الفنان عبد الهادي
الفنان عبد الهادي الجزار
على الرغم من مرور سنوات طويلة على وفاة الفنان التشكيلي عبد الهادي الجزار أبن حي السيدة زينب العريق ، إلا ان أعماله مازالت تحتفظ بسحر خاص يمنحه أسلوبه الأسطوري الذي غاص في أعمق طبقات المجتمع ظلمة ، حيث استمد رؤاه من مجتمع يعاني من القلق بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ، مجتمع خيمت عليه ظلال كثيفة من اليأس والإحباط وهو المناخ الذي دفع مجموعة من الفنانين تحت ضغط الرغبة في التغيير إلى تفتيت البناء التقليدي للشكل الفني الذي توارثته الأجيال ، بعد أن أمتزج التشاؤم بألوانها ولمساتهم ، حيث جاءت جماعة الفن المعاصر التي تكونت عام 1946 لترفض القديم والموروث وتقدم فنا مصريتا بعيدا عن التعلق بالنموذج الغربي البارد ، لتتخلق في رحم هذه الجماعة أول موجة فنية شعبية حقيقية ، استفاد أعضاء جماعة الفن المعاصر من إشارات وتجارب الجماعات المتمردة السابقة 0
من بين فرسان هذه الجماعة برز الفنان عبد الهادي الجزار صاحب مقولة ان الفن هو أحد أسلحة الجماهير في معركتها من أجل الكفاية والعدل ففي حي القباري بالإسكندرية ولد الجزار في مارس عام 1925 لكن نشأته وطفولته قضاها وسط حي السيدة زينب بالقاهرة ، فقد حاصرته التقاليد المترسبة في جنابات الحي الشعبي ، وفتح عينيه على العادات الموروثة المتأصلة بين أبنائه ، وشاهد طقوس الموالد والأفراح وحفلات الزار ، ولاحظ الأحجبة والتمائم والمعتقد السحري ، وسمع الحواديت والحكايات والأساطير ، وتشعبت ذاكرته بهذه المرئيات فكانت النبع الأصيل لأعماله الفنية 0
كانت الأعمال المبكرة لعبد الهادي الجزار منذ 1942تمثل محاولة لارتياد الحياة البدائية في النفس أو خارجها ، فنرى نساء يخرجن من القواقع والأنهار ، تحفهن الأشجار البرية أو الطيور والقطط ورجاله المتحجرون تلفهم الأحجبة والطلاسم والبخور والأكف والرموز السحرية 0 وكان هذا مدخله للتعرف على اللاشعور الجمعي ومخزون القيم والرموز والخرافة لدى الطبقات الشعبية مما يشكل ميثولوجيا الحياة المصرية وواقعها التعس الذي نشأ به في حي السيدة زينب ، وما اختزنته ذاكرته عن عالم المولد والسيرك الشعبي 0 وبعد قيام ثورة 1952 كان الجزار أكثر الفنانين ايمانا بها وتعبيرا عن منجزاتها مثل قناة السويس والميثاق والسد العالي والدعوة للسلام ، وأكثرهم بحثا عن شكل ناضج للتواصل بين الفنان ومجتمعه وكان معماره التشكيلي يتسق تماما مع عالمه التعبيري 0
عرف الجزار طعم التحدي والفوز مع أول مسابقة فنية اشترك فيها عام 1942 ، وهو لم يزل طالبا بالمرحلة الثانوية عن لوحة تكشف السلوكيات الخاطئة لدى الناس ، ورغم معارضة أسرته التحاقه بكلية الفنون الجميلة ، بعد ذلك بعامين ،استطاع ان يجتاز اختبارات القبول ، وبل وجاء ترتيبه الأول بين المتقدمين وسرعان ما شارك في الحركة الفنية بداية من العام 1946 وذلك من خلال جماعات الفن المعاصر ، التي أصدرت بيانها الأول من ذلك التاريخ موقعا عليه كل من الجزار ، وحسين يوسف أمين الذي أشرف على توجهها سمير رافع ، حامد ندا ، ماهر رائف ، كمال يوسف ، سامي الحبشي ، محمود خليل ومن اهم اعمال الجزار
لوحة السد العالي
