الانتقال إلى مجتمع المعرفة 2
الانتقال إلى مجتمع المعرفة
إن عبارة "الانتقال إلى مجتمع المعرفة" تحتاج بلا شك إلى إيضاح لمدلولها حتى لا تلتبس المعاني. ولعله من باب تكرار البداهات القول بأن المعرفة كانت دوما قاعدة السلوك والبناء في المجتمع البشري، وعنصراً رئيساً في عملية التشكيل النفسي والثقافي للفرد والجماعة، بصرف النظر عن طبيعة تلك المعرفة وقيمتها ونوعيتها.
فالمجتمع الإنساني يتميز بمحض طبيعته عن المجتمع الحيواني بكونه لا يسلك تلقائياً وفق صوت الغريزة، بل له رؤيته المعرفية والقيمية التي يوجه بها نفسه، ويُنَمْذِجُ بها أساليب الاستجابة إلى حاجاته الغريزية.
وهذا الفارق الملحوظ بين المجتمعين الحيواني والبشري يؤكد بلا ريب حضور المعرفة في الاجتماع الإنساني، كيفما كانت درجة تطوره. وهذا ما تؤكده الملاحظات الأنثروبلوجية في مقاربتها لأنماط الاجتماع، حتى تلك التي تنعت بأنها بدائية.
لكن صواب هذه الملحوظة لا يعني خطأ الكلام عن وجود انتقال إلى مجتمع المعرفة، بل إن الحديث عن هذا الانتقال له ما يبرره ويؤكده. فلو رجعنا إلى صيرورة انتقال البشرية ولحظات تطورها يمكن القول إنه منذ اختراع المطبعة وشيوع الكتاب أخذت البشرية تشهد ظاهرة انتشار أوسع للمعرفة. حيث تكاثرت الكتب وتمدد حقل تداولها.
ومنذ تحول المعرفة العلمية إلى معرفة تقنية، وتجسيد الفكرة في الآلة، أخذت تبرز بوضوح تلك المقولة الديكارتية الناظرة إلى المعرفة بوصفها "قوة"! وهي ذات المقولة التي ستتكرر مع فرنسيس بيكون في القرن السابع عشر، ثم لاحقا مع نيتشه في نهاية القرن التاسع عشر.
وفي القرن العشرين ومع ظهور صناعة الحاسوب وتقنية الاتصال أصبحت المعرفة موضوعا للتداول على نحو أوسع وأكثر كثافة. وهذا التحول هو ما جعل البعض يشير إلى وجود نقلة نوعية وليس مجرد فعل تراكمي. فالمفكر الأميركي بيتر دراكر يشير في كتابه "مجتمع ما بعد الرأسمالية" إلى أن التحول التاريخي الذي يعتمل اليوم في الواقع العالمي تحول جذري ينقل البشرية إلى الانتظام وفق نمط مجتمعي جديد بالقياس على سابقه من الأنماط، هو نمط "مجتمع المعرفة".
ودلالة مفهوم "التحول النوعي" والإيقاع الزمني الناظم لحدوثه، كان قد أوضحهما دراكر من قبل في العديد من كتبه ومنها كتابه "الواقع الجديد". لكن سواء في هذا الكتاب أو غيره يميل هذا الباحث الأميركي إلى تقطيع الصيرورة التاريخية، والوقوف عند لحظات منتقاة على نحو لا يخلو من اعتساف!
وللتمثيل لهذا الاعتساف في تأويل التاريخ نحيل هنا إلى مقدمة كتابه "مجتمع ما بعد الرأسمالية"، حيث يشير إلى أنه تقريبا في كل خمسين أو ستين سنة يحدث في سياق التاريخ الغربي انفصال أو قطيعة، انفصال يصل إلى حد تغيير النظرة إلى العالم وتبديل القيم الأساسية والنظم الاجتماعية والآداب والمؤسسات!!
ثم يستدل دراكر على وجود هذه التحولات المفصلية في صيرورة التاريخ الأوروبي، بالتقاط أحداث ووقائع تدل عليها. لكن الحاصل من تأملي في نظريته هو أنها لا تخلو من اعتساف على لحظات التاريخ وافتعال في تقطيعها وتعليبها.
فالتاريخ لا تنتظم صيرورته وفق عقارب الساعة، حتى إذا وصل العَدُّ إلى خمسين أو ستين سنة يقفز قفزة نوعية جذرية تصل إلى حد تغيير النظرة إلى العالم وقلب القيم الأساسية كما يزعم دراكر! فإيقاع التاريخ -إن كان بالفعل ينتظم بمنطق الصيرورة والتطور- أعتقد أنه ليس معلبا في تجاويف أرقام محددة.
صحيح أن دراكر يحاول التخفيف من قالبية رؤيته لكنه حتى بذلك لم يتحرر من الانزلاق في وهم إمكان تعليب التاريخ البشري في إطارات زمنية محددة، وهو الوهم ذاته الذي سقطت فيه الكثير من فلسفات التاريخ، مثل فلسفة أوجست كونت التي حقبته إلى مراحل ثلاث، أو الرؤية الماركسية التي قولبت التاريخ الأوروبي في إطار نظرية "المادية التاريخية" إلى خمس مراحل! ثم لما عجزت عن الإمساك بصيرورة تواريخ الشعوب غير الأوروبية، اضطرت إلى ابتداع نظرية "نمط الإنتاج الآسيوي".
لكن بعد هذا النقد الذي نستهدف منه الاحتراس من تلقي التحقيب الزمني الذي قدمه دراكر، أو غيره من المنظرين المسكونين بنزوع تعليب التاريخ في نماذج قبلية جاهزة، ثمة فائدة هامة نراه قد أشار إليها، وأكدها قبله العديد من المفكرين، وهي النظر إلى الواقع البشري الراهن بكونه آخذا في تجذير نمط حياتي نوعي، تحتل فيه المعرفة مرتبة الأولوية في سلم أدوات الإنتاج.
لكن السؤال الذي بإمكانه أن يفتح مجالا أمام التفكير النقدي هو أي نوع من المعرفة هذا الذي يشيع ويتداول في واقع البشرية اليوم؟ أي نوع من المعرفة هذا الذي يتم تأسيس المجتمع المعاصر على أساسه؟ أليس السائد هو نمط من المعرفة التقنية التشييئية؟