في الطبيعة المعرفية للمجتمع المعاصر
في الطبيعة المعرفية للمجتمع المعاصر
نرى أن الحديث الشائع اليوم الواصف للنقلة النوعية الآخذة في الاعتمال والتجذر في واقع البشرية، بكونها نقلة إلى "مجتمع المعرفة"، حديث يخفي تحت لغة الشعار والابتهاج التقريظي بهذا التطور الكثير من الإشكالات والمآزق التي يجب الكشف عنها ونقدها.
وجوابا عن السؤال السابق نتأمل أولا التحليل الذي قدمه أشهر دعاة "مجتمع المعرفة" في الفكر الأميركي الراهن، أقصد بيتر دراكر الذي يستحضر تصنيفا قديما لأنماط المعرفة يختزلها في نوعين اثنين هما: معرفة نفسية، ومعرفة عملية.
وعند تحليله لمدلولهما لا ينسى دراكر أن يشير إلى أن المعرفة النفسية هي تلك التي تتأسس على اعتقاد أن الوظيفة الأساسية للعملية الفكرية هي معرفة النفس. ويستحضر مثالا عليها الفيلسوف اليوناني سقراط الذي كان -كما هو معلوم- شعار فلسفته هو حكمة معبد دلفي "اعرف نفسك بنفسك".
أما المعرفة العملية فيحددها دراكر بكونها تجعل "الغاية من المعرفة هي جعل مكتسبها فاعلا من خلال تمكينه من معرفة ماذا يقول وكيف يقول ما يعرف". ثم يضيف أن الرمز الفلسفي المعبر عن هذا الموقف هو "الذكي والمثقف بروتاغوراس".
ويبدو أن دراكر نسي أن يضيف لتوصيف بروتاغوراس صفة "السفسطائي الأكبر"! ونحن نقول: حسنًا فعل عندما جعل السفسطة البروتاغوراسية مرجعية لنمط المعرفة العملي الذي يراه مقدمة لنمط المعرفة الجديد، ونحن نوافقه على هذه الإحالة، وإن اختلفنا معه بشدة في موقفه التقريظي منها.
في تحليله لوجه الاختلاف بين النمط القديم للمعرفة والنمط الجديد يشير دراكر إلى أن فرديرك تايلور هو أفضل من يعبر عن "استخدام المعرفة في ميدان العمل"، قائلا عنه "قلائل هم الذين استطاعوا أن يؤثروا في التاريخ الثقافي أكثر مما فعله تايلور" ص 64. بل يصل دراكر إلى حد القول: "يُنظر إلى الثلاثة داروين وماركس وفرويد على أنهم هم الذين شكلوا العالم المعاصر. وإذا كانت توجد عدالة في هذا العالم فإنه ينبغي استبدال ماركس بتايلور".
لكن الذي يتغافل عنه دراكر في تقريظه المبالغ فيه لتايلور مبتدع طريقة العمل المتسلسل هو أن هذه الطريقة في العمل هي بالضبط تعطيل قدرة التفكير في العامل وجعله مجرد أداة. وقد حلل فلاسفة عديدون باقتدار وعمق أكبر مما فعل دراكر ظاهرة العمل المتسلسل، فأبصروا ما فيها من دلالة على تغييب للتفكير وتشييء للكائن الإنساني.
وأحيل هنا خاصة على المعالجة النقدية الهامة التي قدمها الفيلسوف الوجودي جون بول سارتر، والسوسيولوجي جورج فرديمان الذي رغم كونه لا يرفض طريقة العمل المتسلسل، بل يدافع عنها وعن ضرورتها، نراه بلور في كتابه "المشكلات الإنسانية لنظام الآلية في الصناعة" رؤية أكثر اتزانا وإدراكا لهذه الظاهرة، حيث يعترف بالخلل النفسي الكامن فيها، وإن انتقد بشدة المقاربة الأخلاقية لها.
لكننا لا نريد بما سبق اختزال نقدنا لنمط المعرفة الجديد في إبراز سلبيات أسلوب التنظيم التايلوري، بل إن الأمر أوسع وأخطر من مجرد طرائق لتنظيم وإدارة العمل؛ فنمط المعرفة الجديد الذي يختصر دراكر معناه في كونه "تطبيق المعرفة من أجل المعرفة" هو في حقيقته مسخ للعملية المعرفية ومقاصدها؛ حيث يختزلها في المعنى الإجرائي, وبالنظر إلى مجمل نظرية دعاة مجتمع المعرفة نرى أن نوعية المعرفة التي يعلي من شأنها هي المعرفة الأداتية المحصورة في تحقيق الإنتاجية.
وهي معرفة نراها ذات مدلول نفعي قصير الرؤية مفرغ من كل بعد قيمي وأخلاقي. وهذا ما نعتقد أنه المحدد الفعلي لطبيعة معرفة نمط "مجتمع المعرفة".
وهو مكمن إفلاس الثقافة في الزمن المعاصر. حيث يُختزل فعل التفكير في الإنتاج بمدلوله الاقتصادي، الأمر الذي يؤكد أن هذا النمط المعرفي الذي يتم التبشير به اليوم، قائم على رؤية اختزالية لمعنى المعرفة ولمعنى الإنسان على حد سواء، حيث يُختزلُ في "الإنسان/الجسد"، وتُختصر قصديةُ المعرفة في معرفة أداتية تُنصت إلى مطالب الجسد فحسب[1].