تحديات العولمة للغ
تحديات
العولمة للغة العربية والتعامل معها
من
التحديات التي تمثلها العولمة للغة العربية ولأي لغة أخرى توسع العولمة الثقافية
اللغوية الأمريكية الأحادية التي تحاول أن تجعل الرجل العالمي يشبه الرجل العالمي الآخر
في كل قطر يتحدث اللغة الإنجليزية مثله، فلا توجد أي هوية لغوية عالمية أخرى غير
اللغة الهوية الإنجليزية، سواء كان التحدث بها كلغة أمّ، لغة ثانية، أم ثالثة.
وإنما المهم أن تكون هوية الناس في الألفية الميلادية الثالثة اشتراكهم في
الممارسات الثقافية والمقومات الفكرية الغربية، وأن يستطيعوا كلهم التحدث
بالإنجليزية.
تستند
العولمة اللغوية إلى مراكز القوة الغربية التي تمارس التحكم في العلوم والتقنية
وتسيطر عليها، وتجيد الهندسة الاتصالية وتستغلها في نشر الأفكار والقيم الغربية
إلى كل مكان في العالم. وبما أن أغلب مقومات الثقافة العالمية في الألفية
الميلادية الثالثة متصلة بالاستغلال التجاري للأذواق والرغبات، وبتجاهل التنوعات
الإنسانية، وبما أن أصحاب اللغة العربية الأصليين مستهلكون، في الغالب، غير فاعلين
في البناء الحضاري المعاصر، كما ينبغي، فمن الممكن الخدش في هويتهم اللغوية
والثقافية، وإحداث التأثير السلبي على استعمال اللغة العربية، ونشرها، وتعليمها
داخل البلاد العربية وخارجها.
يوجد تحدٍّ
آخر في إمكان المحافظة على المحتويات الثقافية للغة العربية في ظروف العولمة
الثقافية واللغوية، وإمكان الإسهام في البناء الحضاري الإنساني، أو الإفادة منه
دون التضحية بالخصائص الثقافية واللغوية العربية الإسلامية، ولا يغني في الحفاظ
على هذه المحتويات والخصائص الوقوف عند تعريب المعلومات الوافدة من الثقافات
الأجنبية، أو الكفاح في وصف الآلات والأجهزة واقتراح الأسماء للمخترعات، فتانك
وسيلتان لتمكين مستعملي اللغة العربية من متابعة تطور المعلومات وتقدم التخصصات
العلمية، فإذا وقفت العملية عند حدّ التعريب، فلا نكون قد فعلنا أكثر من نقل
الممارسات الثقافية، والمقومات الفكرية الأجنبية إلى اللغة العربية، وأتحنا الفرص
بكل مقدراتنا ومواردنا لمزاحمة المحتويات والخصائص الثقافية اللغوية العربية
الإسلامية.
يمثل
التخفيف من تبعات هيمنة اللغة الإنجليزية بوصفها "لغة عالمية" أو
"معولمة" تحدياً آخر للغة العربية في الوظائف اللغوية التربوية،
والنفسية والفكرية، ومثلها الفرنسية. لقد غدت إجادة اللغة الإنجليزية أو الفرنسية
"ميزة" للمتحدثين باللغة العربية في المجال العلمي، والفكري وأصبحت
الإحالة على المراجع الأجنبية، وإقحام المصطلحات الأجنبية دليلاً على سعة الإطلاع
في التخصص. وتبوأت اللغة الأجنبية مكاناً خاصاً في السياسة التعليمية في كثير من
الدول العربية، واعتبرت مادة أساسية في المراحل التعليمية الأولى، والجامعية، ولم
تنج المؤسسات التعليمية الإسلامية من ذلك. وغدا التعايش مع اللغة الإنجليزية أو
الفرنسية عادياً لدى الإنسان العربي، ونشأ الطفل العربي على تمجيد اللغة
الإنجليزية بصفة خاصة.
