الإنترنت امتحان ال
الإنترنت امتحان الإيمان والأخلاق والعقول
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله،
أما بعد: فإن الإنترنت ثورة
كبرى في عالم المعلومات، وميدان فسيح لامتحان الإيمان والأخلاق بل والعقول. فالخير مفتوح الأبواب، والشر معروض بشتى الأساليب،
وبإمكان الذي يتعامل مع الإنترنت أن يطلق لسانه بما شاء، وأن يُسَرِّحَ بصرَه كما
يريد، وأن يخط بيده ما يرغب؛ فلا حسيب عليه، ولا رادع له، ولا مُوْقِف له عند حد. فإن تسامى واستعلى، ونظر في العاقبة، واستحضر رقابة
ربه، وشهوده عليه - أفلح وأنجح، واقتحم تلك العقبة.وإنْ هو أطلق لنفسه العنان،
ومال حيث يميل الهوى، وغاب عنه رادع الإيمان ووازع التقوى - أوشك أن يرتكس في حمأة
الرذيلة، ويسقط على أم رأسه في الحضيض، فلا يكون من رواء ذلك إلا إذلال النفس،
وموت الشرف، والضعة. ولهذا كان حرياً
بالعاقل أن يحسن التعامل مع الإنترنت، و لا يْفْرِطَ في الثقة في نفسه، فيوقعها في
الفتنة، ثم يصعب عليه الخلاص منها.وجديراً به إذا أراد أن يقدم أية مشاركة، أو
مداخلة، أو ما جرى مجرى ذلك أن ينظر في جدوى ما يقدم، وأن يحذر من أذي المؤمنين، وإشاعة الفاحشة فيهم، وأن ينأى بنفسه عن
القيل والقال، واستفزاز المشاعر، وكيل التهم، وتسليط الناس بعضهم على بعض.وإذا
أراد أن يعقب أو يرد فليكن ذلك بعلم، وعدل، ورحمة، وأدب، وسمو عبارة..ومما يعين
على تعدي البلايا أن يخصص الإنسان وقتاً محدداً، وعملاً معيناً، وأن يكون له هدف
واضح، ويتعامل من خلال ذلك مع الإنترنت. أما إذا استرسل مع
تصفُّح الأوراق، والانتقال من موقع إلى موقع دون هدف أو غاية - ضاع وقته، وقلَّت
فائدته، وإفادته.ومما يعين على ذلك - أيضاً - أن ينظر العاقل في العواقب، وأن يقهر
نفسه، ويلجمها بلجام التقوى.قال ابن الجوزي - رحمه الله -: " بالله عليك يا
مرفوع القدر بالتقوى لا تبع عزها بذل المعاصي، ".ومما يعين على ذلك أن يتجنب
المتعامل مع الإنترنت المثيراتِ؛ فيبتعد عن المواقع المنحطة، وعن المنتديات التي
يثار فيها الكلام الفاحش، وعن المقالات التي تثير الغرائز، وتحرك الكوامن.وينأى
بنفسه عن الصور الفاضحة، واللقطات المثيرة؛ فإن مَثَلَ النفوسِ - بما جُبِلَتْ
عليه من ميل للشهوات، وما أودع فيها من غرائز تميل مع الهوى حيث مال - كمثل
البارود، والوقود، وسائر المواد القابلة للاشتعال؛ فإن هذه المواد، وما جرى مجراها
متى كانت بعيدة عما يشعل فتيلها، ويذكي أوارها - بقيت ساكنة وادعة، لا يخشى خطرها،
والعكس.وكذلك النفوس؛ فإنها تظل وادعة ساكنة هادئة؛ فإذا اقتربت مما يثيرها، ويحرك
نوازعها إلى الشرور من مسموع، أو مقروء، أو منظور، أو مشموم - ثارت كوامنها، وهاجت
شرورها، وتحرك داؤها، وطغت أهواؤها .ومما يعين على النجاة
من فتنة الإنترنت غض البصر، لأن الصورة القبيحة تعرض للإنسان ولو بدون قصد؛ فإذا
غض بصره أرضى ربه، وأراح قلبه؛ فالعين مرآة القلب، وإطلاق البصر يورث المعاطب، وغض
البصر يورث الراحة؛ فإذا غض العبد بصره غض القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق بصره
أطلق القلب شهوته.قال ربنا - عز وجل -: (( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ )).قال شيخ الإسلام
