رجالات الصناعة في
رجالات الصناعة في القرآن:
قدَّم القرآن الكريم نماذج عديدة لرجالات كانوا مضرب المثل في المهارة الصناعية والجدّ والاحتراف، منهم:
1- سيدنا نوح
كان نبي الله نوح من أعظم الأنبياء زهدًا، ومن أكثرهم بُعدًا عن زخارف الحياة، وقد
أخبرنا الله سبحانه أنه حينما أراد أن يهلك قومه أمره فقال: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: 37]. وبدأ نوح بصناعة فلك
عظيم، لا يشبهه فلك في العالم؛ لأنه سيحمل فيه من كل صنف من الحيوانات زوجين اثنين
عدا أصحابه وأتباعه.
لقد كان في قدرة الله أن ينزل تلك السفينة الضخمة من السماء، أو يرفع بنوح وأتباعه الأرض، فلا يصل الماء إليهم، ولكن الله أمره أن يضرب بمسماره على أخشابه، ليبني أعظم فُلك في الدنيا، قال تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ *تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 13-15].
2- سيدنا داود :
أخبر الله تعالى بأنه
امتنَّ على عبده داود بتعليمه مبادئ الصناعة العسكرية، فألان له الحديد؛ ليصنع منه الدروع
التي تقي المحارب من الأخطار، فكان له قدم السبق في ذلك، وكان أول من سردها
وحلَّقها، وكان إذا أتمَّ صنع درع باعها، فتصدق بثلثها، واشترى بثلثها ما يكفيه
وعياله، وأمسك الثلث يتصدق به يومًا بيوم إلى أن يعمل غيرها.. قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ
بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء:
80]. وقال سبحانه: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ *أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا
إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ: 10،
11].
3- ذو القرنين:
وهو رجل من الصالحين وعدَّه بعض أهل العلم من الأنبياء، وقد وود في القرآن الكريم مثلاً للحاكم الصالح، حيث مكَّن الله تعالى له في الأرض، غربها وشرقها، فنشر فيها العدل والسلام، وكان مثالاً في تفوق الصناعة؛ إذ تمكن من بناء سد من زُبر الحديد، يحول به بين شعوب يأجوج ومأجوج وبين الأمم المعذّبة.. فكان سدًّا عظيمًا لم يشهد له التاريخ مثيلاً! قال: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف: 96، 97]. قال قتادة: ذُكر لنا أن رجلاً قال: يا نبي الله، قد رأيتُ سدَّ يأجوج ومأجوج. قال: "انْعَتْهُ لِي". قال: كأنَّه البُرْدُ المُحَبَّرُ، طريقة سوداء، وطريقة حمراء. قال: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إلى رَجُلٍ قَدْ أَتَى الرَّدْمَ، فَلْيَنْظُرْ إلى هَذَا"[7].
إننا إذ نستعرض هذه
الأخبار نحسب وكأننا نتحدث عن حضارة في زماننا هذا! ولا عجب في ذلك، فقد كان رسول
الله رجل دين ودنيا، ما شغلته دنياه عن آخرته، ولا شغلته آخرته عن دنياه؛
ولذلك حينما رأى شاة ميتة وكان هذا المنظر خليقًا أن يثير فيه نوازع الزهد، ولكنه
أثار فيه نوازع الأمل، فالتفت إلى أصحابه وهم يتقزَّزون من المنظر، فقال: "هَلاَّ أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ". فقالوا: إنها مَيْتَة. فقال: "إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا"[8].
وصايا النبوة للصناع والعمال:
قيّد الإسلام الحركة الصناعية بجملة من الضوابط والآداب التي تضفي على الصنعة بُعدًا أخلاقيًّا، إلى جانب ضمان الجودة والإتقان، من ذلك:
ضرورة إتقان الصنعة:
إنَّ ما يطلب من الصانع
في أي مجال هو فيه أن يعمل بما علّمه الله تعالى عمل إتقان وإحسان بقصد نفع الخلق،
ولا يصح أن يعمل على نيَّة أنه إن لم يعمل ضاع، ولا أن يربط إخلاصه في العمل
بمقدار ما يتقاضاه من الأجر، بل على حسب إتقان ما تقتضيه الصنعة، قال : "إنَّ الله يحبُّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه"[9]؛ أي يُحكِمه.
