الثأر والمرض النفسي
الثــأر FEUD.
الثأر "دافع يلزم بالقصاص والانتقام بين جماعتين ،اعتدت إحداهما على الأخرى ،وقد عرف فى شعوب كثيرة قديمة وحديثة،وكان عرب الجاهلية يحرصون عليه حرصا شديدا ،ولهم فيه وقائع وأيام مشهودة،وكانوا يحرمون أنفسهم الطيبات إلى أن يأخذوا بثأرهم .
وصاحب الثأر هو القريب الأقرب ،فإن مات قبل أن ينال ثأره يضطلع بهذا الواجب من يليه فى القرابة.
ولا يزال طلب الثأر واجبا تلتزم به القبائل والعشائر فى العالم العربي جميعه ،وله شأن ملحوظ فى صعيد مصر ،حيث يحتفظ النظام العشائري بشيء من قوته، ويمتاز نظام الثأر بخصائص أهمها أنه نظام جماعي يتحقق بين قبيلتين أو عشيرتين ،وفيه ما يدل على تماسك كل واحدة منهما وشعور كل فرد فيها بالواجب المشترك ،وأوضح ما يكون ذلك حين تكون وحدة القرابة أحادية السلالة ،فالاعتداء على فرد من أفراد هذه الجماعة يعتبر موجها إلى أفرادها جميعا ويلتزمون بالثأر له وينسون فى سبيل ذلك خصومتهم الداخلية.
والأصل فى نظام الأخذ بالثأر ،أنه يتجه إلى العشيرة كلها التي ينتمي إليها الجاني،لا إلى الجاني وحده ،فهو يقوم على نظام المسئولية الجماعية."
تشترك ظاهرة الثأر مع ظاهرتين أخريين وهما القصاص، والانتقام ، فهم جميعهم يشتركوا فى كونهم سلوكيات عدوانية.
فالقصاص كسلوك يشير إلى اتجاه ما فى علاقة العدوان بين الأفراد ، فالقصاص حق مشروع للمعتدى عليه ،يلزم المجتمع بالاقتصاص له من المعتدى، وأساس السلوك فى "القصاص" هو تكافؤ الضرر وحماية المعتدى من تجاوز المعتدى عليه لحدوده ،فى رده لحقه منه وضمانا للمعتدى عليه من رد كل حقه من المعتدى.
فالقصاص هو تنظيم اجتماعي يأخذ شكل القانون وتقوم السلطة بتنفيذه فيما يخص علاقة الاعتداء بين الأفراد، وأهم أسس القصاص كسر العلاقة التي تنشأ بين فردين بتدخل السلطة بينهما بحيث تعبر الاعتداء الواقع على فرد ما هو اعتداء عليها وبحيث تعتبر نفسها مقدرة الحق المراد رده منفذته الوحيدة.
أما الثأر فهو فصل المعتدى عليه فى رد حقه الذي قرره بنفسه وبوسائله الخاصة ،ورفض تدخل سلطة المجتمع فى علاقته بالمعتدى، ولذلك يعتبر الثأر قصاصا فى إطار من الانعزال عن السلطة العامة ،وفى إطار من الفردية بمعناها المجرد أي بمعنى القانون الذي يسنه صاحب الحق لنفسه ، والفرق بين القصاص والثأر يكمن فى مصدر التشريع وسلطة التنفيذ وليس فى مبدأ رد الحق.
أما الانتقام : فهو مفهوم يتسع للثأر ولأفعال عدائية أخرى لا علاقة لها بالثأر ، وهو عدوان غير محدد بهدفه أو بمداه أو بمادته أي عدوان غير متكافئ ،بينما الثأر عدوان محدد بهدفه وهو قتل إنسان فى مقابل إنسان قتل سابقا ،ومحدود بمداه وهو قتل شخص فى مقابل شخص ،أما الانتقام فهو قد يوجه إلى موضوعات مادية أو معنوية أو بشرية مما يجعله فى وضع خاص من القانون، وعلى ذلك فالانتقام غير ملتزم بمبدأ التكافؤ بين الضرر والأضرار.
