السعادة
السعادة
بعد ان يذكر مسكويه قوى النفس وفضائلها وخلودها يذهب إلى ان سعادة الانسان هي الخير التام بحيث لا يحتاج من بلغه إلى شيء آخر وراءه وان من بلغ به الأمر إلى هذه الدرجة من الفضيلة يكون سعيدا في نفسه ، ولا يضره أي ألم جسماني ممن تعارف عليه الناس باسم المصائب أو الشقاء لأنه سعيد بالخير الذي يغمره والذي استطاع ان يتوصل إليه ، ولاشك أن أبا على استقى فكرة الخير من افلاطون الذي قال بها من بين حكماء اليونان 0
نلاحظ توفيقا لطيفا يجريه مسكويه بين افلاطون وأرسطو والشريعة الإسلامية 0 فالسعادة عند افلاطون الحكمة وكذلك مسكويه الذي يقول : ان تحصيل السعادة على الاطلاق يكون بالحكمة ولكنه يضيف ان للحكمة جزءان نظريا وعمليا 0 فبالنظر يمكن تحصيل الآراء الصحيحة وبالعمل يمكن تحصيل الهيئة الفاضلة التي تصدر عنها الافعال الجميلة 0 وإن أرسطو هو الذي جعل الفضيلة على نوعين أحدهما عقلي والآخر أخلاقي 0 ثم يقول ان الله تعالى أرسل الأنبياء صلوات اله عليهم ليحملوا الناس على الأخذ والعمل بهذا الأمرين 0
نجد ان مسكويه رغم انه يوافق افلاطون في حب الحكمة والتطلع إلى الفضيلة الفلسفية والتشبه بالله ولكنه لا ينصح بالزهد والتقشف لأن الإنسان عنده رغبات يجب ان يشبعها على ان يكون وسطا ، أي كما يقول أرسطو : لا إفراط ولا تفريط 0 ولكن مع هذا فاللذة عنده اللذة العقلية التي تجعل الإنسان يشعر بالسعادة القصوى والسعادة هي أكمل اللذات ولا تأتي إلا عن طريق الفضيلة العقلية 0
لم ينس أبو على انه يعيش في مجتمع ولهذا يوجب على الانسان ان يتعاون لأنه مدني بالطبع وهذا القول لأرسطو كما هو معروف يذكره مسكويه فل الفوز الأصغر وتهذيب الأخلاق : ان الإنسان خلق مدنيا بالطبع أعنى أنه لا يستغني في بقائه عن المعونات الكبيرة من الناس الكثيرين وأنه يعين غيره كما يعينه الغير لتتم الحياة الصالحة له ولهم 0
وفي معالجة سكويه لمسألة الخير أل الأقصى أو السعادة القصوى نرى بوضوح تأثره بما ورثه من الثقافات الإغريقية ولهذا فنجد الخير – كما عند أرسطو – أقسام كثيرة لاعتبارات مختلفة تجعل الخير أنواعا غير قليلة 0 فمن الخيرات ما يكون شريفا أو ممدوحا أو نافعا ، الأول ما يكون شرفه في ذاته وبه يشرق صاحبه كالحكمة والثاني كالفضائل ومن يكون عنها من أفعال جميلة ممدوحة ، والثالث كالغنى والجاه وحسن السمعة وغير ذلك من الخيرات التي تطلب لا لذاتها ، بل لتكون سبيلا لأخرى خيرا منها 0
والخير ينقسم على نحو آخر إلى ما هو غاية تامة كالسعادة أو غير تامة كالصحة واليسار وإلى ما ليس بغاية أصلا كعلاج المرضى ولو بقطع عضو مقلا إذا كان ذلك وسيلة الاستئصال المرض واستبقاء الحياة 0
ويمكن أيضا تقسيم الخير إلى ما هو خير دائما وما هو خير في وقت دون وقت ، وعلى كل فهو أما خير لجميع الناس أو لطائفة دون أخرى 9
والسعادة عند مسكويه هي الخير التام في نفسه بحيث لا يحتاج من بلغه إلى شيء آخر وراءه ولكن يوصل إليه إلى سعادات جزئية نسبية ، بعضها مردها للنفس وبعضها لأمور خارجة أخرى 0
