الممارسة الطقسية سلوك تعبيري رمزي
الممارسة الطقسية سلوك تعبيري رمزي
التعبيرية الرمزية في اللغة الشائعة عملية ترجمة جوهر معين بجوهر آخر، يكون طابعه قابلاً للملاحظة. ويهمنا في هذه الورقة تعريف التعبير من منظور علم العادات والأخلاق. تشير موسوعة علم النفس الى أن النشاطات التعبيرية ايماءات، وطقوس، وأوضاع جسمية تسمى بالحركات التفريغية التى، وفق رولان دوران، "تمارس وظيفة الاشارة في اطار النشاطات الاجتماعية لجنس معين، وقد تُنظم هذه السلوكيات في أنظمة حقيقية تحمل دلالات متميزة، ويمكن بالتالي تحليلها رموزاً للاتصال ... من ثم يمكن عد السلوكيات التعبيرية وقائع اتصال غير كلامي، ويحلل الدور الذى تقوم به في مختلف أشكال تفاعل جماعة ما".
وتحمل الممارسة التعبيرية في طياتها أنماطاً مختلفة من الرمزية، كما يجوز عدها رموز اتصال غير ناطقة، فهناك اللون، واللحن، والايقاع، واللبس، والحركة، والأضحية، والمائدة (الميز في لغة الزار)، والحلى، وفرقة الزار بقيادة الشيخة المعالجة. وفي المنظور السيكولوجي العام فإن معظم المدارس تطلق، على حد تعبير رولان دوران وفرنسوا يارد، مصطلح التعبيرية الرمزية على "المظاهر القابلة للادراك في الانفعالات أو الحالات الداخلية الأخرى (ايماءات، واستعدادات جسمية، وبكاء، وصراخ، وارتجاف..الخ). وتوصف هذه التصرفات بحسبانها مؤشرات تعكس حالة إما عاطفية كامنة (توتر، احباط)، وإما سمة معينة للشخصية. هذا في حين أن علم النفس الترابطي يرى في التعبير الرمزي استجابة ناتجة عن إثارة نتيجة التقلصات العضلية المأمورة من قبل إثارات الجهاز العصبى، فحدة الانفعال قد تترجم بإثارة ذات حدة نسبية تنتج التقلص العضلي وبالتالي السلوك التعبيري" .
يهمنا هنا تحديداً التعبير الذى يتجلى عبر الحركات والانفعالات التى تتخذ من الجسد مسرحاً لها، وذلك من خلال ممارسة الرقص المصحوب بالايقاعات. ويقصد بالتعبير الجسدى "مجموعة تقنيات الجسد التى تكون بشكل عام جماعية وتستند الى فكرة. ومن المهم تحرير القوى والتصرفات المقموعة بفعل الضغط الاجتماعي، بخاصة الدين، والتى يفترض بأنها مخبأة في الجسد وهذه التقنيات نجد لها انتشاراً في الأوساط النفسية والعلاجية والتربوية" .
أكدت أبحاث كثيرة على أن أشكال التعبير عن الانفعالات هى ذات طبيعة شمولية، وأن الذى يتغير مع الثقافة هو فقط قواعد اطلاقها وإدارتها . ولقد برهن مورغان وآخرون على أن الفعل الخلاق الذى يحرك التعبير المطاوع للمرضى الفعليين يمكن أن يبلغ أحياناً مستوىً فنياً يثري التحقيقات في علم النفس المرضي، ويحث الاتجاه نحو الشفاء. كما أن أفكار الظواهريين والمحللين النفسانيين حول علاقة الفن بالحالة النفسية قد قادت الأطباء النفسيين وعلماء النفس الى تخصيص أماكن يستطيع فيها مرضاهم الاهتمام بالفنون . واستناداً على ما سبق يمكننا القول بأن الممارسة الحركية في الأجواء الاحتفالية لطقوس الزار هى تلك السلوكيات التى تحمل دلالة رمزية متميزة، ويمكن التعامل معها كوقائع اتصال غير كلامى، وتعكس حالة نفسية سواء من منظور علم العادات أو علم النفس الترابطي؛ أي، أن لها ارتباطات شرطية في ذهنية المريضة الممارسة، كما أنها قد تحمل معاني ضمنية ... إنها ليست صيحات انفعال أو حركات عشوائية صادرة فقط عن موجودات، بل هى هوامات حافلة بنسق رمزي ابتدعه كائن في مجال أوسع من مجال اللغة. ولعل عباس العقاد كان محقاً في قوله بأن "الفن تعبير نلحظ فيه البواعث قبل أن نلحظ فيه الغايات".. ويستطرد قائلاً "للحياة مظهران لا ينفصلان: تأثير من الخارج الى الداخل هو الحس، ورد من الداخل الى الخارج هو التعبير" . فالممارسة التعبيرية الراقصة الرمزية والاحساس بكل ما تحويه الأجواء الطقسية المادية المدعومة بالاعتقاد في هذه الممارسة وفاعليتها ويمكن عدها علائق نفس تحيل العوائق الى وسائط تحرر، واطلاق مخيلة الى حدود لانهائية.
