: تداعيات العولمة واقتصاد المعرفة على الطفوة التعليمية: (مدخل ال
: تداعيات العولمة واقتصاد المعرفة على الطفوة التعليمية: (مدخل النوعية والجودة)
تستند أطروحة التنمية من خلال المدخل التكنولوجي إلى المراهنة على أهمية التكنولوجيا في تغيير أساليب ونظم وفلسفة التعليم، حيث تراهن على تأثير التغير التكنولوجي على عمليات الإدارة والتمويل والتدريس وصنع القرار والسياسات التعليمية وأساليب التوجيه داخل المنظومة وخارجها في سوق العمل المتحولة هي أيضا، حيث تتجه تكنولوجيات الاتصال والمعلوماتية والإعلام الرقمية المتجددة إلى إدخال المنظومات التعليمية في جميع دول العالم في مرحلة حضارية انتقالية تجريبية تنقلها من عصر إلى عصر معيدة تشكيل جميع الأنساق الاجتماعية تشكيلا جديدا.
إن من أبرز آثار ثورة تكنولوجيا المعلومات على ثقافة التعليم، التراجع المتسارع لدور التلميذ أو الطالب التقليدي، وأساليب التعليم التلقينية، أي بداية نهاية التلميذ التابع والمنقاد إلى السلطة الفوقية للأستاذ والكتاب، وبدايات التخلص من حالة النمطية، والسكونية والطفيلية الحاجرة على ملكات تشغيل الدماغ والتفكير التحليلي النقدي فضلا عن التفكير المبادر الإبداعي.
إن هذه الوضعية تتطلب صحة نفسية وذهنية عالية، وهو ما يستوجب توافر استقلالية عالية وتحمل للمسؤولية وقوة في الشخصية وقدرة على اتخاذ القرار وامتلاكا لمرجعية الخيارات وإطلاقا للطاقة الذهنية في أعمال الاستكشاف والاستقصاء والتحليل والنقد والتدرب على حسن الإبحار في محيطات المعلومات وتحديد وجهة الاستكشاف المرغوبة وحسن إدارة الوقت، والتمتع بمهارات التعلم الذاتي والتعلم التفاعلي.
كما تفرض شبكة الإنترنت على المتعلم المعاصر النظر بصورة تحليلية وتوليفية شمولية إلى خارطة الفكر الإنساني، من خلال الروابط المنطقية ومنهجيات العرض ودقة التعبير وقدرا من النظرة متعددة الاختصاصات (15).
إن المتأمل لعالم الشغل الموروث عن العصر الصناعي يلاحظ طغيان النموذج التايلوري في تنظيم وإدارة عالم الشغل وفق النمط التنظيمي الهرمي الذي يشابهه التدرج الهرمي للمستويات التعليمية والإدارة التعليمية، وهذا المنطق يشدد على الفصل الشديد بين العمل المنتج والعمل غير المنتج، وفق المنظور المادي لنظرية القيمة.
لكن مع تغير بنية الإنتاج الصناعي من بنية متمركزة حول الإنسان الذي يشغل آلة صماء إلى إنسان متفاعل مع آلة تفاعلية بدورها من خلال شبكات المعلوماتية والنظم المعلوماتية الخبيرة، ومنه تزايد أهمية التنظيم الشبكي للإدارة والإنتاج والتوزيع والتسويق والتمويل وإدارة الأزمات والمخاطر وتزايد عملية الفصل بين العمالة المتخصصة والعمالة غير المتخصصة حيث يتزايد تعذر إمكانية تغيير العامل بعامل آخر نظر للتخصص الفائق الذي تتطلبه مختلف العمليات الإنتاجية التي لم تعد تمكن من الاستبدال السهل لعامل بعامل آخر لأن المهام أصبحت تقتضي مهارات إبداعية إبتكارية غير المهارات التكرارية الروتينية التي ميزت عمالة الأمس.
كما يجري التحول في عالم الاقتصاد من اقتصاد مصدر للقيمة المضافة فيه هي عضلات الإنسان والموارد الطبيعية والمالية إلى اقتصاد يقوم على مصدر قيمة لا مادي، أي معرفي،معلوماتي، ذهني، خيالي. مما يتطلب مرونة لدى الخريجين للتكيف مع أشكال ونظم ومهارات العمل.
إن العولمة لها علاقة بظهور مجتمع الخدمات مجتمع اقتصاد المعرفة ومجتمع المعلومات، والمجتمع ما بعد الصناعي أو الفائق التصنيع، أحدث ويحدث قطيعة مع نظم ألفناها ومهن ومسارات ترقية تتميز بالاستقرار والرتابة، فالاختراعات تتسارع والتطوير في التقنيات تترى أجيالها، مع تناقص لكلفتها وإمكانات تسويقها، وتحول للتقنية من تقنية نخبوية على تقنية جماهيرية.
كما أن الشركات أصبحت تصرف المزيد من ميزانياتها على التدريب المستمر للعاملين وتكييفهم لتحولات التقنيات وأساليب العمل والإدارة وتوجهات أسواق الإنتاج والعمل والتوزيع، كما تبرم عقود التكوين حسب الطلب مع جامعات متخصصة، بل تمول بميزانياتها ميزانيات جامعات ومدارس تابعة لها.
