الدادية
|
لقد فقدنا الأمل في أن يحقق الفن غرضه في مجتمعنا وقد حز في نفوسنا كثيرا الوضع المشين الذي نعاني منه مارسيل يانكو أحد أقطاب الحركة الدادائية
مدخل
والسؤال !! ما هي
البواعث التي أدت إلى ظهور هذه الحركة النشطة والتي استقطبت حولها مظاهر الإعجاب
والتشكيك ومواقف القبول والرفض .
الدادا
والحرب العالمية الأولى ففي أواخر عام 1914 كانت نوعية الحرب الدائرة قد تقررت واتخذت لها إطارا متميزا عن كل حرب سابقة إذ اتضح أنها لم تعد حرب نصر حاسم سريع ولا قتال بضعة أسابيع أو شهور ! كلا . لقد ظهر لكل قائد عسكري في أي هيئة أركان مشتركة في الحرب أنه يواجه حربا طويلة الأمد لا نصر فيها فالخنادق لا تتزحزح وكل هجوم مباشر عليها مكتوب له بالفشل . وككل حرب علي نطاق واسع قذفت إلى الخطوط الخلفية بشيئين أثنين من صنف البشر . أولهما حطام من يتحملون مشاق الطريق قبل أن يموتوا . وثانيهما فئات المشوهين وذوي العاهات الذين تقعدهم عن العمل . وكان النقص في خطوط القتال والمجهود المدني في حاجة إلى تعويض وهذا التعويض تمثل في البالغين الذين يُستدعون إلى الالتحاق بالجيش طالما توفر منهم بيد أن هولاء سرعان ما نزح عددهم لان آلة الحرب كانت تلوك القتلى فتحولت الأنظار إلى الصبيان وطُلب إليهم الانخراط في الجيش مرة باسم الدفاع عن شرف الوطن ومرة أخري بدعوة ضرورة الإخلاص للملك والتاج . وبمثل هولاء الصبية وذوي العاهات ظلت الجيوش المتحاربة يتضخم عددها بإمدادات جديدة حتى عام 1916 ثم أخذت جميعا أما في الثبوت مع تدني مستوي العمر أو الانكماش التدريجي المحتوم ¥ كما نتج عن حاجة الجبهات إلى العتد أن أقيمت مصانع الذخيرة في مختلف أنحاء أوربا .. وطبيعي أن أصحاب المال هم الذين أقاموها طمعا في ازدياد ثرواتهم فكان من مصلحتهم أن يطول أمد الحرب ويستهلك الجنود ما تشتريه حكوماتهم وبمعني آخر صار من سياسة هولاء ترويج صناعة الموت والمتاجرة بالأرواح .
والموظفون خضعوا لتعليمات الانضباط الرسمي ومجالس التأديب التي يعقبها قطع المرتبات إذا عاندوا والفلاحون أصبحوا مضطرين للعمل والقبول بتسعيرة الدولة . كل هذا لتزيد من أرباح الرأسماليين وتتضخم ولم تكتف الحرب العالمية الأولي بإبراز قضايا عسكرية واستراتيجية واقتصادية بالغة الأهمية وإنما انتقلت إلى الميدان الاجتماعي أيضا . فقد واجهت الحكومات المتحاربة تموين عائلات الغائبين في الميدان والتعويض عن المشوهين العائدين علاوة علي تفشي الانحرافات الخلقية وشاع بين الناس التذمر الصريح بعدم الرضا وتمثل ذلك بشكل واضح في قيام الدادائية والاحتجاج علي ما يحدث بالفن المشاغب والأدب غير المألوف . تريستان تزارا .. مرة أخري عند اندلاع الحرب العالمية الأولى تنصل ( تريستان تزارا ) من أعباء التجنيد في الجيش الروماني وفر هاربا عبر الأودية والبحيرات والأحراش إلى أن وصل إلى سويسرا البلد المحايد في تلك الحرب واستقر به المقام في مدينة زيورخ وألتف حوله لفيف من صعاليك الفن والأدب المناوئين للحرب .
وكان في زيورخ ثمة
حركتان تُعدان الخطط المتوهجة لتغيير شكل هذا العالم ¥ ففي شقة رقم (12) في شارع
شبيغلغاسة كان : لينين وبعض رفاقه يعدون لثورة تهدف إلى القضاء علي النظام
الطبقي وإلغاء الحروب الاستعمارية .
عند الساعة السادسة
من مساء يوم : 6 . 2 . 1916 ولدت في مقهى كافيه دي لاتيراس في مدينة زيورخ كلمة
: دادا - DADA ولقد صرح تريستان تزارا فيما بعد
قائلا : تعدد معاني كلمة : دادا في لغة الشاعر تريستان تزارا الرومانية تعني : أجل .. أجل . وفي الفرنسية إشارة إلى لعبة من لعب الأطفال علي شكل حصان خشبي هزاز وتستعمل الكلمة في الألمانية للدلالة علي السذاجة والغفلة والإيطاليون يطلقونها علي زهرة النرد وأحيانا الأم .
وفي بعض مناطق
أفريقيا السوداء يسمون ذنب البقرة المقدسة : دادا . وفي الكثير من اللهجات
العامية العربية تسمي المربية ومرضعة ولد غيرها : دادة .