شهدت فترة الأربعينات ركودا وجمودا أكاديميا سيطر على الحياة الفنية ، دفع الفنانين إلى أخذ زمام المبادرة لقيام وتكوين الجماعات الفنية المتمردة ،ومنها جماعة الفن المعاصر ، الفن والحرية ، والفن الحديث ، حيث كانت القيود المدرسية في فن التصوير ، لا تسمح بالسير ابعد من التأثيرية ، الانطباعية ، حيث ضاق الفنانون الشبان بهذه القيود، فاتجهوا إلى التجديد في الشكل ليميزوا المضمون الجديد الذي اجتهدوا في التعبير عنه ، تمحورت أفكارهم حول ضرورة تحطيم المثاليات القديمة في الفن ، وإقامة قواعد جديدة تتلاءم مع ما يلمسونه من تحولات في المجتمع المصري خلال الحرب العالمية الثانية 0 وارتبطت موهبة الجزار في البداية بقيم عقلية ، جاءت نتيجة اهتمامه العلمي بدراسة الجغرافيا البشرية وعشق التاريخ ومراجعته لتاريخ الإنسانية ونشأة الحياة ، حيث اندفع يصور شخوصه خارجه من الأرض وأيضا البحر ، والقواقع والآبار ، لهذا أطلق عليه أستاذه حسين يوسف أمين أسم فنان القواقع بسبب التصاقه بالطبيعة المجردة 0
كانت نشأة الجزار في الأحياء الشعبية وفي بيئة دينية ، حيث كان والده من رجال الدين ، هي التي شكلت المرحلة الثانية من مراحل فنه ، التي غلب عليها نزعة سريالية تعبيرية اكتست بالخوف والشك الذي يسود الحياة الشعبية ، حيث اتسمت رؤاه بالتشاؤم ، الذي يثقل كاهل الناس ومعبرا عن الثورة العاجزة عن مواجهة التقاليد الموروثة ، ثم استسلام الذي تولد عن خيبة الأمل المتكررة وعن الهزائم المتوالية ، وبأسلوب عميق الأثر عكس الجزار ، ذلك التراث الروحي المثقل للأجداد ، في إطار تراجيدي مأساوي يجسد الجمود والتراخي الذي كان يكتنف سطح الحياة المصرية في ذلك الحين
امتلك الجزار بصيرة نافذة اخترقت طبقات المجتمع المصري في منتصف القرن الماضي ، أذ جسد الخوف المتراكم في قرارة النفوس التي اعتقدت في الخرافة ، وتمسكت بالغيبيات ، وبمزيج من الرمزية والسريالية عبر عن كل هذا في لوحات الرجل الأخضر ، العرافات ، فريح زليخة أبو أحمد الجبار ، الزار ، الزناتي خليفة ، والأصوات 0
ويصطدم الجزار بالنظام السياسي الفاسد قبل ثورة 1952 عندما القى القبض عليه مع أستاذه حسين يوسف أمين وقدما للتحقيق بسبب لوحة الجوع ، التي كان يسميها الجزار مسرح الحياة أو الكورس ، وتصور اللوحة مجموعة من الفقراء يصطفون وأمامهم على الأرض صف من الأوعية الصحاف الفارغة ، اعتبرت السلطة الحاكمة وقتذاك ان هذه اللوحة تمثل هجوما على النظام الاجتماعي نظرا لوضوح مضمونها الثوري 0
تنبأ الجزار بالثورة والتغيير في لوحة الماضي والحاضر والمستقبل والتي أنجزها بالألوان الزيتية في عام 1951 ، أي قبل ثورة يوليه بعد أشهر ، حيث صور الماضي في خلفية اللوحة عبارة عن أسوار لسجن أطل منه سجين على جنازة تسير ، كما اتجهت امرأة وبيدها طفل إلى حيث المجهول ، فى دلالة إلى الحياة المضطربة الحبيسة ، في الوقت الذي صور فيه الحاضر في شكل وجه إنسان اتخذ ملامح حادة تتسم بالقوة والعزم والإصرار ، أيضا شرود الذهن في ماضي كريه ، متطلعا إلى واقع جديد ، وأن كان صوره الجزار مثقلا بالاحجبة والأقراط المدله من أذن بطل اللوحة ، والمعلقة على صدره ، أما المستقبل فرمز له الجزار بالمفتاح الموضوع أمام الحاضر ، والمفتاح هنا يشير إلى القدرة على كسف الأسرار من وراء الأبواب المغلقة ، واللوحة ككل تجسد صورة عهد من أحلك فترات مصر الحديثة قبل قيام الثورة ، عاش خلالها عدد كبير من الشباب داخل أسوار السجن العالية لأنهم يطالبون بحقهم في الحرية والحياة الكريمة في مواجهة الطغيان والفساد .