الفلسفة الاخلاقية
الفلسفة الاخلاقية عند اليونان
ان تيار الفكر الفلسفي بصفة عامة والفكر الفلسفي اليوناني بصفة خاصة متصل في دفقاته غير منقطع بحيث لا يستطيع ان نقتطع فلسفة من فلسفة لندرسها بمعزل عن الفلسفات الأخرى ، وان كان هذا لا ينفي عن كل فلسفة طابعها المميز وسماتها التي تتسم بها دون غيرها 0
وتعتبر المشكلة الخلقية ( مشكلة الاخلاق) إحدى مشكلات الفلسفة الهامة التي تؤرق بال الفيلسوف بوصفه إنسانا تاريخيا يحيا في مجتمع ويعاني الكثير من الخبرات الخلقية ويجد نفسه ملزما بتحقيق مصيره (8)
هذا وتدين الفلسفة سواء فلسفات العصور الوسطى أو الفلسفة إسلامية أو الفلسفة الحديثة في كثير من جوانبها بالفضل للفلسفة اليونانية ، فمعظم المشكلات التي ظهرت حديثا في دراسة المشكلات الاخلاقية وجدناها قبل ذلك في الفكر اليوناني 0
ويمكن القول بأن المذاهب الاخلاقية في الفكر اليوناني تأخذ احد الاتجاهين متمايزين :
الاتجاه الأول
ويسعى باتجاه الدوافع والبواعث حيث يرى أنصار هذا الاتجاه ان الفعل ينبغي ان يستمد قيمته الخلقية من الباعث الداخلي الذي يدفع الانسان إلى القيام بالفعل الخلقي ولا عبرة في ذلك بنتائج الفعل وغاياته ،فقيمة الفعل كامنة فيه وليست خارجة عنه ، باعثة إليه وليست حاصلة عنه ، ومن أصحاب هؤلاء الاتجاه سقراط وأفلاطون والرواقيون والكلبيون وأرسطو على اختلاف بين هؤلاء جميعا حول تحديد طبيعة هذا الباعث الخلقي وتوضيح معناه 0
فسقراط جعل السعادة القائمة على أساس من سيطرة الفعل على دوافع الشهوة ونوازع الهوى أساسا لكل فعل خلقي ورد سلوك الإنسان إلى حياة الاعتدال التي أساسها معرفة الحق والخير والجمال ، وجعل الفضيلة وليدة المعرفة فمن عرف الحق حرص على فعله ، ومن أدرك الشر توخى الابتعاد عنه لأنه لا يأتي بالشر إلا من جهله ورفض سقراط ان يرد أخلاقية الفعل إلى سلطة خارجية تتمثل في الآلهة أو العرف الاجتماعي أو غيرهما ، وأنما حرص على ان يجعل قواعد الاخلاق ثابتة غير متغيرة وان يجعل مقياس الخير والشر مطردا أو موضوعيا لا يتوقف على مصالح الناس وأمانيهم فلا يتغير بتغير الزمان والمكان 0
وأما افلاطون فرأى ان الخير يكمن في تحقيق العدالة التي تتمثل في التحكم في قوة النفس الثلاث وهي القوة الناطقة والقوة الشهوانية والقوة الغضبية 0
وتتحكم في هذه القوى الثلاثة ثلاث فضائل على التوالي : الحكمة والعفة والعدالة 0
فالحكيم هو الذي يلزم حد الاعتدال ويتمسك بالعفة ويزهد في اللذة 0 ومتى خضعت القوى الشهوانية للقوى الغضبية وأذعنت الغضبية للعقل تحققت العدالة 0
والسعادة عند افلاطون تقترن بهذه العدالة ، والعادل سعيد وإن أصابته المحن ونزلت به الكوارث وخلت حياته من المتع والملذات وهذه السعادة عند افلاطون هي الخير الاقصى 0 فالآلام عنده قد تطلب لذاتها مادامت حسنة ، وقد تجتنب الملذات مادامت رديئة والنافع منها ما يجلب الخير والضار هو ما يجلب لنا الشرور ، وليس الناس أخيارا باللذة التي يحسنوها بل بالخير الذي تجلبه عليهم هذه اللذة 0 وليس الأشرار أشرارا بالألم دائما بالشر الذي يقترن به هذا الالم 0
ومن هنا كانت قيمة الفعل الخلقية نابعة من الفعل ذاته وليست قائمة خارجة أو متمثلة في نتائجه وغاياته ، وأكد افلاطون القول بأن الفعل الخلقي يتضمن جزاءه في باطنة وحمل في ذاته مبررات فعله فقيمته ذاتية فيه ، ومعنى هذا ان الإنسان لا يقدم على الفعل رغبة في تحقيق لذة أو الحصول على منفعة وإنما يأتيه لذاته باعتباره غاية في نفسه 0
