الرمزية من منظور التحليل النفسى
الرمزية من منظور التحليل النفسى
د. آمال النور حامد
إن الرمزية من منظور التحليل النفسى بمعناها الواسع "هى أسلوب من التصوير غير المباشر والمجازى لفكرة أو صراع أو رغبة لا واعية، بهذا المعنى يمكننا عد كل تكوين بديل رمزى. ووفقاً لهذا التعريف يجوز عد ممارسة الزار تعبيراً رمزياً لرغبات أو مأزم معين، يرتبط في ذهن المريضة الممارسة بذكريات كامنة في اللاوعى لديها، كما قد تكون نتاج حتمية ترابطية تجسد حدثاً يرتبط بمسببات المرض. فالرمز هنا رغم تجليه عنصراً أبكماً لاواعياً. لا يستطيع المرء صياغة تداعياته ويحيله الى حقل المرمز "حقل الهوامات" بتعبير فرويد، أو "حقل النماذج الأثرية لـ اللاوعى الجماعى" بتعبير يونج.
يرى فرويد في الرمز تمثيلاً لمواد مكبوتة لاشعورية في العادة، فالحلم ليس سوى تعبير أو نزعة لم يتم الإفصاح عنها. وعد بعض أنماط السلوك (زلة اللسان، والتماهى، والتسامى) رموزاً لامور يريد المريض التستر عليها. فلعل الممارسة الطقسية تمثل من هذا المنطلق أموراً مكبوتة يتم التعبير عنها في التماهى والتسامى من خلال الهروب والرقص التعبيرى والحركات الوجدانية، التى ربما تشير الى حالات نفسية فاعلة.
ويؤيد يونج من جانبه فرويد في كون للأحلام رموز ولكنه يعطى من جانبه للأحلام مضامين ليست بالضرورة أن تكون جنسية. فالأحلام في رأي يونج تمثل الحياة الاجتماعية للجماعة، ويرجعها من ثم الى اللاوعى الجماعى معرفاً الرمز بوصفه "مصطلحاً أو اسماً أو صورةً يمكن أن تكون مألوفة في الحياة اليومية، وتتميز بمعنى ضمنى الى جانب معناها الواضح المباشر، وينطوي على أشياء مبهمة غير معروفة أو مخفية. فالمعنى الضمنى يعنى أن للصورة أو الكلمة مظهراً لاواعياً يصعب تعريفه أو شرحه بدقة ... وحينما يحاول العقل استكشافه يقوده ذلك الى أفكار خارج حدود العقل" ويؤكد يونج أن هناك ادراكاً واعياً ولاواعياً للواقع. فالتعامل مع ظاهرة حقيقية (أصوات، منظر الخ.) يمكننا من ترجمة الظاهرة من عالم الواقع الى عالم العقل، وتتحول في العقل الى أحداث نفسية، طبيعتها النهائية غير معروفة طالما أن النفس لا تدرك مادتها النفسانية. بالتالي فإن كل تجربة تحتوى على عدد غير محد من العوامل غير المعروفة.