وكل من الثأر والانتقام والقصاص سلوكيات ناتجة من العدوان ،فالانتقام والقصاص مشاعر شائعة فى الإنسان باختلاف حضاراته ورقيه باختلاف سنه وثقافته ، أما الثأر فيقتصر على فئات بعينها وثقافات بعينها وحضارات بعينها .
التطور التاريخي للثأر:
من المعروف أن الثأر كسلوك ينشط فى المجتمعات القبلية التي تلعب فيها روابط القرابة والعصبية دورا هاما ،فالمجتمعات الزراعية التي يقوم نظام الإنتاج فيها على أساس الأسرة وليس العائلة ،وعلى أساس قرابة الجوار وليس قرابة الدم يقل فيها سلوك الثأر بشكل ملحوظ.
على حين يزداد سلوك الثأر فى المجتمعات التي تتصف بالرعي والصيد ،وما يترتب من قيام الإنتاج على أساس العائلة وقرابة الدم.
فالثأر نظام دخيل على مصر الزراعية مستورد إليها من مجتمعات قبلية فليس فى التاريخ الفرعوني أي دلائل تشير على وجود نظام الثأر كما أن كل معالم تاريخ مصر خالية من دليل مقنع على وجود ظاهرة الثأر منه إلى أن جاء الفتح العربي لمصر ،ويرجع تاريخ الثأر فى مصر إلى ما بعد الفتح العربي .
ويؤكد أن العرب هم من أدخلوا الثأر كنظام فى مصر ما نجده من تطابق قوانين الثأر فى بلدان خضعت للحكم العربي فترة ،فالثأر فى شمال أفريقيا مطابق للثأر فى ريف مصر وصعيد مصر ذلك بالإضافة إلى أن الثأر فى مصر له شروط فى نظام الفندتا فى كورسيكا،.
والثأر سلوك له طابع خاص وهو ظاهرة فى مجتمع لا يقبلها بحكم أسسه البنائية ،ولكنها قاومت نفوره لقوة خاصة تحكمها ،وربما كانت تلك القوة هي حاجة المجتمع فى فترات تفككه إلى تصريف طاقاته بنظام خاص عندما ينتقد نظامه العام فالثأر كنظام خاص لتصريف العدوان ينتشر فى المناطق والفترات التي تضعف فيها سلطة الدولة وتقل فاعلية نظام القصاص كقانون منفذ من السلطة.
وتدل إحصاءات الجريمة فى مصر أن الثأر ينتشر فى ريف مصر أكثر من انتشاره فى مدنها ،كما أن انتشاره فى جنوبها أكثر من انتشاره فى شمالها ،وذلك بالإضافة إلى انتشاره فى القرى المنعزلة إداريا أكثر من انتشاره فى القرى ذات الاتصالات الخارجية.
وينتشر الثأر فى المجتمعات المغلقة والتي تعتمد فى علاقتها على النظام القبلي ،والتي لا يكون للفرد فيها قيمة إلا فى جماعته المرتبطة بها بعلاقة دم ،وذلك يعنى أن الثأر ظاهرة تنتشر فى تلك القرى التي يحصل الفرد فيها على قيمته من قيمة بدنته وعشيرته ،ثم يلاحظ كذلك أن تلك القرى تكون فى وضعها الإداري بعيدة عن النفوذ الفعلي للدولة والرقابة القانونية والتنفيذية.
اللغة الاجتماعية لقانون الثأر.
يدل المثل القائل (المعركة بدنان والدم بيوت) على وصف قاعدة الثأر الاجتماعية وهى أن الثأر يخص بيوت فلا يجوز لشخص من بيت أخر أن يأخذ بثأر بيت ما .
ولكن تقوم البدنه بدور من يحمى ويساعد ويعضد صاحب الثأر فى أخذ ثأره ، ووراء هذا القانون يقف نظام القرابة ،فعند قتل شخص من عائلة تنتمي إلى بدنة تشعر العائلة بالخسارة وتطلب التعويض ،وفى هذه الحالة تكون البدنة التي تنتمي إليها العائلة فى حالة مشاركة فعلية ومستعدة لمؤازرة إذا منع صاحب الثأر من ثأره ،كما أن البدنة المعتدية تكون مستعدة بنفس الأسلوب ،.