ولقد صرح أرسطو في أول كتابه " الاخلاق النيقوماخية ) بأن الخير هو موضوع جميع الآمال وهو ما يقصد إليه الكل ويجعله تابعا لعلم السياسة التي احتلت مكانة هامة ، ومن هنا كانت الاخلاق عنده علما عمليا لأنها تهدف بالدرجة الأولى إلى إسعاد المجتمع 0 وجعل السعادة هي الغاية القصوى للسلوك الإنساني حيث لا تكون أداة لغاية أخرى بعدها بل كل أنماط السلوك لابد ان تهدف إلى هذه الغاية ومن ثم تتجه نحوها أفعال الإنسان وتكون قيمتها في ذاتها وليست خارجة عنها 0 ولم يجعل الفضيلة غاية للسلوك كما فعل سقراط وإنما كانت الفضيلة عنده وسيلة لتحقيق السعادة التي هي أقصى أمانينا 0
أما الرواقيون والكلبيون فقد رأوا ان الفيلة لا يمكن ان تتحقق إلا بالتجرد من الرغبات والشهوات الحبيسة 0 ونادوا بنزعة تصوفية أساسها الزهد في كل ما يتصل بحاجات النفس ومطالب الجسد لذلك كان الحكيم عندهم من يخضع حياته عن وعي لحكم العقل ويعيش وفقا لما تمليه أحكامه 0 فالفضيلة وحدها هي الخير والرذيلة وحدها هي الشر ، ولا شيء سواهما يمكن اعتباره خيرا أو شرا 0
ولقد أدى بهم هذا النزوع إلى عدم الاكتراث بمظاهر الحياة التي تورث اللذة والنعيم فليس عندهم ان العجز والفقر والمرض والموت شر كما استبعدوا من الخيرات الثراء واللذة والصحة والحياة ، فالحكيم قد يفضل الموت هربا من أنماط معينة من السلوك في الحياة 0 ولما كانت الفضيلة عنهم تقوم على التأمل العقلي فقد استندت في أساسها الى المعرفة وبهذا يقترب المذهب الرواقي من رأي سقراط وأفلاطون في التوحيد بين الفضيلة والمعرفة 0
الاتجاه الثاني :
ويسمى بالاتجاه الغائي وهو الذي يستمد القيمة الخلقية للفعل من نتيجته الحاصلة عنه ، والتي هي سابقة في ذهن الشخص على وجود الفعلي لكنها متأخرة عن الفعل في الوجود ، ويندرج تحت هذا الاتجاه أصحاب مذهب اللذة كالسوفسطائيين والقورينائيين والابيقوريين وما تفرع عن هذه المذاهب من آراء ومعتقدات 0
- رأي أنصار هذا الاتجاه – وخاصة السوفسطائيين ان الانسان مقياس لكل شيء فهو مقياس للحقيقة والمعرفة وهو أيضا مقياس للقيمة الخلقية 0 وجعلوا اللذة هي للأفعال الانسانية فمن حق الانسان ان يستخدم ذكائه في أشباع رغباته وما يجلب عليه من اللذة والسرور بالطريقة التي يرضي عنها والخير كل الخير في ازدراء شهوات الإنسان والحصول على اللذات والابتعاد عن كل ما يجلب الالم والحزن ، فقيمة الفعل الخلقي عندهم تكمن في الغاية من الفعل ، فكل فعل يؤدي إلى السرور واللذة ويبعد عن الالم والغم يكون خيرا وكل ما أدى إلى الآلام أ ابتعد عن تحصيل اللذات يكون شرا لأن اللذة وحدها هي الخير عندهم والالم وما يؤدي إليه هو الشر الأسمى والالم هو الشر الأقصى فالفضيلة ليست قيمة في ذاتها وإنما تستند قيمتها من اللذات التي تقترن بها 0
هذه لمحة قصيرة وسريعة توضح أهم الاتجاهات التي سادت مدارس الفكر اليوناني حول تحديد مفهوم الفعل الخلقي ، يتضح منها ان هناك اتجاهين رئيسين سادا التفكير الاخلاقي عند اليونان وهما كما سبق اتجاه الدوافع والبواعث الذي يرفض الغاية قيمة للفعل الخلقي ويجعل قيمة الفعل كامنة فيه متمثلة في نبل القصد وسمو الباعث والإرادة الطيبة فمبررات الفعل باطنة في الباعث والإرادة منه والإنسان الخير هو الذي لا ينتظر الجزاء من الفعل وإنما يفعل الخير إيمانا منه بأن الخير هو ما يجب ان يفعله 0
أما الاتجاه الآخر : فيجعل قيمة الفعل في الغاية منه ، فإن كانت نتيجة الفعل نافعة أو سارة كان الفعل خيرا ولا عبرة في ذلك بالنوايا والارادات من الفعل ، وإن كانت نتيجة الفعل غير نافعة أو مؤلمة كان الفعل شرا مهما توفرت له من حسن النية ونبل الدوافع (13)0
وسوف نقوم الآن باستعراض الفلسفة الخلقية لدى واحد من اعظم فلاسفة الفكر اليوناني وهو أرسطو0
أرسطو كنموذج من التفكير الاخلاقي عند اليونان