وتمثل ثورة
المعلومات المرتبطة بالعولمة تحدياً آخر للغة العربية في توفير المعلومات عن اللغة
العربية، ومتكلميها، وثقافتها، ولهجاتها عبر الإنترنت والبث الفضائي باللغة
العربية، وبلغات أخرى عند الضرورة. ومن وثم تأثير سلبي آخر في التعامل مع الإنترنت
على الإجادة اللغوية العربية؛ إذ أن أغلب برامجها مصممة حالياً في اللغة
الإنجليزية، أو على الأحرى، بلغات ليست عربية. ولتقنية المعلومات من طرف آخر تأثير
سلبي على المهارة الكلامية والفصاحة اللغوية، وتحسين الخط العربي؛ إذ يجد الطفل
العربي بديلاً عنها بالتعامل الكتابي الذي قد يكون باللغة الإنجليزية لدى إجادته لها.
إن انتشار
الممارسات الأجنبية الشائعة في الخطاب الاجتماعي، والثقافي، والفكري العربي تحدّ
آخر من العولمة في تشكيل مفاهيم مستعملي اللغة العربية. فقد لا يكون واقعياً إنكار
حدوث تطور في مفردات اللغة العربية وأساليبها، بيد أنه لا يليق أن يكون معظم مظاهر
هذا التطور من إملاء خارجي ولا يحسن أن يشيع استخدام أساليب إنجليزية أو فرنسية في
أصوات وصيغ وقواعد نحوية عربية، كما لا يعقل أن يكون الخطاب العربي صدى للخطاب
الغربي. ولكن الواقع أن أصبح التخلي عن استعمال اللغة العربية، واستبدال لغة
أجنبية بها (وبخاصة الإنجليزية في المشرق العربي، والفرنسية في المغرب العربي) سمة
من سمات العصر لدى العرب ثنائيي اللغة بإحدى هاتين اللغتين، وبخاصة في الدراسات
التخصصية العلمية والبحث العلمي. وأكثر من ذلك عقد الاجتماعات والمؤتمرات في
البلاد العربية بلغات أجنبية بغير حاجة ما سوى اشتراك عدد قليل جدا من أهل تلك
اللغات. وأصبح تفضيل اللهجة العامية على الفصحى هواية لدى دارسي العلوم العربية
خارج العالم العربي. ولقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو سعيد
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لتتبعن سنن من قبلكم شبراً
بشبر وذراعاً بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه. قلنا يا رسول الله : اليهود
والنصارى. قال: فمن"
.
ليست خطة
العولمة اللغوية بخافية في إيجاد لغة عالمية للاتصال الدولي، وللتعامل بين الناس
قاطبة، وقد وجدت أبحاث جادة تساند موقع اللغة الإنجليزية وأهليتها للوظيفه الاتصالية
والثقافية العالمية، ولم ترض العولمة باختيار لغة مصطنعة محايدة ثقافياً، أو مجردة
عن ملامح ثقافية، على الرغم من صعوبة إيجادها. ولم يكن من بديل سوى إحدى اللغات
الطبيعية مع التغاضي عن خصائصها الثقافية المحلية، أو الإقليمية، وهي الإنجليزية
في هذا الصدد. وهيمنة اللغة الإنجليزية تستلزم الاستعمار اللغوي
"الجديد" بتبعاته الثقافية، والدينية. وقد بذلت في إطار العولمة جهود
جبارة في تيسير تعليم اللغة الإنجليزية وتعلمها، والتعامل التجاري والثقافي بها في
مجالات متنوعة، وفي تخليصها من التعقيدات القاعدية والأسلوبية. ولا شك أن الارتقاء
باللغة العربية إلى مستوى منافس للغة الإنجليزية في العالم الإسلامي تحدِّ كبير
ومكلف، بل إنه "مستحيل" في الوضع الراهن. إذ أصبحت الإنجليزية مؤسسة إلى
حد لا يمكن أن ينظر إليها بأنها ملك لدولة بعينها، ولا يمكن إيقافها في صدارتها العالمية
إلا إذا حدثت ثورة قوية تغير مراكز القوة العالمية.