أما إذا سلطنا المزيد من الأضواء على هذه التعبيرات وتنوعاتها فنجد بوتقة من التنوع الثقافى الاجتماعي، فهناك خيوط بنات الحبش، والأولياء الصالحين، والعرب، والنوبا، والتكاريير، والنصارى، والخواجة ... الخ. فالممارسة لها أشكالها التعبيرية المختلفة حيث نجد نماذج للتماهي والاحتماء بالأولياء الصالحين والتوحد مع شخوصهم والتدثر بملابسهم وتقمص أدوارهم ... أي على حد تعبير جان لابلانش وبونتاليس، "التماهي هو عملية نفسية يمثل بواسطتها مظاهر أو خصائص أو صفات شخص آخر، ويتحول كلياً تبعاً لنموذجه" . هكذا نجد المريضة الممارسة للزار تتماهى مع "لولية الحبشية" التى تجسد روح العاهرة في استباحتها للمحرم في تصرفاتها ... وتؤسس الممارسة في هذا الخيط قاعدة انتهاك المحرم والتحرر من الغرائز المكبوتة ... ممارسة يطفح بها الجسد في توسعه الى الخارج. ولعل ذلك يمثل الافلات من محتويات اللاوعى وسيطرة الأنا "عودة المكبوت". فالحركات في هذا الخيط تتسم بنوع من التعري والمجون والخلاعة، وتتميز موسيقاه وايقاعاته بالخفة التى تمنح المريضة الممارسة الفرصة للتعبير عن الكبت والحرمان الجنسى بافراغها لانفعالاتها من خلال الأجواء الأخاذة في مجتمع نسائى صرف، يساعد على تعطيل الضوابط الخلقية ويستبعد الاحساس بالاثم ... تتعطل "الأنا الأعلى" للمريضة الممارسة للزار لتحل محلها شخصية الشيخة المتسامحة، التى تبيح لها التخلص من القيود الاجتماعية والتزمت، حاثة لها باستعراض مفاتن جسدها وافراغ انفعالاتها بحرية كاملة، هكذا تندفع الممارسة في تدعيم احساسها بجسدها والتفكير فيه، محاولة التخلص من التسلط المفروض على هذا الجسد، أي، كما يقول عباس مكى: "كان جسد المرأة ولازال مادة غنية للتشريع وتحديد الممنوع والمسموح من تحركات الجسم وتعبيراته ومتطلباته، تبعاً لأنماط مقبولة اجتماعياً، أي، تبعاً لأنماط مصلحة المتسلط الذى يمتلك هذا الجسد" . والحقيقة أن خيط "لولية الحبشية" يقارب وصف مصطفى حجازي في قوله "عندما يفلت الجسد ويعبر عن طاقاته ورغباته بحرية يفلت الإنسان من التسلط والقهر".
