تأسيس ميتافيزيقا ا
تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق
يقصد كانت من مصطلح الميتافيزيقا المعرفة القبلية بموضوع ما عن ريق التصورات المحضة 0 أنها المعرفة القادرة على تجاوز الشكلية المنطقية البحت 0 والتجريبية البحت 0 والتي تستطيع بواسطة هذا العقل وحده ان تحدد موضوعها 0 وتتميز ميتافيزيقيا الاخلاق من ميتافيزيقا الطبيعة بكون الأولى تتناول قوانين ما يجب ان تكون ، بينما الثانية تتناول قوانين ما هو كائن 0
وميتافيزيقا الاخلاق لن تستمد إذن قوانين الاخلاق من الطبيعة الإنسانية ولا من عادات الناس وآيينهم ، بل من العقل ذاته مباشرة ولهذا فأنها لن تستعين بعلم النفس ولا بعلم الإنسان ( وكنت يوحد مرارا بين علم النفس التجريبي وبين علم الإنسان ، لأن موضوعهما واحد هو معرفة الطبيعة الانسانية ) 0 والسبب في ذلك هو ان معطيات علم النفس ( أو علم الإنسان ) هي من الغموض والتشعب والتشتت بحيث لا يمكن ان نستخلص منها قواعد كلية مطلقة ، وفيها خلط بين المبادئ وبين الاحوال الجزئية بحيث تتوقف النتائج المستخلصة على الاحوال الفردية والميول والعواطف الخاصة وآفة المذاهب هى التي تريغ إلى تفسير الاخلاق بتراكيب لنفس الإنسانية أو الطبيعة الأنسانية ، أو بالظروف التي يعيش فيها الإنسان هي أنها لا تملك ان تقدم غير قواعد متفاوتة العموم ، ذاتية بدلا من ان تقدم كلية موضوعية للإرادة 0
وقد دفع كنت إلى اتخاذ هذا الموقف أمران : الأولى نظري وهو ان حقيقة الاخلاق شأنها شأن حقيقة العلم 0 لا يمكن ان تستخلص إلا من الشكل المحض للعقل 0 لا من المضمون المادي للتجربة ، والثاني عملي وهو أنه إذا استندت الاخلاق إلى اعتبارات تجريبية 0 فأنها ستقدم إلى افرادة بواعث حسية من شأنها ان تفسدها وذلك أما بصرفها عن الواجب نفسه0 أما إذا حرصت الاخلاق على عدم إصدار قوانين للإرادة غير تلك المنبثقة عن العقل المحض فإن في وسعها حينئذ ان تؤثر في النفوس 0 وكلما توقفت العلاقة بين القاعدة وبين الأحوال الجزئية 0 كانت القاعدة أبعد عن الموضوعية والدقة والصرامة 0
وليس معنى هذا ان كنت لم يحسب حساب التجربة والواقع 0 بل العكس تماما : أنه لما شاهد حال الواقع والتجربة ، انتهى إلى ان من المستحيل تأسيس الاخلاق على الواقع : إذ الواقع مشتت والاخلاق تريد قوانين ومبادئ موحدة والواقع متغير والاخلاق تزيغ إلى ثابت ، والواقع نسي والاخلاق تهدف إلى ما هو مطلق 0 لقد ثبت له أنه لا يوجد قوانين ثابتة للسلوك الإنساني 0 كما توجد قوانين لسير الطبيعة ، ولهذا علينا إذا أردنا وضع قوانين ما يجب أن يكون أن نصرف النظر عن الواقع 0 ولو وجدت قوانين نفسية ، فإنه لا توجد قوانين أخلاقية 0 وعلم النفس ليس هو فلسفة في الأخلاق ، بل يندرج ضمن فلسفة الطبيعة 0 " ان فلسفة الطبيعة تتناول كل ما هو كائن ، أما فلسفة الاخلاق فلا تتناول إلا ما يجب ان يكون
أن فكرة الواجب مثلا تفرض أن القوانين الاخلاقية لا تكون إلزاما بالنسبة إلى الإنسان الجزئي ، بل تلزم كل كائن عاقل بوجه عام 0 والقاعدة التي تأمرنا – مثلا بعدم الكذب أبدا لا تتعلق بنا وفقا لأحوالنا العارضة بل تنطوي على ضرورية ذاتية بها تصير هذه القاعدة ملزمة لكل كائن عاقل 0
ومن هنا يضع كنت فكرة الإنسان بوجه عام محل فكرة ملاحظة الناس الأفراد ويضع تصور الإنسان العاقل محل ملاحظة الطبيعة الإنسانية (23)
نظرية كانت في الإرادة الخيرة
لو أننا نتساءل عن المبدأ الأخلاقي الذي يمكن ان نعده بمثابة الدعامة الأساسية لكل " أخلاقية " لوجدنا " كانت" يقرر ان الإرادة الخيرة هي من بين جميع الأشياء التي يمكن تصورها في هذا العالم أو حتى خارجه – الشيء الوحيد الذي يمكن ان نعده خيرا على الإطلاق ، دون أدنى قيد أو شرط (8)