يتوقع أن يمر الإنسان المنتج مستقبلا فيما بين 4 إلى 6 تحولات مهنية خلال حياته المنتجة فالإنسان المنتج لن يكون كراكب القطار يبدأ من نقطة الانطلاق ويصل إلى خط النهاية عند سن التقاعد مارا بعدة محطات حياتية، بل سيتحول حاله إلى راكب ميترو يركب ثم ينزل بعدة محطات حتى يصل إلى التقاعد، إن القاعدة هي التبديل الدوري في الوظائف والأعمال والمناطق وليس استقرارها ومن ثمة فإن مرونة اكتساب المهارات الجديدة أصبحت مفتاحا لإنسان المستقبل.
إن ما أهم إفرارزات العولمة على الصعيد العلمي هو بروز مهن ذات تخصصات ترتبط بالمعرفة بالغة الدقة ويتجلى ذلك في المهن التالية:
الأولى كمهن: مهندس المعلومات، مهندس الذكاء الاصطناعي، مهندس التقنيات الحيوية مهندس تقنيات الليزر أو التقنيات الطبية، مهندس الروبوتات، مهندس البيئة، مدراء خدمات المعلومات.
أما الثانية: كتلك المهن التي تجمع بين التقنية والإدارة والاقتصاد والمال والاجتماع وعلوم السلوك والإعلام والسياسة مثل: مهن الاستراتيجيات المالية، استراتيجيات السوق بمتغيراتها المتزايدة العدد والتفاعلات وتعقيداتها وصولا إلى تكوين الرؤى واتخاذ القرارات في عالم متفاعل الأسواق والمساهمين والمستهلكين.
إنها بيئة عمل تتميز بالتنافسية الشديدة، وحرب المعايير الاجتماعية والاقتصادية والتأهيلية المستعرة والمتزايدة فيها يتعلق بنوعية وكلفة المنتجات والخدمات مع ما تتطلبه من تطوير مهارات تعليمية وخبرات مهنية، ومنه فقدان أعلى المهارات لفرص العمل بسبب تضخم أعداد الخبرات عالميا وانفتاح أسواق العمالة وانهيار الحدود الوطنية جمركيا، وهشاشة إجراءات حماية العمالة الوطنية.
لقد انتهى عهد الرعاية التي توفر الضمانات الوظيفية الدائمة والمداخيل المستقرة و التقديمات الاجتماعية والصحية والتربوية المغرية، فالشركات الكبرى أصبحت تستقطب عمالة متعددة الجنسية بمختلف أشكال التعاقد عبر التوظيف الخارجي وبواسطة عقود بالبريد الإلكتروني لإنجاز الأعمال إلكترونيا وتحويل أموالا الأجور إلكترونيا أيضا بمعزل عن تدخل السلطات الحكومية.
إنها علاقات عمل يتلاشى فيه العنصر الإنساني، ويصبح التعامل عبر الآلة للتعاقد وللترقية ودفع الأجر والتسريح فلا قوانين عمل تقدم ضمانات دائمة للعمالة، مما يثير لدى الإنسان العامل شعورا متزايدا بالاستفراد أمام آلة السوق وقوانينها المتوحشة أحيانا كثيرة.
فالبطالة تصبح واقعا فعليا واحتمالا يواجه الطبقة الشغيلة ويزيد من قلقها على المستقبل ومن صعوبة تخطيط الحياة العادية وعدم القدرة على تلبية مستلزمات الحياة اليومية بسهولة بمداخيل منتظمة، إذ أن خزان من البطالين ضروري لإدارة اقتصاد العولمة لتجويد الإنجاز وارتفاع الخبرات والمهارات وقلة الكلفة والقبول بشروط عمل أقل تطلبا من حيث التقديمات والضمانات.
إضافة إلى زوال بعض مهن الوسطاء كالتوزيع والتسويق والمبيعات التي أصبحت بدورها تتم عبر الإنترنت وسوق الإعلانات والمبيعات المباشرة دون الحاجة لوسطاء (سوق الاقتصاد الإلكتروني والمنافسة للوسطاء) (16).
مع العولمة الجارية للأنشطة والعمال واجتياح الثورة المعلوماتية يزداد التركيز على الموارد البشرية ذات المستويات والمهارات الفنية العالية لتلبية احتياجات الوظائف في مجال الخدمات وصناعة المعلومات والإنتاج كثيف المعرفة.
لقد أصبحت الميزة التنافسية النسبية لأية دولة أو أمة تقاس بنسبة المعرفة من الناتج القومي الخام، كمعيار للتقدم ونجاح البرامج التنموية، ومنه أصبحت منظومة التعليم وخاصة مؤسسات التعليم العالي تخضع للمعايير المنتشرة في سوق العمل مثل الربحية والتنافسية والجودة، متخلية عن وظيفتها الأساسية المعهودة وهي التربيــة والتثقيف ونقل التراث وإعادة إنتـــاج الأنمـــاط الاجتماعية السائدة