ويقسم يونج الرموز الى نوعين: طبيعية وثقافية، الطبيعية منها هى التى تستمد من مشتقات اللاوعي، وتمثل عدداً من الأنماط البدائية وتصوراتها؛ والثقافية منها هى التى تستخدم لتعبر عن الحقائق الأزلية، وهى التى لازالت تستخدم في معظم الديانات، والتى تم اخضاعها لتحولات كثيرة لتغدو خيالات جماعية تتقبلها المجتمعات المتحضرة، وتثير عاطفة عميقة لدى بعض الأفراد وتعد عاملاً نفسانياً. هذا ويعد يونج النوع الأخير هذا مهماً للبناء العقلى ويؤدي كبتها أو اهمالها الى اختفاء طاقتها في اللاوعي حيث تنشط وتزدهر وتتكثف بشدة لتجد تجلياً لها في الرغبات أو في الميول اللاواعية، التى قد تجد فرصة للتعبير عن نفسها أو الخمود. إن هذه الميول هى التى تشكل وجوداً دائماً وكامناً ومدمراً (الظل) للعقل الواعى. وهذه الأخيرة يمكن في حالة كبتها وعدم اتاحة الفرصة لها لممارسة تأثير ايجابى أن تتحول الى شياطين. ولعل الممارسة الطقوسية للزار تمثل شكلاً من أشكال اتاحة الفرصة لتفريغ تلك الميول، وهو ما اصطلح يونج على تسميته "القنوات الانسيابية للطاقة energy canalisation". وفي هذا الصدد يرى كالفن وآخرون أن الرمز بالنسبة لـ يونج هو أكثر من مجرد اخفاء أو خداع للرمز، فالرموز هى تحولات لدوافع بدائية، إنها قنوات انسيابية لتفريغ الغرائز اللبيدية بقيم روحية وثقافية. فالرقص، مثلاً، ليس بديلاً لنشاط جنسى بل يعنى شيئاً أكثر من ذلك
فرق ارنست جونز بين الرمزية بمعناها الواسع والذى يمكن أن يعنى، في تصوره، كل التطور الثقافي؛ وبين الرمزية الحقيقية التى تنهض على أساس صراع نفسي تبادلي بين النوازع الكامنة والنوازع المكبوتة. ما يتم كبته هو ما يتخذ لنفسه شكلاً رمزياً، وهو الذى يحتاج الى ترميز. والترميز عملية لاشعورية تشير الى أن ما تم كبته يظل خارج اطار التسامي. فالبدائل الباقية في الحلم والأعراض المرضية هى أمثلة لكيفية صياغة الرمز. ولا تفهم الرمزية الحقيقية بالرجوع الى النواميس والتقاليد الاجتماعية بل في ضوء تجربة الشخص نفسه .
ويحاول هليجارد تبيان الفرق بين الإثارة الرمزية والإثارة العادية. فالإثارة الرمزية ينتج عنها، في اعتقاده، استجابات ملائمة لإثارات أخرى لا تنتمى إليها بصلة (مثل كلمة السم التى ترمز للخطر الذى نفهمه بالمعنى ولا يوجد في الكلمة). وقد قسم هليجارد المعنى الرمزى الى فئتين: معنى ذو دلالة وهو الذى يحدد شيئاً ما يمكن الاشارة إليه؛ ومعان تحتوى على مضمون إضافي وهى التى ترافق المعنى الدلالي لكثير من الكلمات التى تتضمن معان عاطفية تستخدم عموماً للتعبير عن نوع من التقييم أو الأفضلية وتختلف من فرد الى آخر. واستخدم هليجارد قياس التفاضل السيمانطيقى ، ووجد أن المعنى الإضافي يستخدم وفقاً لأبعاد ثلاثة: بعد تقييمى، وبعد نشاطي، وبعد للقوة. هكذا يمكن للرمز، وفقاً لهليجارد، أن يحمل معاني إضافية خلافاً لمعناه المباشر، وهو معنى له أبعاده التى يمكن تفسيره على ضوئها من حيث القيمة والنشاط والقوة.
ويرى بعض العلماء النفسيين أن هناك إمكانية للترميز من خلال حركة الجسم التى يتم تخزينها في سنوات الطفولة الأولى، تجريةً قد تطفو الى السطح من غياهب اللاوعي وتشاهد في حركة الجسد، وهى ترمز لما عرف فقط جسدياً، رغم صعوبة اخضاعها للتحليل. من أهم هؤلاء العلماء كان كلاين، وويني كوت، وميلنر والذين قاموا بوصف المظهر الجسمي لعملية خلق الرمز الذى يسهم بدوره في نمو الأنا وتكامله . فقد أشار كلاين الى أن السعة التواصلية للترميز تبدأ في التكون من خلال الاحتكاكات وعلاقة الطفل بأمه وبجسمه. فالخيالات التى يحسها البدن في تلك الفترة هى تمثيلات للغرائز الطبيعية. وأبان اولانوف أن يونج وأيضاً كلاين قد أكدا على القوة الكامنة في الخيال الطفلي التى تصاحب الطفل منذ مولده، ويعتقدان بأن جذور الحياة النفسية تغرس في التجربة الجسمية.