والسعادة عند تكون باجتماع أمرين : جماعهما في الحقيقة أمر واحد هو الحكمة 0 " للحكمة – كما يقول – جزآن : نظري وعملي 0 فبالنظري يمكن تحصيل الآراء الصحيحة ، والعملي يمكن تحصيل الهيئة الفاضلة التي تصدر عنها الافعال الجميلة ، وبهذين الأمرين بعث الله الانبياء صلوات الله عليهم ليحملوا الناس عليها " وذلك بأن الشريعة وهي من عند الله تعالى ، " لا تأمر إلا بالخير وإلا بالأشياء التي تفعل السعادة ، وبالجملة تأمر بجميع الفضائل وتنهي عن جميع الرذائل0
وقد ذكر مسكويه انه إذا كانت النفس مريضة وجب علاجها بإزالة ما علق بها من رذائل ، وليبدأ المرء بأعظمها نكاية ,اكثرها جناية 0 وهذه الرذائل كثيرة لكنها تدخل تحت أجناس ثمانية ، لأن طرفي كل فضيلة جنس من الرذائل والفضائل أربع ( الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة ) وهذه الأجناس هي السفه والبله والجور والمهانة والتهور والجبن والظلم والإنظلام0
الأخلاق في الفلسفة الحديثة
ظهرت في الدراسات الفلسفية اتجاهات عديدة تختلف فيما بينها حول تناول مشكلات علم الاخلاق ومعالجتها لقضاياه 0
ويرجع السبب المباشر في اختلاف هذه المدارس فيما بينها إلى اختلاف موقفها من نظرية المعرفة ، حيث توجد نظريات متعددة في أصل المعرفة الإنسانية ومصدرها ، فهناك العقليون الذين يرون ان العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة فما يقبله العقل وكان صريحا في دلالته على المطلوب هو الحق وما يرفضه العقل لا يمكن ان يسمى معرفة حقيقية 0
وهناك الحسيون التجريبيون الذين يجعلون التجربة المباشرة مصدرا للمعرفة فما لم يثبت صدقه بالتجربة لا يصح ان يدخل في نطاق المعرفة 0 وبالإضافة إلى ذلك نجد هناك من يجعل الحدس المباشر وسيلة صالحة للمعرفة 0
ولقد انعكست مواقف هذه المدارس المختلفة حول قضية المعرفة على موقفهم من علم الاخلاق ودراسة مشكلاته (13)
ويبدو ان النصر الحديث قد شهد اتجاهات أخلاقية جديدة أراد أصحابها اعتبار " القانون" أو "الواجب" أو " الإلزام" دعامة الأخلاق ، فكان من ذلك أن أهتم الكثير من الباحثين بدراسة طبية " التكيف " بدلا من التوقف عند دراسة " النتائج السارة " أو " الغايات الخيرة " 0 وعلى الرغم من أن " القانون" قد بدا للبعض طبيعيا صرفا بينما اعتبره البعض الآخر سياسيا محضا في حين زعم غيرهم أنه عقلي خالص ، إلا أن أصحاب هذه الاتجاهات المختلفة قد أجمعوا على القول بأن " " القانون الخلقي " يفرض على الأفراد بعض القواعد السلوكية التي لا تحتمل التأويل أو التفسير أو المناقشة ، فليست " أخلاقية " الفعل رهنا ببعض الاعتبارات العملية المتعلقة بالنتائج أو الاثار ، بل هي رهن بما لدينا من إحساس بالإلزام على اعتبار ان " الإلزام" يقوم أولا وبالذات على بعض " العلاقات" الباطنة المتضمنة في صميم " الفعل " الخلقي نفسه 0 ولا ترانا في حاجة إلى القول بأن أعلى صورة من صور الاخلاق الإلزامية هي تلك التي تلتقي بها لدى " كانت: في كتابه المشهور : " نقد العقل العملي" (8)