العولمة الثقافية ا
العولمة
الثقافية اللغوية:
لا تنفصل
قضايا عولمة الثقافة والقيم عن قضايا عولمة اللغة، ولا تقتصر عولمة اللغة على
التعبير عن المقومات الثقافية العالمية، أو الربط بين المقومات الدينية التراثية
والمقومات العالمية الحديثة، أو تحديد مفاهيم المصطلحات المتداولة عالمياً، ولكنها
تتجاوز تلك الجوانب للنظر في الأهمية المصيرية للغة في بنيان أي قومية بوصفها
وسيلة التفاهم والاندماج الاجتماعي، وعاملاً مهماً في التجانس القومي لأن استعمال
لغة واحدة يؤدي إلى وحدة الرأي والشعور، وانعكاس أنماطها على نمط تفكير أصحابها،
واشتمالها على تاريخ الأمة، وثقافتها، وأدبها، وتراثها الفكري. فكيف تتحقق هذه
الأبعاد أو تحافظ عليها في عمليات العولمة الثقافية واللغوية التي تتجاهل التنوعات،
وتسعى جاهدة للتقريب بين الثقافات بتغليب النمط العربي للحياة، وتيسير وسائل
الاتصال بتمكين اللغة الإنجليزية؟
إن ثمن
العولمة الثقافية هو ترك باب الثقافة الخاصة مفتوحاً للغارة العالمية في شكل
الثقافة الأمريكية الشائعة، وبالتدريج يكون كل شيء متشابهاً في العالم كله. ومن
الملحوظ وجود فرق يسير جدا بين مظاهر الثقافة العالمية، فالرجل العالمي يشبه الرجل
العالمي الآخر في أنشطة حياته اليومية، ويكاد كل قطر من أقطار العالم يشبه سائر
أقطار العالم في الاهتمامات. والتوجهات الثقافية، والمعرفية، والاقتصادية،
والممارسات الاجتماعية. ويؤثر الإنترنت، والبث الفضائي، وغيرها من وسائل العولمة
في تكوين هويتنا، وأنماط التفكير لدينا، وطريقة اتصالنا بغيرنا، وعلاقتنا بهم في
القرن الحادي والعشرين. ولم يستطع الفرنسيون مقاومة غارة الثقافة الأمريكية، وهم
المتصوفون بالأسلوب الهجومي في الدفاع عن لغتهم، وثقافتهم، والحفاظ على نقيتين.
ولم يتمكن الصينيون إبعاد قنوات التلفاز عبر الأقمار الصناعية، ولا الشبكة
العالمية للاتصالات والمعلومات (الإنترنت) وآثارها على الثقافة، والأفكار،
والمفاهيم الصينية، على الرغم من سياستهم المحافظة. ويلحظ أن العولمة ظاهرة تقبلها
دول العالم الثالث طواعية دونما شعور بضياع جزء كبير من هويتها، وثقافتها المميزة.
تثار في
مباحث العولمة الثقافية واللغوية في أوروبا مسائل المحافظة على التنقلات الإقليمية
والمحلية (أي القولمة، والحوللة)، ولزوم الحفاظ على الهوية الثقافية، والعقدية، مع
المضي قدماً في تيسير العولمة الاقتصادية، والاتصالية لجميع المجتمعات الغنية، أو
الفقيرة، والمتقدمة، أو النامية، أو المتخلفة. ولعل المنطلق أن اللغة تمثيل
للثقافة، والعقيدة الجماعية لمستعملي اللغة، وبها تتجلى عقليتهم، وأن الفرد الذي
يكتسب إنما يتعلم ثقافة بعينها، ولا وسيلة للتعبير عنها أفضل من لغتها التي نشأ
فيها، ومعها، وأصبحت جزءاً من كيانه، وشخصيته، وأن ما يصيب اللغة من نكسة تعد نكسة
لكيان الإنسان، وكرامته، وفي تطور اللغة اعتبار لكيانه، ومعاضدة لكرامته.
لا تعني
عولمة "السلع" الثقافية مجرد إجراءات تحول الممارسات والتعبيرات إلى
مستوى عالمي؛ ذلك أن تحويلها في سياقات ثقافية، ولغوية جديدة قد يقتضي تحولاً
جذرياً، وإجراءات متنوعة لتطويعها، واستيعابها في سياقات مختلفة يمكن أن تؤدي إلى
نتائج مختلفة، أو معاكسة لدى استيعابها في الممارسات الثقافية المحلية. ومما يدل
على ذلك تأثير العولمة على تغيير الخطاب السياسي لدى استعمال مصطلحات مثل
(القومية، والوطنية، وبناء الدولة، وغيرها). وقد تسبب عولمة التنقلات إشكالاً في
الممارسات الثقافية، والتعبيرية الشائعة المتوافرة في الثقافة، واللغة المعنيتين
من خلال بعث التناقضات في النظام الخطابي الإقليمي، أو المحلي ، كما يوجد مثلاً في
بنية التعبيرات المستعملة في العلاقات الاجتماعية، والهوية الاجتماعية في المسائل
السياسية .
