الاخلاق عند فلاسفة
الاخلاق عند فلاسفة اليونان
ولعل أول باحث في الاخلاق بحثا علميا اليونان 0 ولم يعر فلاسفة اليونان الأولون الاخلاق التفاتا كبيرا بل كانت جل أبحاثهم تدور الطبيعيات حتى جاء السوفسطائيون (450-400ق0م) ومعنى السوفسطائي في اللغة اليونانية الحكيم ( وهم طائفة من الفلاسفة كانوا معلمين متفرقين في البلاد مختلفين فيما بينهم في الآراء ولكن يجمعهم غرض واحد ، وهو إعداد شباب اليونان ليكونوا وطنيين صالحين أحرارا يعلمون ما يجب عليهم لوطنهم 0 وقد أداهم النظر في هذه الواجبات إلى النظر في أصول الاخلاق واستتبع ذلك نقد بعض التقاليد القديمة والتعاليم التي جرى عليها سلفهم فأثار ذلك غضب المحافظين وجاء أفلاطون فعارضهم وانتقد متأخريهم وكانوا يتهمون بلعبهم بالألفاظ لقلب الحقائق حتى اشتقوا من أسمهم " سفسطة " وعنوا بها المغالطة في البحث والجدل 0 من أجل ذلك شوه أسمهم مه أنهم ربما كانوا أبعد معاصريهم نظرا وأشدهم اجتهادا في إيقاظ العقول وتحريرها من الأوهام 0
وجاء سقراط " 399-469) فوجه همه إلى البحث في الاخلاق وفي علاقة الناس بعضهم البعض ولم يهتم بما أهتم به الفلاسفة قبله من البحث في منشأ العالم وفي الأجرام السماوية ، وكان يعد هذا قليل الفائدة ويرى ان الواجب ان يوجه النظر إلى ما يبنى عليه في الحياة عمل ولذلك قيل:" أنه استنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض " 0
وبعد سقراط مؤسس علم الاخلاق لأنه أول من حاول – يجد – أن يبني معاملات الناس على أساس علمي وكان يرى أن الاخلاق والمعاملات لا تكون صحيحة إلا إذا أسست على العلم حتى كان يذهب إلى ان الفضيلة هي العلم 0
ولم يعرف عن سقراط رأيه في الغاية الاخلاقية 0 وبعبارة أخرى في المقياس الذي تقاس به الاعمال فيحكم عليها بأنها خير أو شر ، حتى لقد قامت فرق متباينة مختلفة الرأي في الغاية وكلها تنتسب إلى سقراط وتتخذه زعيما 0
وعلى أثر سقراط ظهرت المذاهب الأخلاقية وتنوعت وظلت متنوعة إلى يومنا هذا ، وأهم الفرق التي ظهرت بعده الكلبيون Cynics والقوربنائيون وكلهم من اتباع سقراط 0
أما الكلبيون فمؤسس مذهبهم أنتثنيس عاش من (370-444ق 0م) ومن تعاليمهم ان الآلهة منزهة عن الاحتياج وخير الناس من تخلق بأخلاق الآلهة ، فقلل من حاجاته جهد الطاقة وقنع بالقليل وتحمل الآلام واستهان بها واحتقر الغني وزهد في اللذائذ ، لم يعبثوا بالفقر وسوء رأي الناس فيهم متى كانوا مستمسكين بالفضيلة ومن أشهر رجال هذا المذهب ديوجانيس الكلبي مات سنة 323 ق0م وقد كان يعلم أصحابه أن يطرحوا التكلف الذي اقتضاه اصطلاح الناس وأوضاعهم وكان يلبس الخشن من الثياب ويأكل ردئ الطعام وينام على الأرض 0
أما القوربنائيون فزعيمهم أرسيطس ولد في قورينا ( مدينة من مدن برقة في شمال أفريقيا ) وكانوا على عكس الكلبيين يرون ان طلب اللذة والفرار من الألم هما الغاية الصحيحة الوحيدة للحياة ، وان العمل يسمى فضيلة إذا كان ينشأ عنه لذة أكبر مما ينشأ عنه الألم 0 فبينا يرى الكلبيون السعادة في الفرار من اللذة وتقليلها جهد الطاقة يريى القوربنائيون السعادة في نيلها والإكثار منها 0