" من كل ما يمكن تصوره في العالم بل وخارج العالم بعامة ليس ثم ما يمكن ان يعد خيرا بدون حدود أو قيود اللهم إلا الإرادة الخيرة (24)
بهذه الجملة الرائعة بدأ كنت القسم الأول من كتاب " تأسيس ميتافيزيقا الاخلاق " وهو يقصد منها ان الارادة الخيرة هي وحدها التي يمكن ان تعد خيرا في ذاته 0 أو خيرا مطلقا أو خيرا غير مشروط 0 وبعبارة أوضح نقول ان الارادة الخيرة يجب ان تكون خيرة في كل الظروف ومهما كانت الأحوال فينبغي ان تكون كذلك دائما بمعنى أنها تكون خيرة في ظرف ، غير خيرة في آخر ولا تكون خيرة كوسيلة لغاية وشريرة كوسيلة لغاية أخرى 0
وبالجملة فإن خبرها لا يتوقف على أي شرط أو ظرف أ رغبة أو غاية وهي إذن خير مطلق وغير مشروط أبدا خير في ذاتها لا بالنسبة إلى أي شيء آخر 0
صحيح ان " الذكاء" وملكة إدراك المشابه بين الأشياء والقدرة على تمييز الحكم وسائر مواهب النفس 0 أيا كان الاسم الذي نطلقه عليها أو الشجاعة أو العزم أو المثابرة في النوايا 0 بوصفها صفات للمزاج أمور خيرة ومرغوب فيها من عدة نواح 0 لكن هذه المواهب الطبيعية يمكن ان تصبح في غاية الشر والسوء إذا لم تكن خيرة الارادة التي عليها ان تستعملها والتي تسمى استعداداتها لهذا السبب خلقا 0 (23)
والفكرة التي أوردها كنت خلاصتها انه لو كانت الطبيعة تهدف إلى سعادة الإنسان لكانت اختارت لتحقيق ذلك ان تزوده بالعضو الكفيل بأداء ذلك على أيسر وأحسن وجه 0 والعقل ليس هو ذلك العضو بل الغريزة أقدر على الوفاء بذلك من العقل 0 فإذا كانت قد ـودعت العقل في الإنسان وجعلته أداة تحقيق أغراضها وهو غير قادر على توفير مطلب السعادة فمعنى هذا ان الطبيعة لم تهدف إلى سعادة الإنسان وكنت قد وقع هنا تحت تأثير روسو من جهة وتأثير المسيحية من جهة أخرى 0 فذهب إلى ان العقل لا يؤدي دوره إلا بمعارضة الغرائز الطبيعية ومضادة السعادة التي توفرها الغريزة 0 ولهذا فإن مهمة العقل هي تحقيق الحق والاخلاق المحضة وليس إرضاء ميول الإنسان وغرائزه 0 وهو في هذا يعارض أيضا التنوير التي أكد أصحابها ان سيطرة العقل من شأنها أن تؤدي إلى تحقيق أكبر سعادة للإنسان
فماذا عسى ان تكون مهمة العقل إذن اللهم إلا أيجاد أرادة الخير لا تسع إلى أشباع ميول وإنما تكون خيرة في ذاتها وبذاتها فحسب 0
لكن إذا كانت الارادة الخيرة هي الخير الاسمى فليس معنى ذلك أنها الخبر الوحيد 0 أو أنها الخير كله 0 فليس بصحيح ان كنت يحط من شأن السعادة ، إنما هو يجعلها من ضمن سائر الخيرات 0 وليست الخير الأسمى أو الخير كله 0 والعقل يلعب دورا ضروريا في تحقيق السعادة وذلك بإرشادنا إلى وسائل تحقيقها 0 ولكن مهمته الكبرى هي السعي إلى الخير الأسمى وهو غير مشروط بالشهوات والحاجات وبهذا يؤدي غايته وأن لم يؤد إلى تحقيق السعادة وهذا الخير غير مشروط هو الارادة الخيرة 0
وإذن " فمهمة العقل الحقيقية هي أيجاد إرادة خيرة لا بوصفها وسيلة من أجل غاية أخرى بل خيرة في ذاتها 0 وهذا السبب كان وجود العقل ضروريا ضرورة مطلقة ما دامت الطبيعة في كل مكان هي بسبيل توزيع خواصها قد سلكت وفقا لغايات 0 وقد يمكن ألا تكون هذه الارادة هي الخير الوحيد هي الخير كله 0 لكنها مع ذلك وبالضرورة هي الخير الأسمى وهي الشرط لكل خبر آخر بل وكل تطلع للسعادة 0" (23)
وقد علق أحد فلاسفة الأخلاق المعاصرين على نظرية " كانت" في " الإرادة الخيرة " فقال ان الفيلسوف الألماني الكبير قد أراد ان يخلص الأخلاق من كل نزعة توحد بين السعادة والخير ، وهذا هو السبب في أنه قد ذهب إلى ضرورة عدم ربط " الأخلاقية " بنتائج الافعال 0 فليس المقصد الحقيقي للعقل – في رأي كانت – ان يوصلنا إلى إرادة خيرة من حيث أفعالها بل " إرادة خيرة في ذاتها " (8)