تواجه
اللغة العربية في تعاملها مع العولمة مشكلة المقاومة الداخلية للتطور اللغوي (أو
التحديث اللغوي) من قبل المحافظين الانتقائيين. إن العربية المعولمة لا بد أن تكون
عربية ميسرة في ألفاظها وتراكيبها وقواعدها، قادرة على استيعاب التنوعات الثقافية
الإسلامية، والتنوعات اللهجية الداخلية، مؤهلة للعطاء الفكري المعرفي، والثقافي
والتجاري، وهي كلها قضايا تجاوز المسائل التقليدية في الأبحاث اللغوية العربية
المحافظة. ومن الضروري تسوية الانقسامات، واستتاب الإنجازات الداخلية قبل أن تتأتى
الإنجازات الخارجية العالمية. ومن المؤسف أن اللغة العربية تعاني الإهمال في
غالبية الدول العربية. ويشير رشدي طعيمة إلى أن الأبحاث العلمية حول الاتصال
اللغوي بمنطقة الخليج العربي تذكر أن اللغة الإنجليزية تحتل المرتبة الأولى في
التخاطب اليومي، يليها هجين لغوي خليط من العربية والإنجليزية ، ثم اللهجة
الخليجية في المرتبة الثالثة، ثم خليط من الهندية والأردية والعربية في المرتبة
الرابعة، ثم تأتي اللهجة المصرية في المرتبة الخامسة.
صممت وسائل
العولمة وخدماتها لتلائم طبيعة اللغة الإنجليزية، ولتساعد على انتشارها وعولمتها،
كما تناسب بعض اللغات الأوروبية، ومما يمثل التحدي للغة العربية النظام الكتابي
العربي المحدود خدماته على الإنترنت والبريد الإلكتروني. والبرامج الحاسوبية به
محدودة إذا قيست بما يتوافر بالنظام الكتابي اللاتيني "الإنجليزي"، وترد
البرامج العربية أحياناً لتكون دعماً للبرنامج الأساسي باللغة الإنجليزية.
والتطورات التي تحدث في البرامج العربية متأخرة في الغالب عن المستجدات المتلاحقة
في البرامج الإنجليزية.
هناك حقيقة
أخرى قد تكون مرّة، هي أن اللغة قد تصبح عالمية لسبب واحد، هو القوة السياسية
لأصحابها، وبخاصة القوة العسكرية، والأحداث التاريخية شاهدة على ذلك. ولكن
"العالمية" لا تتأتى من القوة العسكرية فقط، فهي بإمكانها أن تؤسس
اللغة، ولكن القوة الاقتصادية هي القادرة على رعايتها وتوسيع انتشارها، وبصفة خاصة
في عصر التطور الاقتصادي العالمي، وتؤيدها التقنية الاتصالية الحديثة، والمؤسسات
الاقتصادية والصناعية العالمية.
وللثقافة
الإسلامية وجهة نظر متميزة في العولمة مبنية على كون الرسالة القرآنية عالمية،
ووحدة الجنس البشري في أصله وتكوينه وطبيعته ووحدة الإله الخالق، وإنسانية القيم.
ويعترف مبدأ العالمية في الثقافة الإسلامية بتنوع عناصر البشرية ضمن وحدتها وهو
تنوع لا يؤدي بالضرورة إلى التفرقة (عبدالرحمن). لذا نجد أن عولمة اللغة العربية
كانت قد تمت قديماً في الأقطار التي اعتنقت الإسلام دون لجوء إلى أحادية ثقافية
عربية، فتعربت البلاد المجاورة للجزيرة العربية، وتعايشت اللغة مع لغات أخرى في
بلاد المسلمين مع تأثرها باللغة العربية. وقد سجلت المراجع آراء بعض العلماء
المسلمين المنتسبين إلى أصول غير عربية تفضل اللغة العربية على غيرها من اللغات
وتنادي باستعمالها دون غيرها من اللغات.