قد تجلب
العولمة التباين الاجتماعي، وتكوين الهوية الجديدة عن طريق الردود المتباينة من
الجماعات المحافظة، والمتحررة المعاصرة، وربما تكون هذه الردود عناصر مهمة في
عملية العولمة الثقافية بشكل عام يعتمد عليها الأفراد في فهم الأشكال الثقافية
الحديثة وتكوين الهوية المستجدة. وتختلف خبرات عولمة الممارسات الثقافية
والخطابية، وإجراءتها من منطقة إلى أخرى، ففي أمريكا اللاتينية مثلاً توجد عولمة
الممارسات داخل أمريكا اللاتينية، كما توجد عولمة صادرة عن سيطرة الدول المتقدمة
على الممارسات الخاصة بأمريكا اللاتينية (Fairclough ). وتشهد
على هذا الاختلاف التنقلات الإقليمية للممارسات الثقافية والخطابية في أوربا
الغربية، ومحاولات جعل السويد مركزاً إقليمياً بديلاً عن الولايات المتحدة. ونلحظ
في العالم العربي تأثيراً سافراً على الممارسات الثقافية التي تقترب من الثقافة
الغربية، أو التي تحايد اتجاه انتشارها، أو التي تنحاز إلى القولمة بالسعي الحثيث
نحو التعريب الكامل، أو ما تؤدي إليه القولمة من الحوللة المتمثلة في محاولات
الأقلية العرقية واللغوية إحياء ثقافاتها ولغاتها، والمطالبة بحقوق ممارستها. ونجد
"غزواً" لغوياً قادماً من اللغتين الإنجليزية والفرنسية في إطار عمليات
العولمة. ولهذه المظاهر جميعاً تأثير على الممارسات المتبادلة بين الأقطار العربية.
إن تنوع اللغات
والثقافات ثروة بشرية، وكنز يستحق الحفاظ عليه لتحقيق الأهداف التربوية، والسعادة،
والفائدة الاقتصادية، ولكن نقطة الإزعاج في العولمة تنامي الثقافة الأحادية
العالمية بوساطة وسائل الإعلام الدولية الغربية وشبكة العلاقات والاتصالات العامة
التي تحاول بجد تشكيل كيفية لبس الناس، وطريقة أكلهم، وعيشهم ، والنمط المعرفي
والفكري لديهم، وتحاول تجريد أغلبية البشرية عن هويتهم الثقافية، وقدرتهم على
تشكيل مصيرهم بأنفسهم في هذا النظام المعولم. وإن العاقبة الوخيمة التي يخشى منها
هي وجود عالم تستعصي السيطرة عليه، أو التحكم في شؤونه أو توجيه أحداثه .
فما الداعي
إذاً للثقافة العالمية القادمة؟ والحال أنها بدأت تشيع في كل دول العالم وهي
أمريكية الطبع، وأغلب مقوماتها متصلة بالاستغلال التجاري للأذواق والرغبات في
مجتمع يتحول تدريجياً إلى ذرة واحدة، وشعور الجمهور فيه متجاهل، بدلاً من التعبير
الصادق للاحتياجات الاجتماعية والثقافية. إذا لم تكن الثنائية اللغوية من خطتها.
وليس
الحديث عن اللغة العالمية مجرد أوهام وأمان. فمتحدثوا اللغة الإنجليزية يرون أنها
ترقى إلى مستوى اللغة العالمية لأنها شائعة الانتشار، ومستعملة لدى عدد كبير من
الشعوب مقارنه بغيرها من اللغات. ويرى متحدثو اللغة العربية أنها لغة عالمية، وإن
لم يكن القصد بالعربية العالمية أن تكون لغة الناس قاطبة في هذه المعمورة. ولعل
مما ساعد العربية، وبخاصة الفصحى، على تحقيق هذا الانتشار أنها لغة القرآن الكريم،
وأنها متصلة الاستعمال عبر مراحل الزمن المتعاقبة، وأداة وصل حقيقية بين الإنسان
العربي المعاصر وبين تراث أمته عبر القرون الماضية. ومن مظاهر عالميتها تأثيرها
على عدد من لغات الشعوب المسلمة، وكتابة بعض اللغات غير العربية بالحروف العربية،
واستعمال الأرقام العربية في عدد من اللغات، فضلاً عن التوازي بين التهجي الصوتي
والرموز الكتابية في أغلب ألفاظها.