كذلك نرى في طقوس الزار شكلاً من أشكال التماهي مع
المعتدي وهو ما ينعكس في تقمص المريضة الممارسة للأدوار السلطوية (الحكيمباشا،
والباشا، ومنليك ملك الحبشة، والخواجة .. الخ.) ففي هذا النوع من الخيوط تتسم
الحركات الراقصة بتعبيرات تعكس السلوكيات العنجهية لأمثال تلك الشخصيات السلطوية،
ويتجاوب الجمهور مع المريضة بالوقوف محيياً لها وهى تتحرك راقصة في استعلاء
وخيلاء. لا شك أن ممارسة هذا النوع من خيوط الزار ترتبط بفرضية الحرمان والتعويض،
التى تقوم على مبدأ أن التمييز الجنسي ضد النساء يولد الحاجة والقابلية للتعويض في
هذه الانفعالات والتقمص. وأن تمتع الرجال بالأدوار الاجتماعية الحياتية خارج نطاق
البيت - لا بدَّ أن يواكبه التعويض في الأدوار الطقسية عند النساء برفضهن دورهن
الأنثوى. إن التماهي بالمعتدي يتميز "بمحاكاة شخصية المعتدى وتبنى خصائصه،
وبمحاكاة عدوانه يحيل نفسه من الشخص موضع التهديد الى الشخص مصدر التهديد" . وتقارب خيوط الزار هذه طقوس الزولو، التى
وصفها ماكس كلوكمان، حيث تقوم المرأة بعكس أدوارها وتقوم بأعمال الرجال. ويفسر
كلوكمان ذلك بأنه تمرد مسموح به ومستباح، ويعبر عن التمرد والصراع والاحتجاج كما
سبقت الاشارة إليه .
ويمكن النظر الى ممارسة الزار سلوكاً دفاعياً لا شعورياً، يصبح شعورياً في لحظة
الممارسة التى تخدرها قوة الالحاح الايحائية، سلوكاً صادراً عن مكبوتات. ويعرف لابلانش
الكبت بأنه عمليةً يرمي الشخص من خلالها دفع التصورات (أفكار، وصور، وذكريات) المرتبطة
بالنزوة الى اللاوعى وأن يبقيها فيه . وللكبت أضرار منها انشطار الشخصية أو اللجوء لأساليب
ملتوية لتخفيف التوتر، وهو عملية غير اقتصادية فيها تبديد للطاقة .. إنه أحداث
مكبوتة مشحونة بانفعالات قوية تقسر الفرد على ضروب شاذة من السلوك الظاهر الصادر
بفعل عقد ومكبوتات. من خصائص السلوك المكبوت السلوك القهرى والاستحواذي وهما وجهان لعملة واحدة، أي، سلوك يحدث
رغم إرادة الفرد، وهو سلوك شاذ ورمزي ينجم عن كبت الدوافع والمنع من التعبير
الصريح؛ مما يجعل الفرد يلجأ للتعبير بصورة رمزية "لأن عملية الترميز تتيح
للمكبوت أن يتملص من الرقابة" .