وعلى ذلك نجد أن قانون الثأر هو نفسه قانون القرابة ومطابق للنظام الطوبغرافى الاجتماعي النفسي ،وهذا ما يجعل الثأر ظاهرة قابلة للاتساع من نقطة مركزية إلى محيطات تزداد مدى مع استمرار طلب الرد ،بحيث قد تتحد بدنات مجاورة ضد بدنات أخرى لتعتبر أن المعركة معركتها هي أيضا و أحيانا ما تكون البدنة المجاورة بدنة مسيحية /مما يشير إلى ما وراء فكرة القرابة من مصالح مادية.
ويتضمن الجزء الثاني من القانون على التكافؤ،فقتيل بقتيل دون اعتبار للمركز أو للمكانة عدا فى حالة واحدة هي قتل رب الأسرة أو شيخ البدنة ،فقتل رب الأسرة لا يعادله قتل رجل من الأسرة المعتدية بل عدد من الأشخاص .
وفى حقيقة الأمر أن مبدأ التكافؤ محير من حيث شكله فالثأر هو تكافؤ الضرر ،بحيث ينتهي إذن تكافؤ عدد القتلى من الطرفين ،ورغم ذلك فعلاقات الثأر لا تنتهي لأسباب وهى:
1-لاستمرار العدوان بصورة ممكنة فى أي وقت مما يؤدى إلى تجدد الثأر بعدد تكافؤ العدد.
2- أن انضمام بدنات (أسر) لبعضها ضد أخرى يجعل التكافؤ مستحيلا إذ قد يتساوى القتلى أجمالا ولكنه لا يتساوى تفصيلا.
3- أن تدخل الحكومة فى علاقة ثأر قد تجعل التساوي أمرا صعبا نظرا إلى أن الثأر هو قصاص خارج حدود المجتمع .
القانون السيكولوجي لسلوك الثأر.
من الملاحظ أن العدوان الممارس فى الثأر هو عدوان بين أقارب ،إلا أن المظهر الخارجي له له بالأهمية بمكان لا يغفل، فحدود الوحدة القرابية تتجه إلى الداخل باستمرار فى شقها النفسي وتتجه إلى الخارج فى شقها الاجتماعي ، ويتضح ذلك من المثل الشعبي السائد (المعركة بدنات والدم بيوت ) ،ومثل أخر (أنا وأخويا على ولد عمى ،وأنا وأبن عمى على الغريب)
أن القانون النفسي للثأر مطابق فى شكله للقانون الاجتماعي ،ولكنه مضاد له فى حركته ،فالأرض فى مجتمع الثأر ذو قيمة اقتصادية بالغة ترتفع من أهميتها للشخص حيث تدفعه مصالحه الاقتصادية إلى المصاهرة والتحالف مع أسر (بدنات) أخرى وإلى جانب ذلك نجد أن الأرض ليست مجرد مكان يزرع ويسكن بل هي أرض محملة بالتقاليد والتراث تدفع الشخص إلى معاداة معنوية (لأسر)بدانات أخرى ،ولو كان ذلك على حساب المصالح الاقتصادية ،لذلك نجد أن الأرض قد تؤدى فى شكلها الاقتصادي الاجتماعي دور الحافز على الحياة ،وتؤدى فى شكلها المعنوي النفسي دور المحرض على الموت.
فالفرد فى مجتمع الثأر لا قيمة له فى ذاته بل قيمته مستمدة من بدنته (قبيلته) ،ورغم ذلك يبدو أن الإهانة البسيطة الموجه إليه تدفع بدنته كلها إلى ردها ، وهذا يوضح أن التناقض فى الثأر يتميز بأنه تناقض له اتجاه رأسي وأخر أفقي .