ولماذا
اللغة العالمية الموحدة؟ الواقع أن المجتمعات، والقوميات، والدول مختلفة في لغاتها
ولهجاتها، وأمكن التعارف، وأمكن التعارف والتفاهم بين الشعوب على الرغم من هذه
التنوعات، وأيقنوا أ ن العلاقة وثيقة بين اللغة وبين حياة أصحابها، وثقافتها
وهويتها، وتفكيرها وعقيدتها؟ وتبارك المولى جلّ وعلا إذ قال: (يا أيها الناس إنا
خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم
إن الله عليم خبير) (الحجرات:13) وقال أيضاً: (ومن آياته خلق السموات والأرض
واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لأيات للعالمين) (الروم:22) ولا تمنع هذه
الحقيقة شيوع لغة أكثر من غيرها، أو انتشار لغة بعينها في زمن معين في أرجاء، أو
أقطار محددة، أو أن يعرف أفراد كثيرون لغة بعينها لأغراض محددة.
وتعلل
لأهمية إيجاد لغة عالمية بتزايد تنقلات الناس وتوافر وسائل والاتصال عبر وغيره من
الوسائل في المجال الاقتصادي والعلمي، وتوسع المعاملات الاقتصادية بين الدول
والشركات العالمية، والحاجة إلى تخفيض الميزانية المستعملة في الترجمة وتيسير
الاتصال والتلاقي بين مندوبي الدول والشركات. ومن ثم تكون اللغة العالمية هي لغة
الفرص المتاحة على المجال الدولي. ومن جانب آخر توجد محاولات علمية وتطبيقية جادة
لتيسير عمليات عولمة الممارسات التعبيرية والأنماط الخطابية الإنجليزية، وجهود
كبيرة لتحقيق عولمة اللغة الإنجليزية تساند الانتشار الطبيعي لها في المجال
السياسي، والدبلوماسي، والتجاري، والاتصالي، والثقافي، والمعرفي. وهل اللغة
الإنجليزية لغة عالمية؟ إنها أصبحت لغة دولية للتعامل في مجال الأعمال، ويتحدث عدد
من الناس بها بوصفها لغتهم الثانية، ولا يتحدث بها معظم الناس في البلاد التي لا
تكون فيها الإنجليزية لغة أولى.
ومن
البديهي أن تسعى كل دولة لتكون لغتها هي لغة العالم، ولكن أهلية كل لغة تستند إلى
ما تمتلكه من الجمال الصوتي، والبساطة النحوية، والإنجاز الأدبي، والأهمية
التجارية، والسياسية. ويعتقد اللغويون أن لغة العالم ينبغي أن تختار على أساس
سهولة تعلمها لعدد أكبر من الناس، واتصافها بخاصيتين مؤهلتين، هما: توازي الرموز
المكتوبة مع الرموز الصوتية، وتبني كل أقطار العالم لها في الاتصال في الوقت نفسه،
فضلاً عن الخصائص السابقة. ولكن كرايستال يرى أن الخصائص الجمالية والتعبيرية
واللفظية والتركيبية والنحوية والأدبية والصلة الدينية والثقافية كلها دوافع لتعلم
اللغة لا تحقق الانتشار العالمي، ولا تضمن بقاء اللغة. ويرى أن عالمية اللغة تتحقق
بشيئين: أحدهما جعلها لغة رسمية لأقطار بعينها، فتستعمل وسيلة اتصال في مجالات
الحكومة، والمحاكم، والإعلام، والنظام التربوي، وثانيهما جعلها لغة مهمة في مجال
تعليم اللغات الأجنبية في الأقطار التي لا يكون لها فيها وضع رسمي.
وينبغي أن
تكون اللغة العالمية مستعملة شائعة في الاتصال العالمي، مبسطة ميسرة خالية من أي
تعقيد لكي يتيسر التعامل التجاري والثقافي بها، وأن تكون شائعة على المستوى
الاجتماعي بين أغلب الناس في العالم، وليس ضرورياً أن تكون مصطنعة، أو تفقد
الخصائص الثقافية المحلية والإقليمية والتاريخية لها، أو أن تكون شعاراً للهيمنة
الاستعمارية العالمية الجديدة. ولا يستلزم وجود اللغة العالمية القضاء على غيرها
من اللغات، أو مزاحمتها في وظائفها، ومجالاتها الإقليمية، أو المحلية المحدودة.
وينبغي أن
نضيف إلى ما سلف أنه لا يتعلق تحويل اللغة إلى عالمية بعدد متحدثيها، وإنما يتعلق
بنوعية هؤلاء المتحدثين وقوتهم الثقافية، فهناك صلة وثيقة بين هيمنة اللغة والقوة
الثقافية وما يساندها من قوة سياسية وعسكرية واقتصادية.