال الجميلة 0 وإن أرسطو هو الذي جعل الفضيلة على نوعين أحدهما عقلي والآخر أخلاقي 0 ثم يقول ان الله تعالى أرسل الأنبياء صلوات اله عليهم ليحملوا الناس على الأخذ والعمل بهذا الأمرين 0
نجد ان مسكويه رغم انه يوافق افلاطون في حب الحكمة والتطلع إلى الفضيلة الفلسفية والتشبه بالله ولكنه لا ينصح بالزهد والتقشف لأن الإنسان عنده رغبات يجب ان يشبعها على ان يكون وسطا ، أي كما يقول أرسطو : لا إفراط ولا تفريط 0 ولكن مع هذا فاللذة عنده اللذة العقلية التي تجعل الإنسان يشعر بالسعادة القصوى والسعادة هي أكمل اللذات ولا تأتي إلا عن طريق الفضيلة العقلية 0
لم ينس أبو على انه يعيش في مجتمع ولهذا يوجب على الانسان ان يتعاون لأنه مدني بالطبع وهذا القول لأرسطو كما هو معروف يذكره مسكويه فل الفوز الأصغر وتهذيب الأخلاق : ان الإنسان خلق مدنيا بالطبع أعنى أنه لا يستغني في بقائه عن المعونات الكبيرة من الناس الكثيرين وأنه يعين غيره كما يعينه الغير لتتم الحياة الصالحة له ولهم 0
وفي معالجة سكويه لمسألة الخير أل الأقصى أو السعادة القصوى نرى بوضوح تأثره بما ورثه من الثقافات الإغريقية ولهذا فنجد الخير – كما عند أرسطو – أقسام كثيرة لاعتبارات مختلفة تجعل الخير أنواعا غير قليلة 0 فمن الخيرات ما يكون شريفا أو ممدوحا أو نافعا ، الأول ما يكون شرفه في ذاته وبه يشرق صاحبه كالحكمة والثاني كالفضائل ومن يكون عنها من أفعال جميلة ممدوحة ، والثالث كالغنى والجاه وحسن السمعة وغير ذلك من الخيرات التي تطلب لا لذاتها ، بل لتكون سبيلا لأخرى خيرا منها 0
والخير ينقسم على نحو آخر إلى ما هو غاية تامة كالسعادة أو غير تامة كالصحة واليسار وإلى ما ليس بغاية أصلا كعلاج المرضى ولو بقطع عضو مقلا إذا كان ذلك وسيلة الاستئصال المرض واستبقاء الحياة 0
ويمكن أيضا تقسيم الخير إلى ما هو خير دائما وما هو خير في وقت دون وقت ، وعلى كل فهو أما خير لجميع الناس أو لطائفة دون أخرى 9
والسعادة عند مسكويه هي الخير التام في نفسه بحيث لا يحتاج من بلغه إلى شيء آخر وراءه ولكن يوصل إليه إلى سعادات جزئية نسبية ، بعضها مردها للنفس وبعضها لأمور خارجة أخرى 0
والسعادة عند تكون باجتماع أمرين : جماعهما في الحقيقة أمر واحد هو الحكمة 0 " للحكمة – كما يقول – جزآن : نظري وعملي 0 فبالنظري يمكن تحصيل الآراء الصحيحة ، والعملي يمكن تحصيل الهيئة الفاضلة التي تصدر عنها الافعال الجميلة ، وبهذين الأمرين بعث الله الانبياء صلوات الله عليهم ليحملوا الناس عليها " وذلك بأن الشريعة وهي من عند الله تعالى ، " لا تأمر إلا بالخير وإلا بالأشياء التي تفعل السعادة ، وبالجملة تأمر بجميع الفضائل وتنهي عن جميع الرذائل0
وقد ذكر مسكويه انه إذا كانت النفس مريضة وجب علاجها بإزالة ما علق بها من رذائل ، وليبدأ المرء بأعظمها نكاية ,اكثرها جناية 0 وهذه الرذائل كثيرة لكنها تدخل تحت أجناس ثمانية ، لأن طرفي كل فضيلة جنس من الرذائل والفضائل أربع ( الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة ) وهذه الأجناس هي السفه والبله والجور والمهانة والتهور والجبن والظلم والإنظلام0