ابن تيمية - رحمه الله - في هذه الآية: " جعل - سبحانه - غض البصر، وحفظ
الفرج هو أقوى تزكيةٍ للنفوس.وزكاة النفوس تتضمن زوال جميع الشرور من الفواحش،
والظلم، والشرك، والكذب، وغير ذلك ".ومما يجب على الإنسان حال تعامله مع
الإنترنت أن يتثبت مما يقوله، ويسمعه، ويقرؤه، ويرويه.وبذلك يُعْلَمُ عقلُ
الإنسان، ورزانته، وإيمانه. كيف والإنترنت
يُكْتَبُ فيه الغث في السمين، ويَكْتُبُ كل من هب ودب، وبأسماء مجهولة مستعارة
؟فعلى العاقل أن ينظر في هذا الأمر؛ فإذا اطلع على خبر أو أمر من الأمور تَثَبَّتَ
في شأنه، وإذا ثبت له نظر في جدوى نشره، فإن كان في ذلك حفز للخير، واجتماع عليه
نشره، وأظهره، وإن كان خلاف ذلك طواه وأعرض عنه. وكم حصل من جراء التفريط في هذا الأمر من الشر
والخلل.وكم من الناس من يلغي عقله، ويتعامل مع ما ينشر في الإنترنت وكأنه وحي لا
يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ولقد جاء النهي
الصريح عن أن يحدث المرء بكل ما سمع. قال صلى الله عليه
وسلم: " كفى بالمرء كذباً أن يحدِّث بكل ما سمع ". رواه مسلم. والعرب تقول في أمثالها: " الخطأ زاد العَجُول
" ، والأحرى انْ يختمر الرأي في الذهن، وأخلق بالسلامة من
الخطأ.والعرب تمدح من يتريث، ويتأنى ويقلب الأمور ظهراً لبطن،و ليس من الحكمة أن يبدي الإنسان رأيه في كل ما يعلم
حتى ولو كان متأنياً في حكمه، مصيباً في رأيه؛ فما كل رأي يجهر به، ولا كل ما يعلم
يقال.بل الحكمة تقتضي أن يحتفظ الإنسان بآرائه إلا إذا استدعى المقام ذلك، واقتضته
الحكمة والمصلحة، وكان دأبه في ذلك المشاورة خصوصاً في الأمور الكبار. قال أحد
الحكماء: " إن لابتداء الكلام فتنةً تروق وجدَّةً تعجب؛ فإذا سكنت القريحة،
وعدل التأمل، وصفت النفس - فليعدِ النظر، وليكن فرحُه بإحسانه مساوياً لغمِّه
بإساءته ".وكما أنه يجب على المسلم أن ينأى بنفسه عن شر الإنترنت فكذلك ينبغي
له أو يجب عليه ألا يحرم نفسه من خيره، خصوصاً إذا كان ذا دراية، وتخصص فيه؛ فلا
يحسن به ان يقع في المحذور.بل
عليه أن يقدم النافع المفيد، من المشاركات الهادفة، والاقتراحات النافعة، والدلالة
على المواقع الإسلامية الموثوقة. كما عليه ألا يحقر
نفسه في إنكار ما يراه من منكر أو قبيح في الإنترنت كل ذلك بحسب قدرته واستطاعته. وأخيراً إليك أيها الأخت الكريمة هذه التساؤلات:
ألا تشعري - وأنت تقلبي بصرك في الصور الخليعة - بظلمة في قلبك، ووهن في
بدنك، وزهد بالفضيلة ورغبة في الرذيلة ؟ !ألاتشعري- وأنت تطالع المهاترات، - بقسوة في قلبك،
وإساءة في ظنك، وتشاؤمٍ في نظرتك.ألا تشعري - إذا قضيت الساعات الطوال أمام الإنترنت بلا
فائدة - بضيق في صدرك، ؟ حتى إنك تستائي ممن بجانبك، ولا تحرصي على الرد بمن يتصل بك عبر الهاتف ؟وفي مقابل ذلك
ألا تشعري بنشاط، وأنس، وسرور
وقوةٍ إذا قدمت الخير، وغضضت البصر عن الحرام، واتقيت الله في الخلوة ؟!أسأل الله
- بأسمائه الحسنى وصفاته العلى - أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا
مفاتيح للخير، مغاليق للشر، مباركين أينما كنا. ..............والحمد لله رب العالمين.