ويقصد
بعولمة اللغة العربية سعة انتشارها لتكون لغة شائعة يتعامل بها أكبر قدر من الناس
مقارنة بغيرها من لغات العالم. ومن شروط العولمة اللغوية المؤهلة للغة العربية
الجمال الصوتي والإنجاز الأدبي والتوازي الصوتي الكتابي. أما استعمالها العالمي
فمتوسط الانتشار، إذ يقتصر على مستوى الأفراد خارج الدول العربية. أما اليسر
النحوي فهو موضع نقاش في التراث العربي القديم، فضلاً عن الدراسات الحديثة
المنادية بتيسير النحو العربي. وقد ارتأى العديد من غير العرب أن اللغة العربية
صعبة، وأن مصدر صعوبتها تعقيد قواعدها. وإذا كانت الصعوبة أو السهولة في تعلم
اللغة العربية واستعمالها عائدين إلى الخلفية اللغوية لمستعمل اللغة، فإن منهج
تعليم العربية وطرقه، ووسائله وموضوعاته بحاجة إلى مراجعة، وتطوير، وتحسين،
وتحديث. واللغة العربية قاصرة في الأهمية التجارية والاتصالية إذ تعتمد هذه
الأهمية على مدى القوى التجارية، والإسهام في البناء الحضاري لأصحاب اللغة.
ويذكر هنا
أهمية الاستعداد للتعامل مع نوعين من الشعور عند عولمة اللغة العربية، وهما، كما
أشار إليهما كرايستال: شعور مختلط من صاحب اللغة عند تحول لغته إلى مستوى عالمي،
فرحة بانتشار هذه اللغة واعتزاز بها واتساع رقعة اتصالاته، مع عدم الارتياح من طريقة
غير الناطقين الأصليين في استخدامها، أو سوء استعمالهم لها. وشعور غير الناطق
الأصلي بهذه اللغة من الجهود المضنية لإجادة هذه اللغة، وفرحته واعتزازه عند
إجادتها لامتلاك القوة الاتصالية، وقلق وانزعاج من تهديد هذه اللغة العالمية للغته
الأصلية. فإذا صارت العربية معولمة، فمن الممكن إيجاد أنماط متعددة صحيحة للغة
العربية، فضلاً عن اللهجات، ومن الممكن تأثر كل نمط بالثقافة المحلية لمستعملي
العربية مسلمين أم غير مسلمين . وتأثرها بمعتقدات مستعملي هذه الأنماط التي قد لا
تكون إسلامية. وقد حدث مثل هذا الوضع للغة الإنجليزية وغيرها من اللغات التي اتسع
انتشارها.
ولا تتحقق
عولمة اللغة العربية إلا بإجراءات داخلية وخارجية، إنه لابد من تحديد نوع اللغة
التي تراد عولمتها، وهي الفصحى في هذا الصدد. ولا محيد من محاولة تخليص العاميات
من شوائب اللغات الأجنبية لما في ذلك من دعم للعربية الفصحى. وتقريب للعاميات
منها. ومن الضروري تيسير تعليم العربية وتعلمها وتوسع رقعة استعمالها، وقد يلزم
إصدار قانون (التزام العربية) في الاتصالات العامة في الدول العربية. ويعدّ قانون
التعريب الذي صدر مؤخراً في الجزائر في الاتجاه الصحيح ، على الرغم من تجاوزه لحقوق
الأقلية اللغوية البربرية في استعمال لغتها.
إننا في
عصر المعلومات، عصر تقدم تقنية الاتصالات، ولا بد من إحداث تغيير جذري ثوري في
إجراءاتنا في نشر الممارسات التعبيرية والخطابية الثقافية الغربية، ولا بد من
استغلال كل الوسائل الإلكترونية والاتصالية المتوافرة على المستوى العالمي لخدمة
اللغة العربية، وثقافتها الإسلامية.