ففي الاتجاه الرأسي نجد أن الفرد له قيمة البدنة (القبيلة) كلها والمساس به وحده مساس بالبدنة كلها والمتحالف معها.
أما فى الاتجاه الأفقي فنجد أن القيمة متشاركة فى الجميع ،دون تمييز والمساس بالقبيلة (البدنة) مساس بالأفراد كل على حده وبقدر متساوي
ويتلخص قانون الثأر من الوجهة السيكولوجية فى الآتي:
1-رجل برجل .
2-اعتداء على رجل هو اعتداء على قبيلته.
3-لا ثأر من طفل أو امرأة .
4-الثأر بين (القبائل)البدنات وليس داخل البدنة الأبوية الواحدة.
ونخرج من ذلك أن الثأر نظام اجتماعي ينظم علاقة العدوان بين أفراد القبيلة الواحدة فى المجتمع الزراعي المغلق ذي الشكل القبلي ،حين يكون قانون المجتمع المفتوح ضعيفا .
وأساس هذا النظام هو تفريغ العدوان فى اتجاه معاكس لحقيقته ،فالعدوان متجه إلى الخارج لمنع انصرافه إلى الداخل ،يتجه من الفرد إلى الجماعة منحصر فى الرجل دون المرأة ينصرف إلى الغريب دون الشقيق مستفحش إذا اتجه إلى الأب وانقلاب
العدوان واضح فى علاقة الثأر بالمرأة ،فأي شئ كاف لاستثارة الثأر عدا المرأة ،إذ يقع الإغفال عليها تماما ،فالمرأة فى مجتمع الثأر موضوع مزدوج الوظيفة ،أن وظيفتها الرسمية تكاد أن تكون معدومة ،إذ لا سلطة لها إطلاقا إلا على أولادها ،ولكن مادامت سلطتها ممارسة على الأبناء فهي فى النهاية السلطة الفعلية فى المجتمع ،إذ أن كل أب هو أبن لامرأة.
أن الرجل فى مجتمع الثأر شخص يستمد اعتباره من رب الأسرة الذي يعطى (القبيلة) اعتبارها العام ويخضع الشخص للعلاقة الأبوية خضوعا تاما بحيث يصبح حقه فى مكانته منحة من ممتلك كل شئ (الأب) ،ويقابل حصول الأب على هذه السلطة فقدان الأم لها تماما من حيث الشكل لذلك كانت المرأة فى مجتمع الثأر شخصا لا اعتبار له ،وليست لها سلطة إلا على الأبناء وزوجات الأولاد .
ذلك بالإضافة إلى أن تلك العلاقات لا تسمح بالنزعات الفردية فى التنافس والعدوان ،بل توقعها تحت تحريم شديد وتوجهها إلى الخارج ،فبدلا من أن يتنافس الاخوة فإن المجتمع ينقل التنافس إلى بدائل هم أولاد عمومتهم .
وهذا ما يتماشى مع الاتجاه المعكوس لعلاقة الثأر ،أن الموضوع الأول للعدوان والتنافس فى إطار الملكية المطلقة هو الأب ثم الأخ ،ولكنه فى حالة التنفيذ يقع كل التحريم على الأب ،ويقع كل المنع على الأخ ،لذا كان الثأر عدوان موجه إلى الأب والاخوة يستبدل بأب وأخوة آخرين
فالثأر تقنين لعلاقة العدوان ضد الأب فى المستوى السادي وذلك بإبدال الأب بمثيله (العم) والشقيق بمكافئه (الأخ) ، أن الرغبة السائدة فى المجتمع الثأري هي المرأة والفعل هو منافسة ممتلكاتها عليها ولكن هذه الخصائص تمتزج امتزاجا خاصا هو نفى كل تلك الصفات والتمسك بنقيضها ،فالعداء لا يوجه أبدا إلى الأب ولا إلى الشقيق ،والتنافس لا يكون أبدا على المرأة .
أن الثأر هو صراع على بديل الأم وهو الأرض ،وعلى الأشكال المادية لمصادر الإنتاج بعد تغليفها بشحنات وجدانية عالية التقاليد والقيم ) .