أما ويني كوت فقد افترض أن الواقع الداخلي للطفل ينمو من خلال تعقدات الخيال غير المعقدة وذلك من خلال العلاقة بالجسم وأحاسيسه ووظائفه (الذات الجسمية). ورأى أن التدعيم المستمر للذات الجسمية يتم من خلال علاقة الطفل بأمه مما يساعد في خلق صورة جسمية آمنة لنمو احساس بالهُويَّة، كما وأشار ويني كوت الى أن هنالك عوامل كثيرة يبدو أنها تسهم في اكتساب القدرة على استخدام التعبير الرمزي والاحساس بالاحتواء والحماية مما يتيح الفرصة لتشكيل العالم الرمزي الذى تترابط فيه الصورة والاحساس والعواطف. ويقترح كوت في ذات السياق بأن الخوف من التمزق الذى يعاني منه الفرد البالغ هو خوف من النكوص لحالة التمزق وعدم التكامل التى مر بتجربتها لكونها تجربة تم حملها جسدياً في الذاكرة البدنية.
ركز سيجال على أن الرموز لا تمارس سيطرة على السعة التواصلية فحسب بل على التواصل مع الآخرين أيضاً، وتشكل أساس التفكير اللغوي سواء للسلوك الظاهر أو للتحويل أو لنتاجات اللاوعي مثل الأحلام والخيال النشط. فالتحليل في هذه الحالة يسعى لفهم المعنى الرمزي وتماثله مع البعد العاطفي للعقدة التى يراد تحليلها.
وافترض كل من نيوتن وردفيران بأن العلاقة بين الأنا والأنت التى تنمو بين الأم وابنها والاحتكاك بينهما هى بمثابة مرحلة تحضيرية لنمو العلاقة بين الأنا واللاوعي، بالتالي تمهد الأرضية لبروز النشاط الرمزي. بالنسبة للطفل الناشئ فإن السلوك والتجربة يتأثران ويتحددان بأفكار الأنماط البدائية.
تتميز طقوس الزار بالغموض والضبابية إذ أنها تنبنى على الاتصال الرمزي والسلوك المستتر للتعبير عن الصراع مع الأرواح (الأسياد). وكان وليام هاولز، عند دراسته للطقوس الشامانية، قد وصف ممارسات فيها قدر من التشابه بالممارسات المميزة للزار وذكر أن "السلوك الرمزي في ممارسات الشامانية يعد نوعاً من اكمال نسق الأفكار والرموز للموقف ذاته وهو ما يعنى سد الفجوة أو الثغرة في حياة هؤلاء الممارسين بما يمكن من القضاء على الوهم والهم والقلق الذى ينتاب حياة الممارسين" .
تبدأ الرمزية في طقوس الزار بقدسية الزمان حيث يتم طقس "قفل العلب" في 27 رجب من خلال احتفال يعرف بـ "الرجبية"(اشتقاقاً من شهر رجب) ويستمر التوقف عن ممارسة الزار الى ما بعد عيد رمضان، ويجري طقس "قفل العلب" عادة بمنزل شيخة الزار مع دعوة كافة مرضاها. أما قدسية المكان فتتجلى في التقليد السائد الخاص باقامة احتفالات الزار في أماكن محددة مثل منزل الشيخة أو منزل المريضة أو منزل إحدى صديقات المريضة شريطة أن تكون الصديقة من الممارسات للزار. هذا ويتم تزيين المكان بالكثير من الرموز الخاصة بالزار (نقوش آيات من القرآن، وبعض الرسومات المتنوعة الخ.).