المراقبة والمتابعة:
إنَّ أفضل الصناعات ما
كان على عين صاحبها، يتابع مراحل تصنيعها، ويراعي مكامن الجودة فيها، لتُقدَّم
للناس على أحسن ما يكون، أمَّا عندما يترك حبل الصناعة على غاربه، تكون المادة
المصنعة مظنّة للخلل والفساد، وفي القرآن الكريم إشارة لطيفة إلى هذا المعنى، حيث
قال الله تعالى في قصة موسى
الالتزام بالمواعيد:
الالتزام بالعهد سمة
المسلم، لكنّ بعض الصناع كثيرًا ما يعصون الله في المماطلة بالمواعيد، فيرتبطون
بعقود مع الناس لا يقدرون على الوفاء بها، وإنما من باب حجز هذه العقود لصالحهم،
وقد قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ}[المائدة: 1]. فلا ينبغي للصانع أن
يَعِد الناس بما لا يقدر على وفائه.
عدم كتمان العيوب:
لقد أذن الشارع بأن تصنّع
مختلف أنواع الصنعة، لكنه لم يأذن للصانع بأن يكتم عيبًا يعلمه، بل هدّد كاتم
العيب بالمقت واللعن، قال رسول الله
عدم الحلف الكاذب:
يخطئ كثير من الصناع عندما
يتبرعون بحلف الأيمان لحاجة ولغير حاجة؛ من أجل ترويج صناعاتهم، وقد قال رسول الله
عدم سرقة جهود
الناس:
من أخطاء الصناع أيضًا
أنهم يعصون الله في سرقة جهود الآخرين، وقد أصبحت هذه الحقوق جزءًا من القانون
الوضعي، وهو ما يسمى اليوم (براءة الاختراع)، ويندرج تحته أيضًا حقوق التصنيع
وحقوق النشر.. وقد سبق الإسلام إلى ذلك، فقد قال الله تعالى: {وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف: 85]. وقال رسول الله
عدم ظلم الأُجراء:
من أخطاء الصناع أيضًا
ظلم الأجراء، وهو باب يتفنَّن فيه كثير من أرباب الصناعة.. فيدخلون على أموالهم
ما ينبغي أن يُردَّ على أجرائهم، فيقعون بالشبهة والحرام، وقد قال
وبعد، فإن اهتمام
الإسلام بقضية التصنيع شكَّل فيما مضى حافزًا قويًّا لدى المسلمين نحو العمل
والإبداع والتطور حتى كان لهم -في مرحلة زمنية معينة- قصب السبق في الميدان
الصناعي.
على أن تراجع المسلمين صناعيًّا
في العصور المتأخرة لا يعني عجزهم وعدم كفاءتهم عن مضارعة الدول الصناعية؛
فالمسلمون يملكون الإمكانات البشرية والفكرية والمهاريَّة اللازمة لبلوغ ذلك، ولئن
كان دافع الصناعيين في العالم هو -على الأغلب- مادي، فأمامنا فرصة لكي نندفع نحو
التصنيع الإبداعي بدافع إضافي، وهو: الدافع الديني؛ إذ مِن نعمة الله علينا أن جعل
سعي المؤمن وعمله ونشاطه مدخورًا له عند ربه، يُؤجر عليه في الآخرة إذا ابتغى بذلك
نفع نفسه وعياله ومجتمعه.
وآخر دعوانا أن الحمد
لله رب العالمين.
المصدر: مجلة (منار
الإسلام) - عدد فبراير 2011م.
: "مَنْ بَاعَ عَيْبًا لَمْ يُبَيِّنْهُ لَمْ يَزَلْ فِي مَقْتٍ مِنَ
اللَّهِ وَلَمْ تَزَلِ الْمَلاَئِكَةُ تَلْعَنُهُ"[11].
: "ثَلاَثَةٌ لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ
يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ...، وَرَجُلٌ أَقَامَ سِلْعَتَهُ بَعْدَ
الْعَصْرِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ لَقَدْ أَعْطَيْتُ
بِهَا كَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ رَجُلٌ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ
ثَمَنًا قَلِيلاً)"[12]. وإنما خصّ النبي
وقت العصر؛ لأنه الوقت الذي يريد فيه البائع أن ينفق سلعته، فيفتري
الكذب ويستهين باسم الله، فيستهين الله به يوم القيامة.
: "مَنْ سَبَقَ إلى مَاءٍ لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ"[13]. وهذا حكم بالبراءة للمخترع، وبالصنعة للصانع والمبتكر.
: "أَعْطُوا الأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ"[14]. وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: "قَالَ اللَّهُ: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛
رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ،
وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتوفي مِنْهُ، وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ"[15].