ويلاحظ في الممارسة التعبيرية أنماطاً من السلوك العدواني بنوعيه: ايذاء الذات (المازوشية) وايذاء الآخرين (السادية)، وكان كرافت ايبنغ قد عرَّف السادية بأنها تطلق على الاحساس بلذة الحواس حتى الشبق، وهو احساس ناجم عن عمليات التحقير والاذلال والعقاب والقسوة التى تمارس على شخص آخر، كما تطلق هذه التسمية على القيام بأفعال تلائم هذه الرغبة. أما المازوشية فقد رأى فيها الوجه المعاكس، ففي حين تبقى السادية إحداث الألم والعنف فإن المازوشية تهدف الى تحمل الألم، وتصبو لأن تكون ضحية أعمال عنف، فالمازوشي تتسلط عليه فكرة أن يكون خاضعاً كلياً لإرادة كائن آخر، فكرة أن يُحسب فرداً حقيراً مهاناً. وفي حالة السادية والمازوشية تترافق هذه الصور بشعور النشوة، ويتغذى المصاب بأحد هذين المرضين بأحلامه هذه، وغالباً ما يسعى لتحقيقها، وقد يحدث أن يجتمع هذان الانحرافان لدى الشخص نفسه لدرجة يصعب معها تصنيف الحالة . في خيوط الزار نلاحظ نموذجاً لكل من السادية والمازوشية، ففي خيط الزرق، على سبيل المثال، نجد تجلياً للسلوك المازوشي، حيث تتسم حركات هذا الخيط بالعنف والقسوة وايذاء النفس، وتصاحبه أدوات تعبر عن طابعه المرتبط بالعنف تجلس المريضة أثناء الممارسة أرضاً جاثية على ركبتيها في وضع أشبه بالركوع، وتتمايل بعنف الى الأمام والى الوراء ويمنة ويسرة ضاربة كوعها الأيمن تارة والأيسر تارة أخرى بصخرة مطروحة أمامها . ومن أكثر رقصات هذا الخيط عنفاً رقصة "الغرزة"، حيث حتى يسيل الدم من الكوعين. كذلك من رقصات هذا الخيط رقصة تقوم فيها المريضة بضرب نفسها بسوط من الجلد، أو بحمل جمرات متقدة تقلبها في كفيها. وتعكس هذه الحركات في خيط الزرق معاناة المريضة الحادة، التى تبلغ بها درجة الحاق الأذى بنفسها بصورة مازوشية. أما في خيط نمر الكندو فنجد تجلياً للسلوك السادي حيث تتدثر المريضة بجلد النمر المتوحش، وتقوم بملاحقة الصغار الموجودين بالحفل وتعضهم. إن العدوان سواء على الذات أو على الآخرين هو استجابة، يرد بها المرء على الخيبة، والحرمان بمهاجمة مصدر الخيبة أو لعله عدوان يمثل اسقاطاً لغريزة الموت ، أوعدواناً تتجلى من خلاله "إرادة القوة والسيطرة على الغير" (آدلر). كما يجوز تفسيره بوصفه طاقة تنشد التفريغ الكامل للفيض الإثاري إحداثاً للتوازن .
ويُلاحظ في طقوس الزار شكلاً من أشكال التعبير عن
النرجسية ينعكس في الخيط المسمى بـ"خيط البنات" الذى تتميز بعض رقصاته
بطابع الرقصات الشعبية، التى تتسم حركاتها بالنظرة النرجسية من خلال معايشة
الممارسة، وهى ترقص لجسدها وذاتها، فالزار يتيح لها استعراض جمالها ورشاقتها
وملابسها وزينتها.. "إن أفكار الراقصة تتعدى التفكير في الجنس؛ إذ تحتاج الى
فضاء أكبر عند الرقص منه عند المشي، وبالتالي فإن اسقاط الذات في الفضاء يصبح أكثر
صعوبة، بحيث يؤدي الرقص الى تغيير صورة الجسم .. هذا التغيير يمثل في حد ذاته
هدفاً علاجياً" . وهناك في طقوس الزار من الممارسات ما يعكس الخوف من
المرض أو الموت، وهو ما يجد انعكاساً له في الخيط المسمى بخيط التربى ، فالمريضة التى تشكو من رؤية الأموات في أحلامها قد
ينتابها الخوف من الموت ... "فالخوف المرضي هو الخوف الذى يعتري المرء،
ويتبدى على صورة الخشية من الموت ورهبة الفناء".
إن الممارسة التعبيرية للزار تحتوى على عدد من الخيوط
المرتبط كل منها بمرض بعينه، من ثم فقد لاحظت أن بعض المريضات الممارسات يتوهمن
المرض ارتباطاً بالأعراض التى يصيب بها الخيط المحدد. قد يكون هذا، في اعتقادي،
نوع من توهم المرض الهجاسي hypochondria الذى هو ضرب من الوسواس الذى يستحوذ على
الإنسان، ويولد عنده قلقاً بالغاً على صحته بحيث يعتقد واهماً معاناة ألم أو مرض
معين، ويصل به الوهم درجة المبالغة في خطورة الألم أو المرض الوهمي، فهو موسوس
بالمرض .