ويعرض تاريخ هذه الحركة أيضا إلى رجل ينتمي إلى بلد المفكرين والشعراء والموسيقيين الكبار( ألمانيا ) رجل طويل القامة بإفراط هزيل البنية اسمه : هوغوبال جاء إلى سويسرا عند نشوب الحرب العالمية الأولي مع صديقته : إيمي هينغز التي تجيد الغناء وإلقاء الشعر .
أما هوغوبال نفسه
فكان فيلسوفا وروائيا وشاعرا وصحفيا وصوفيا وهو في كلمتين ( صعلوك مثقف ) وعندما
لاحت لهذا الصعلوك فكرة إنشاء هذا الملتقي أتصل بشخص يدعي : أفرايم يمتلك صالة
ليلية باسم : مييري ليجعل منها : ماخور ثقافي إذا جاز التعبير . فلبي :
أفرايم طلبه وعلي الفور ذهب هوغوبال إلى معارف له من الشلة الدادائية وأخذ يقول
للواحد منها :
ولم يكتف بذلك بل
قصد بعض دور الصحافة في زيورخ لينشروا له إعلانات بالمناسبة، وفي الخامس من شهر
فبراير 1916 تم تدشين كاباريه فولتير واشتمل المعرض الأول علي أعمال من بيكاسو
قام بجلبها له : هانز آراب وتخلل ذلك أمسية روسية ألقيت فيها أشعار من بولنير
وماكس جاكوب ورامبو وغيرهم .
في السابع من شهر
مايو عام 1920 صدر العدد السابع ومن مقدمته نقتطف الفقرة التالية : وهكذا راح الدالدئيون يواجهون العالم بكل ما يمكن أن يهزه من تخريب وافتعال الضجة والضحك علي الذقون والضحك فقط في غالب الأحيان ناهيكم عن الغطرسة والإساءات والإهانات والفضائح الفاقعة والسخرية من ذواتهم ومن الآخرين
قصيدة الصدفة أو بالأحرى قصيدة من غير شاعر وكنموذج من هذا الشعر تناول : تزارا بضع مقالات من صحيفة يومية تافهة وقصها قصاصات صغيرة لا تزيد مساحة الواحدة منها عن معدل الحيز الذي تشغله الكلمة ثم وضع الكلمات المقطعة في كيس دقيق فارغ وخضها جيدا ثم تركتها تتناثر علي طاولة والترتيب أو اللاترتيب للكلمات سوف يؤلف برأي تزارا قصيدة من نظم الصدفة . فوتوغرافيا دادائية
وفي مجال
التصوير الفوتوغرافي كان أحد المصورين الدادئيين يقطع رحلة بين دوسلدورف وكولن
في ألمانيا بان ثبت آلة التصوير في نافذة القطار وطفق يلتقط الصور كيفما أتفق كل
خمس دقائق وشكل بترتيبها العشوائي فيما بعد أول معرض فوتوغرافي دادائي . الفولغا يصب في بحر قزوين
أما
الكتابة التلقائية فأطلق لها العنان العبثي والصدفة واللاوعي وحل اللانظام محل
النظام واللامنطق مكان المنطق والعفوية والبراءة سدت المنافذ في وجه التزمت
والتصنع وفي الكتابة التلقائية أيضا ينبغي للمرء أن يكتب كما يقوده قلمه
من غير أن يبحث عن الكلمات المناسبة أو الالتزام بقواعد النحو وتصريف
الأفعال .
البيان الدادئي
الأخير
توقف تزارا برهة
وابتلع ريقه .. جال ببصره علي وجوه رفاقه من شراذم الثقافة المحبطة تنهد وواصل
تلاوة البيان : في أثناء هذا البيان كان : دونزيرغ يذرف ابتسامة ساخرة وهانز آراب يعبث بلسانه في شاربه الدقيق وكان هانز ريختر يتقيأ آهاته وجعا بين وقت وآخر . والدادائية التي حملت مشعل : بروميثيوس لتشعل الحرائق في كل مكان كانت من أكثر الحركات الفنية انتقائية وكانت تكره أن تلبس ثوبا واحدا وتكره أن تلبس الثوب أكثر من يوم واحد .. كانت ضد كل حالة كانتها وتكونها وضد الفن ثم ضد الفن المضاد وضد الصدفة وضد الصدفة المضادة ومن بين أنقاض وركام الصرح الدادائي المنهار انبثقت حركة أخري تولي زعامتها الشاعر الدادائي السابق : أندريه برايتون ليصبح وحده أكبر داعية للتجافي عن العقلانيات والمنطق والتنظيم مستجيبا لكل ما هو من الحلم واللاوعي والأشباح والطلاسم والرموز وأطلق علي حركته الجديدة اسم السريالية أو ما يعرف في لغتنا العربية بـ : ( السمو واقعية ) ليجعل منها وقفا علي المثقفين ولكن أي مثقفين .. انهم المثقفون الذين تلاعبوا في مجريات حركة المد والجزر وتصرفوا في عدد نبضات القلب و ألوان قوس قزح وما يستقر في مكنون العقل الباطن وسراديب الأحلام. |