ثم جاء أفلاطون (347-427 ق0م) وهو فيلسوف أثيني تتلمذ أيضا لسقراط وقد ألف كتبا كثيرة حفظت لعهدنا هذا كتبها على شكل محاورات وأكثرها شيوعا " كتاب الجمهورية" وآراءه في الاخلاق منثورة في تلك المحاورات ممزوجة بأبحاثه الفلسفية ، وكلامه في الاخلاق مبني على " نظرية المثل" وتوضيح ذلك انه كان يرى او وراء هذا العالم المحسوس عالما آخر روحانيا وان لكل موجود مشخص مثالا غير مشخص في العالم العقلي أو الروحاني طبق ذلك على الاخلاق فقال : ان بين هذه المثل مثالا للخير وهو معنى مطلق أزلي أبدي بالغ الكمال ، وكلما قربت المعاملة منه وسطع عليها ضوءه كانت أقرب إلى الكمال وفهم هذا المثال يحتاج إلى رياضة النفس وتهذيب العقل ومن ثم لا يدرك الفضيلة في خير أشكالها إلا من كان فيلسوفا 0
وكان يرى ان في النفس قوى مختلفة والفضيلة تنشأ من تعادل تلك القوى وخضوعها لحكم العقل وذهب إلى ان أصول الفضائل أربعة : الحكمة والشجاعة والعفة والعدل ، وهي قوام الأمم كما أنها قوام الأفراد ، ففي الأمم نرى الحكمة فضيلة الحكام ، والشجاعة فضيلة الجنود ، والعفة فضيلة الرعية والعدل فضيلة الجميع ، تحدد كل إنسان عمله وتطلب منه أن يعمل على أحسن وجه 0 وكذلك الشأن في الفرد 0 الحكمة هي الفضيلة الحاكمة للشخص المدبرة له ، والشجاعة فضيلة بها يدفع الشرور والعفة بها يقاوم الميل إلى التغالي في الذائذ والعدل الفضيلة الدافعة للعمل بما يتفق مع مصلحة الناس 0
ثم جاء أرسطو أو أرسططاليس (322-384) وهو تلميذ أفلاطون أسس مذهبا خاصا يسمى اتباعه بالمشائين Peripatetic لأنه كان يعلم وهو يمشي أو لأنه كان يعلم في مماش مظللة وقد بحث في الاخلاق والف فيها 0 وقد رأى إن الغاية الأخيرة التي يطلبها الإنسان من أعماله " السعادة" ولكن نظرة إلى السعادة أوسع ,أعلي مما يذهب إليه المنتفعون في العصور الحديثة ، وطريق نيل السعادة عنده استعمال القوى العاقلة أحسن استعمال 0
وأرسطو هو واضع نظرية الأوساط ، أي ان لكل فضيلة وسط بين رذيلتين كالكرم وسط بين السرف والبخل والشجاعة وسط بين التهور والجبن وسنوضح ذلك عند الكلام على الفضيلة 0
الرواقيون والابيقوريون : جاء هؤلاء فرقوا البحث في الاخلاق وبنى الرواقيون Stoics مذهبهم على مذهب الكلبيين وقد شرحنا مذهبهم قبل ، غير انا نقول هنا : إن المذهب الرواقي اعتنقه كثيرا من فلاسفة اليونان والرومان واشتهر من اتباعه في صدر الدولة الرومانية ستيكا ( 6ق0م-65 ب0م) وابيكتنس (60-140ب م) والإمبراطور مرقس أورليوس (121-180 ب م) أما الأبيقوريون فبنوا تعاليمهم على تعاليم القورينائين ومؤسس مذهبهم أبيقور (Epicures) الذي ذكرنا من قبل مذهبه ، وقد تبعه في العصور الحديثة الفيلسوف الفرنسي " جسندي" ( 1592-1655) وفتح مدرسة في فرنسا أحيا فيها تعاليم أبيقور وتخرج فيها موليير وكثير من مشهوري الفرنسيين 0
وفي أواخر القرن الثالث للميلاد انتشرت النصرانية في أوربا فتغيرت الأفكار ونشرت أصول الاخلاق التي وردت في التوراة وعلمت الناس ان الله مصدر الاخلاق فهو الذي يضع لنا القواعد نراعيها في معاملاتنا وتبين لنا الخير من الشر ، والخير كل الخير في إرضاء الله وتنفيذ أوامره وقد أقامت الأولياء والقديسين مقام الفلاسفة عند اليونان الوثنيين وافقت النصرانية في بعض تعاليمها فلاسفة اليونان ولاسيما الرواقيين ولم تخالفهم كثيرا في تقويم الاشياء خيرها وشرها وإنما أهم ما خالفتهم فيه النظر إلى الباعث النفسي على المعاملة فعند فلاسفة اليونان كان الباعث على عمل الخير المعرفة أو الحكمة مثلا وعند النصرانية إنما ينبعث عمل الخير عن حب الله والإيمان 0
كانت النصرانية تطلب من الإنسان ان يجتهد في تطهير نفسه فكرا وعملا وتجعل للروح سلطانا تاما على البدن والشهوات 0 ولذلك غلب على ابتاعها الأولين احتقار البدن واعتزال العالم والميل إلى الزهد والتنسك والرهبانية 0